فيلم «The House That Jack Built»: بورتريه شخصي لفون ترير
سنجد تلك الغابة المظلمة التي يشير إليها دانتي في أنشودته، تلك الغابة التي يفقد الإنسان فيها ذاته مطاردًا بشياطينه وحيث في قلبها تستيقظ مخاوفنا الأكثر عمقًا وقسوة، حاضرة على نحو حرفي ومجازي في أفلام المخرج الدانماركي لارس فون ترير في ثلاثيته (Antichrist – Melancholia – Nymphomaniac) والتي أطلق عليها النقاد «ثلاثية الاكتئاب».
عوالم كابوسية صاغتها مخيلة فون ترير تباعًا بعد تعرضه لأزمة نفسيه حادة عانى فيها من اكتئاب عميق، ربما في محاولة منه لطرد هذا الظلام الذي يسكنه على طريقة طاردي الأرواح حيث تحفل هذه الأفلام بالعنف الممارس على الجسد البشري والصراخ، مع تأمل في طبيعة الإنسان والشر في هذا العالم.
هنا في أحدث أفلامه «The House That Jack Built» يقطع فون ترير خطوة أبعد في الظلام وأقرب إلى ذاته. وبتأثير مباشر من نشيد الجحيم لدانتي، نحن أمام رحلة في الجحيم يخوضها جاك/مات ديلون، قاتل متسلسل، يرفع جرائمه إلى مقام الفن ويسعى إلى الكمال فيه، بصحبة فيرج/برونو غانز، نسخة فون ترير من فرجيليو، الشاعر صاحب «الإنيادة» الذي صاحب دانتي عبر جحيمه.
اقرأ أيضًا: ثلاثية الاكتئاب: حين أشهر فون ترير سيفه أمام الجميع
يفتتح فون ترير فيلمه بظلمة كاملة؛ شاشة سوداء بينما نستمع عبر شريط الصوت إلى صوت مياه، وأقدام تغوص في هذه المياه. سنعرف فيما بعد أنها نهر الجحيم. يبدأ الحوار بين جاك وفيرج، هناك حاجة ملحة للاعتراف من قبل جاك، رغبة لحكي حكايته ولشرح فلسفته، فيرج يبدو أقل حماسًا للإنصات: «فقط لا تعتقد أنك ستخبرني بشيء لم أسمع به من قبل».
الفيلم يبدأ من هذه النقطة ليعود إليها قرب النهاية. هذا البناء الدائري هو الشكل الأنسب للجحيم تمامًا مثلما قسم دانتي جحيمه إلى دوائر. هذه الدائرة والتي تعبر عن جحيم مجازي تدور داخل حدود العقل المضطرب لقاتل متسلسل يعاني من الوسواس القهري. يسرد جاك حكايته الخاصة عبر 5 حوادث قتل انتقاها بطريقة عشوائية من جرائمه التي ارتكبها على مدار 12 عامًا محاولاً عبر حكايته واستطراداته شرح فلسفته الخاصة.
جاك/فيرج: جدل الجليل والجميل
الجدل بين جاك، وفيرج، الواقفين على طرفي نقيض، والذي يشغل بالتوازي مع حكاية جاك شريطي الصوت والصورة، ليس جديدًا على تاريخ الفن. ما يمثله جاك يسمى بالجليل، وهو نوع من الفن قادر على إثارة انفعالات مرتبطة بالألم والأشياء المخيفة والمرعبة، يزدهر في حالات الغموض والظلام ويستدعي أفكارًا خاصة بالقوة والطموح إلى ما هو أعلى، وهذا ما تعبر عنه فلسفة جاك التي ترى جرائمه فنًا خالصًا، مع انحيازه لكل ما هو مظلم ومخيف وخارج عن السيطرة، وولعه بكل ما هو حطام أو مدمر.
