من تاريخ الحروب الصليبية: سقوط مروّع
المؤرخ ابن الأثير واصفا حال أهل بغداد حين علموا بسقوط القدس.
إعلان الحرب المقدسة
كانت الحروب الصليبية التي جردتها أوروبا الغربية على المشرق الإسلامي وإفريقيا الشمالية في القرون الثلاثة: الخامس والسادس والسابع الهجري انعطافاً خطيراً في تاريخ أوروبا العصور الوسطى، لأنها كانت في الظاهر مشروعاً لخلاص بيت المقدس وقبر المسيح من أيدي المسلمين، ولكنها استهدفت عن طريق مباشر أو غير مباشر الاستيلاء على الأرض المقدسة وبلاد الشام وكل ما طالته أيديهم.
وبغض النظر عن سياقات وماهيات مصطلح «الحروب الصليبية» وكثرة الدراسات التاريخية التي تناولته بالدرس والفحص، إلا أن ما يهمنا هو التعريف بهذه الحروب ومدى تأثيرها على العالم الإسلامي في ظل الخلافة العباسية وبرؤية عباسية كذلك.
لقد كان السبب المباشر لانطلاق الحملة الصليبية الأولى، المجمع الديني الذي عقده البابا أوربان الثاني Urban II في بياتشنزا Piacenza في إيطاليا في مارس /آذار 1095م/488هـ ودعا إليه الأساقفة من إيطاليا وبورغونية وفرنسا وغيرها.
ومَثُلَت سفارة من القسطنطينية أمام هذا المجمع، ومعهم طلب من الامبراطور البيزنطي إلى البابا، لكي يحث المحاربين الغربيين على مساعدة الامبراطورية الشرقية وإنقاذها من السلاجقة المسلمين الذين كانوا قد سيطروا على أقسام واسعة من آسيا الصغرى واسترجعوا أنطاكية من البيزنطيين. ووجدت البابوية في السفارة البيزنطية وطلب النجدة تحقيقاً للسمو البابوي على الملوك والإقطاع معاً والسيادة على العالم المسيحي، وفرصة لصرف خطر النورمانديين عن صقلية وجنوبي إيطاليا، وتوجيه نشاطهم للقتال في حرب مقدسة ضد العرب والمسلمين.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 1095م/489هـ، ألقى البابا أوربان الثاني خطبة في الحشود التي اجتمعت في حقل فسيح بعد انتهاء مجمع كليرمونت الديني، دعا فيها إلى شن حملة مقدسة مسلحة باسم الرب بوصفه نائباً عنه في الأرض، وحث ملوك الغرب على نبذ خلافاتهم والانصياع إلى أوامره، ليتفرغ مسيحيو الغرب لما أسماه البابا حرب الله Guerre de Dieu أي الحرب المقدسة ضد العرب والمسلمين، وأشار البابا إلى منح الغفران لكل من سيشارك في هذه الحملة، سواء من مات في الطريق إلى الأرض المقدسة، أو قتل في الحرب ضد المسلمين [1].
انقسمت الحملة الصليبية الأولى إلى مرحلتين: الحملة الشعبية أو حملة الغوغاء والعامة، وحملة الأمراء، قاد الحملة الشعبية (489-490هـ/1095-1096) الراهب بطرس الناسك، وقد ضمت تشكيلة متنوعة من المشردين وقطاع الطرق والفلاحين وغيرهم، وانضمت إلى مجموعة أخرى بقيادة والتر المفلس Walter der Arme ومارسوا السلب والنهب، وحتى الكنائس لم تنج من إجرامهم، وهاجم سلاجقة الروم في آسيا الصغرى الحملة وأبادوها عن بكرة أبيها، وقتل والتر المفلس وهرب الناسك إلى أوروبا ثم التحق بحملة الأمراء [2].
