الطلاق المحتوم: لأن إسرائيل لن تحتمل الجزيرة أكثر من ذلك
على الرغم من أن قناة الجزيرة تُعد أول قناة طبّعت مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي يظهر جليًا في وجود مكتب لها في القدس المحتلة فضلًا عن استضافتها لشخصيات عامة إسرائيلية أكثر من مرة، إلا أنه لا خلاف على الدور البارز الذي تلعبه في تغطية كافة الأحداث التي تتم على أرض فلسطين.
فقد مكنها تواجدها في القدس المحتلة من تغطية كل ما يجري على الأراضي الفلسطينية ورصد كافة الانتهاكات التي تمارسها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني ومقدساته. فخلال السنوات القليلة الماضية التي شهدت فيها القدس توترات جمّة نتيجة تصاعد احتجاجات الفلسطينيين ضد فرض السلطات الإسرائيلية إجراءات أمنية جديدة حول الحرم الشريف، استطاعت الجزيرة أن ترصد كافة الاشتباكات والاضطرابات العنيفة التي وقعت في محيط المسجد الأقصى بين المصلين والقوات الإسرائيلية، وعملت على تغطيتها بشكل مكثف، تغطيةً حيةً مباشرة، تمكنت من خلالها من الكشف عن انتهاكات الكيان الصهيوني صوتًا وصورة. هذا بالإضافة إلى استغلالها لأدواتها الإعلامية من أجل إحياء القضية الفلسطينية وإعادة كتابة التاريخ الفلسطيني، وذلك عبر تقاريرها وبرامجها الوثائقية.
ولكن رغم ذلك لم تتخذ إسرائيل طيلة الأعوام الماضية قرارًا جديًا بإغلاق مكتب الجزيرة لديها، كالذي أعلنه وزير الاتصالات الإسرائيلي «أيوب كرا» خلال مؤتمر صحفى له في القدس، الأحد الماضي، السادس من أغسطس/آب، إذ أعلن عن سلسلة من الخطوات الرامية الى إغلاق مكتب الجزيرة في إسرائيل، وسحب اعتماد صحفييها العاملين ووقف بثها هناك، وطالب الجهات المختصة بالقيام بما يعنيها لتطبيق القرار دون أن يحدد موعدًا لتنفيذه.
قطر وإسرائيل حين التقت مصالحهما
في هذا السياق، ربما يتبادر إلى الأذهان تساؤلات مهمة، إذا كانت قناة الجزيرة حقًا تكشف انتهاكات الاحتلال وتعمل على إحياء القضية الفلسطينية، فلماذا طبّعت قطر مع إسرائيل؟ ولماذا أنشأت مكتبًا لترسانتها الإعلامية في القدس المحتلة؟
لعل الإجابة تظهر شاخصة إذا عدنا إلى الوراء إلى عام 1995، عندما انقلب الأمير القطري «حمد بن خليفة آل ثاني» على أبيه. حينها أراد الأمير حمد أن يتبع سياسة جديدة تحظى قطر من خلالها بمكانة دولية، ففكر في إنشاء ترسانة إعلامية تتحدث باسم قطر وتعزز مكانتها دوليًا وإقليميًا. وبالفعل عمد إلى إنشاء قناة الجزيرة في hg من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1996، أي بعد سنة من توليه الحكم.
ولعل السبب الرئيسي وراء تدشين الجزيرة في ذلك الوقت هو رغبة الأمير حمد في أن تصبح الجزيرة منبرا ومنصة دولية يتم من خلالها التعبير بكل جرأة عن طموح القيادة القطرية الجديدة. وجاء تدشين قناة الجزيرة بعد بضعة شهور من افتتاح مكتب تمثيل المصالح الإسرائيلية في الدوحة، إذ كان ينظر الأمير حمد في ذلك الوقت إلى العلاقات مع إسرائيل على أنها بوابة نفاذه إلى القطب الأوحد في العالم.
لذا فإقامة علاقات مع إسرائيل انطلقت من حقيقتين، الأولى، أنه لا يستطيع منفردًا منافسة النفوذ السعودي في واشنطن، لذا فهو بحاجة لدولة صديقة للولايات المتحدة تدعمه في ذلك، والحقيقة الثانية، أنه من خلال إسرائيل يمكن إقناع واشنطن بإمكانية قيام قطر بدور وكيل لأعمالها في منطقة الخليج.
لذا فإن إنشاء مكتب لقناة الجزيرة في القدس المحتلة كان نوعًا من تطبيع العلاقات بين قطر وإسرائيل. ولعل ترحيب إسرائيل باستضافة مكتبٍ للجزيرة راجعٌ إلى أنها كانت ترغب في أن تظهر بصورة الدولة الديموقراطية التي تتقبل حرية الرأي والتعبير، حتى لو كان في ذلك تنديد لانتهاكاتها في حق الشعب الفلسطيني ومقدساته.
لماذا قرار الإغلاق في ذلك التوقيت؟
لعل «الديموقراطية» الإسرائيلية لها شروح أخرى غير التي نعرفها، فهي تتشكل باختلاف الظروف والأوقات والمصلحة كذلك، فإن كانت الجزيرة تثير الفتنة فلماذا لم تتحذ إسرائيل هذا القرار منذ المرة الأولى التي وجدت فيها الجزيرة تبرز انتهاكاتها صوتًا وصورةً، ولماذا أصبح لديمواقراطية إسرائيل «حدود» في ذلك التوقيت بالتحديد، هناك مجموعة من التفسيرات التي قد تكون مفيدة في هذا الإطار.