بعد جريمته الأولى، يتأمل جاك يديه الملطختين بالدم ثم يقطع إلى غلين غلوز عازف البيانو الكندي غريب الأطوار وهو يعزف مقطوعة لباخ. مرة أخرى يقطع بين وجه المرأة المشوه/أوما ثورمان، ضحيته الأولى، ولوحة لبيكاسو، مرة ثالثة يقطع بين ذات الوجه ولوحة لجويا تستعرض مخلوقًا ذا ملامح جروتسكية مخيفة. هنا يضع جاك/فون ترير نفسه داخل نفس الإطار مع فنانين تجسد أعمالهم نفس طيف الانفعالات والأفكار التي يسعى هو لتجسيدها عبر فنه.
فلسفته لا تحاكم الشر أو القتل باعتبارهما جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة. فالموت والدمار يسكنان الطبيعة منذ الأزل، كيف يمكن للطبيعة إذن أن تغضب إذا شاهدت إنسانًا يضاعف عملها ويقوم بما تقوم هي به كل يوم؟
بينما فيرج المؤمن بفن قائم على الجمال والحب يحاول طيلة الوقت أن يقوض فلسفة جاك واصفًا كل استطرادته الفلسفية كومة من الأعذار السيئة التي لا تبرر أبدًا ما فعله.
جاك: قناع شفاف لفنان ملعون
في حوار مع الممثل مات ديلون، يحكي أنه سأل لارس فون ترير عندما عرض عليه أن يقوم بأداء شخصية جاك في فيلمه: «لماذا تريد أن تصنع فيلمًا عن قاتل متسلسل؟» وكانت إجابة فون ترير بأنه مهتم أكثر بخلق بورتريه ذاتي عبر فيلمه، وأن معظم الأبطال الذكور في أفلامه كانوا أغبياء، لكن شخصية جاك من بين كل الشخصيات التي كتبها هي الأقرب لشخصيته عدا أنه لا يقتل الناس.
هذا الفيلم هو أكثر أفلام لارس فون ترير ذاتية، حيث حكاية القاتل المتسلسل هي مجرد ذريعة يقدم فون ترير من خلالها بورتريه له ولفلسفته في الفن، ولسينماه الإشكالية التي يراها البعض لا تمت للفن بصلة.
فيلم فون ترير الأقرب شكلاً ومضمونًا لفيلمه هنا، هو فيلمه السابق «Nymphomaniac»، و هو بورتريه لأمرأة تدعى جو، تعاني من شبق جنسي خارج عن السيطرة، تسرد فصول حياتها لمستمع شغوف يدعى سيلجمان. شخصية جو لا يمكن فهمها إلا عبر سجل ممارساتها الجنسية المدموغة بالشذوذ والتطرف والذهاب نحو الحدود القصوى للتجربة. تحاول شخصية سيلجمان أن تبرر أفعال جو بردها نحو أنماط سلوك غريزية موجودة في قلب الطبيعة.
هنا في فيلمه «The House That Jack Built»، نجد شخصية جاك القاتل المتسلسل والذي لا يمكننا فهم شخصيته أيضًا إلا عبر الجرائم التي يرتكبها والتي يرفعها إلى مقام الفن.
يدمج فون ترير شخصيتي جو وسيلجمان معًا في شخصية جاك، فهو السارد لحكايته وهو أيضًا من يمنحها الإطار الفلسفي الذي يبررها. يضع فون ترير أبطاله ضمن هذا الإطار الإشكالي والمتطرف في محاولة منه لتمرير ذاته، سينماه وفلسفته الخاصة عبر الخطاب الفيلمي.
يقدم فون ترير هنا، وعبر قناع شخصية جاك، بورتريه ذاتيًا لفنان ملعون، فهو أيضًا لا يمكن فهمه إلا عبر أعماله السينمائية الموسومة بالاضطراب والتطرف والذهاب نحو الحدود القصوى، بالإضافة إلى أنه أضاف شخصية جديدة هي شخصية فيرج التي يمكن اعتبارها في أحد معانيها الصوت المعبر عن نقاد فون ترير. فيرج الذي يصف جاك/فون ترير بأنه عصابي لعين، مضطرب بالوسواس القهري وصاحب حلم مثير بالشفقة بأن يكون شيئًا ما أكبر مما هو عليه. إضافة هذا البعد يجعل البورتريه أشد غنًى وتعقيدًا فهو يضم في طبقاته، شخصية فون ترير كمخرج، سينماه، فلسفته ونقاده الرافضين لفنه.