الأول، وهو ما جاء على لسان «أيوب كرا» بنفسه في المؤتمر الصحفي، إذ أشار إلى أن القرار استند إلى إغلاق دول عربية لمكاتب الجزيرة لديها وحظر عملها، وهي دول كما وصفها سُنية معتدلة، ترغب إسرائيل في عقد تحالفات وتحقيق شراكة اقتصادية معها على حد تعبيره، ولعل مؤشرات تلك الشراكة الاقتصادية بدأت تلوح في الأفق منذ الإعلان عن اتفاقية الأسلحة الأخيرة التي وقعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع السعودية في الرياض.
فبحسب ما ذكرته صحيفة «ذا ماركر» الإسرائيلية، إنه من المتوقع تعزيز عملية شراء الأسلحة السعودية لصناعة الأسلحة العالمية، فشركات السلاح الإسرائيلية -وفق ما ورد في الصحيفة- ستحصل على حصة كبيرة من أرباح صفقات السلاح السعودية الأمريكية، وكثير من الشركات المنتجة للسلاح في إسرائيل تعمل لدى مصانع الأسلحة الأمريكية التي ستمد السعودية بالسلاح المنصوص عليه في الصفقة .
الثاني، وهو أن إسرائيل قد تكون لجأت لهذا التصرف كنوع من التمهيد لمبادرة السلام الإسرائيلية، التي كشفت عن تفاصيلها صحيفة «جيروزاليم» مؤخرًا، فقد أشار كاتب المقال «أوفر إسرائيلي»، الخبير في الشؤون الجيوسياسية، أن هدف مبادرة السلام الإسرائيلية هو تحقيق حل شامل ومتعدد الأطراف للنزاع العربي- الإسرائيلي، بدلًا من حل ثنائي للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي ، لذا فحصول إسرائيل على موافقة الدول السنية على مبادرتها لن يكون إلا بإظهار استعدادها التام لقطع أي علاقات لا ترضى عنها دول الحصار. ولعل قرار الإغلاق هو شكل من أشكال ركوب الموجة لإثبات حسن النية وكسب دول الحصار إلى صفها لحين الإعلان عن مبادرتها بشكل رسمي.
قالها الناطق باسم حركة حماس «عبد اللطيف القانوع» في حديث خاص لوكالة «شهاب»
وثالثًا، ربما تكون إسرائيل قد استاءت بالفعل من تغطية الجزيرة لكافة جرائمها التي ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني، ولكنها لم يكن لديها الجرأة الكافية لاتخاذ هذا القرار من قبل، لأنها كما سبق أن أشرنا تريد أن تظهر بمظهر الدولة الديموقراطية التي تتقبل النقد، ولكن حصار دول عربية لقطر وحظرها لمكاتب الجزيرة سهل الأمر كثيرًا، وأعطى لإسرائيل الفرصة لاتخاذ القرار ذاته والتخلص من قناة تمثل مصدر إزعاج لها.
ورابعًا، أن بنيامين نتنياهو يواجه في الداخل الإسرائيلي حملة اتهامات شرسة، وربما جاء القرار كمحاولة منه ومن أعضاء حكومته للتغطية على تهم وقضايا الفساد المتلاحقة، التي تهدد وجوده ووجود حكومته معه في سدة الحكم.
ففي يوم الجمعة الموافق 4 أغسطس/آب أعلنت الشرطة الإسرائيلية أنها توصلت إلى اتفاق مع شاهد ملكي، وهو مدير ديوان نتنياهو السابق «آري هارو»، إذ قدم هارو معلومات مهمة حول دور نتنياهو في تلقي الرشاوى وخيانة الأمانة العامة والسعي لإبرام صفقة رشاوى مع ممول صحفية «يديعود أحرونوت»، نوني موزيس. فربما يكون قد اتخذ هذا القرار مع حكومته كمحاولة لإشغال الرأي العام الإسرائيلي عن قضايا الفساد وتحويل الأنظار إلى مادة أخرى قد تكون أكثر دسامة.
وعمومًا، إن صح أي التفسيرات فهذا لا ينفي التفسيرات الأخرى، فقد تكون تلك الأسباب مجتمعة أو بعضها هو ما دفع الاحتلال قدمًا نحو هذا القرار.
وختامًا، حتى الآن لم يتلق مكتب القناة في القدس بعدُ أي إخطار بخصوص الإغلاق، بحسب ما قاله مدير مكتب الجزيرة في فلسطين. وربما لن يمر قرار الإغلاق ببساطة، إذ أثار قرار إغلاق مكتب الجزيرة في القدس المحتلة حملة استنكار واسعة، طالبت فيها المؤسسات الصحفية والحقوقية، ابتداءً من الاتحاد الدولي للصحفيين ومنظمة مراسلون بلا حدود مرورًا بمنظمة العفو الدولية وصولاً للأمم المتحدة، إسرائيل بضرورة وقف إجراءاتها والتخلي عن مساعيها لإغلاق مكاتب الجزيرة، مع السماح لها بالعمل بحرية.
وشددوا مجتمعين على ضرورة احترام إسرائيل لحرية التعبير والصحافة. في حين نددت شبكة الجزيرة بالقرار الإسرائيلي وأكدت أنها ستتابع تطوراته وستتخذ الإجراءات القانونية والقضائية المناسبة وأشارت إلى أنها ستستمر في تغطية الأحداث التي تشهدها الأراضي الفلسطينية المحتلة بمهنية وموضوعية.
- سامي ريفيل، قطر وإسرائيل، ملف العلاقات السرية، ترجمة: محمد البحيري، مكتبة جزيرة الورد