قناع شخصية جاك هو قناع شفاف لا يخفي جيدًا ما تحته. فالتشابه بينه وبين فون ترير كبير في العديد من السمات النفسية. يقف جاك أمام حافلته، ممسكًا بلافتات مكتوب عليها: «مغرور، نرجسي، وقح، لا عقلاني، متهور». يلقي بها بعيدًا عنه، ثم يبتسم وهو ينظر إلينا عبر الكاميرا مباشرة وكأنه يريد أن يقول إن كل هذه الصفات التي تلصق به والتي قد تصف سلوكه فعلاً، والتي يحاول هو نفسه أن يختبئ خلفها أحيانًا، إلا أنها لا تعبر أبدًا عن حقيقة الكائن الواقف خلفها. هذه الصفات أيضًا هي صفات قد نعت بها فون ترير من قبل في مواقف عديدة.
يضمن فون ترير، خطاب جاك مقاطع من أفلام سابقة له، بينما يخبرنا جاك عبر شريط الصوت أن الفظائع التي يرتكبها خيالنا هي تلك الرغبات الداخلية التي لا يمكننا ارتكابها في حضارتنا، لذا يتم التعبير عنها من خلال الفن. هذه المقولة هي صدى لأفكار فرويد المتشائمة حول طبيعتنا البشرية، حيث إننا غير متحضرين وراثيًا وأن الحضارة هي ضد الطبيعة الإنسانية وأن غرائزنا العدوانية تحركنا مثلما تحرك الضواري من الحيوانات وأن أحد المسارات المتاحة والمقبولة لهذه الغرائز المرفوضة هو طريق الفن.
فون ترير: على الفن أن يكون نمرًا لا حملاً
يتحدث جاك عن قصيدة للشاعر الرومانسي وليم بليك بعنوان «النمر والحمل»، يتساءل خلالها بليك: كيف لخالق واحد أن يصور كل هذا الجمال والرعب معًا؟ خلق النمر مجاز كل ما هو متوحش وبري وخارج عن السيطرة مثلنا، والحمل مجاز لكل ما هو بريء ومدجن. كلاهما مثالي وضروري، لكن فون ترير كمخرج يريد لأفلامه أن تكون نمرًا لا حملاً، شيئًا ما خارجًا على كل ما هو تقليدي وراسخ، رافضًا كل ما من شأنه أن يدجن الفن، حيث فيرج أيضًا في أحد معانيه يمثل الوصاية الأخلاقية والجمالية على الفن وهو ما يراه جاك/فون ترير، مدمرًا للفن.
يقول فيرج لجاك معترضًا على قراءته لقصيدة بليك: «إنك تقرأها مثلما يقرأ شيطان الكتاب المقدس»، فيرد عليه جاك: بأن الدين دمر البشر، لأن «إلهك يدعو البشر أن ينكروا النمر في داخلهم، أن يكونوا حملانا، وحشدًا من العبيد».
قرب نهاية الفيلم يظهر فيرج لأول مرة، بعد أن كان مجرد حضور صوتي طيلة الفيلم، ليخبر جاك أن غرضه الأساسي من كل هذا كان أن يبني بيتًا له من تصميمه الخاص. ينظر جاك حوله فلا يجد ما يشيد به بيته سوى أجساد ضحاياه. هذا البيت الذي بناه جاك عبر أجساد وأشلاء ضحاياه هو مجاز عن سينما فون ترير، لوحة عن العذاب والرعب الإنساني في أقسى وأصدق صوره.