بداية السقوط
لكن سرعان ما تغيّرت هذه الأوضاع في ظل الحشود الغفيرة من الفرسان والرجالة والآلات العسكرية القوية التي صاحبت حملة الأمراء (490-493هـ/ 1096-1099م) فقد كانت حملة منظمة قادها كثير من أمراء أوربا، منهم الدوق جود فري دي بويون Godfrey d’Bouillon وأخوه بلدوين من فرسان اللورين، وريموند أمير تولوز (طلوشة) وبصحبته المندوب البابوي، والكونت بوهمند من سادة ترنتو، وكان يحلم بإقطاع مملكة له ولجنوده النورمان من الأملاك البيزنطية في الشرق الأدنى، وكان معه ابن أخيه تانكريد الهوتفيلي Tancred of Hauteville.
لقد تم الاستيلاء على القدس، وشعر الصليبيون أنهم حققوا واجبهم الديني باستعادة المدينة المقدسة. وقد قسم الصليبيون هذا الإقليم إلى أربع إمارات:
- إمارة الرُّها 492هـ، وتشمل أعالي نهري دجلة والفرات، وتقرب حدودها الجنوبية الغربية من حلب، وكانت عاصمتها الرها التي توجد في بعض الخرائط باسم إدريسّا .
- إمارة أنطاكية في السنة ذاتها 492هـ، وتقع في الإقليم الشمالي جنوب غرب إمارة الرها .
- إمارة طرابلس وهي تقع في شريط ضيق على الساحل وهي أصغر هذه الإمارات وسقطت في أيديهم سنة 503هـ .
- مملكة القدس في شعبان سنة 493هـ، وتمتد حدودها الشرقية من قرب بيروت الحالية، ثم تتبع نهر الأردن حيث تتسع قليلا، وتتجه جنوبًا إلى خليج العقبة، وكانت عاصمتها القدس نفسها [3].
الجبهة الإسلامية المفكّكة
أما الذي مهد الطريق لهذا الاجتياح الصليبي، فهو التمزق السياسي الذي كانت تعاني منه بلاد الشام، ففي ظل الاجتياح الصليبي نرى أن «ملوك الشام مشتغلون بقتال بعضهم بعضاً»[4].
وتُؤكد رواية ابن كثير سبب دخول الإفرنج أنطاكية ومعرة النعمان في عام 491هـ، ما ذُكر سابقًا بل وتزيد على ذلك بعدم وجود قوة إسلامية منظمة تدافع عن هذه البلدان، قال:
وكان من اللافت عجز القوى الإسلامية الفاعلة حينئذ مثل الخلافة العباسية ودولة السلاجقة عن القيام بدور فعال في حركة الجهاد والمقاومة أمام المد الصليبي، وخاصة الخليفة المستظهر بالله؛ فجل ما فعله أنه في عام 492هـ وبعد سقوط بيت المقدس أرسل كبار علماء بغداد إلى الأقاليم ليستحثوا الأمراء والجماهير للمشاركة في جهاد الصليبيين؛ فإنه لما «ورد المستنفرِون [7] من الشام في رمضان إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعد الهروي، فأوردوا في الديوان كلاما أبكى وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا وبكوا وأبكوا، وذكروا ما دهمَ المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم (القدس)؛ من قتل الرجال وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا، فأمر الخليفة أن يُسير القاضي أبو محمد الدامغاني وأبو بكر الشاشي وأبو القاسم الزنجاني وأبو الوفا بن عقيل وأبو سعيد الحلواني وأبو الحسين بن سماك فساروا إلى حُلوان فبلغهم قتل مجد الملك البلاساني فعادوا من غير بلوغ أرب ولا قضاء حاجة»[8].
والبلاساني هو وزير السلطان السلجوقي بركياروق، وقد كانت الخلافات الدخلية قد نشبت بين أمراء بركياروق بسبب تواطؤ البلاساني في قتل عدد منهم، فضلا عن الحرب التي كانت دائرة ضد محمد بن ملكشاه الخارج على طاعة أخيه بركياروق.
أدى هذا الاقتتال الداخلي السلجوقي إلى جمود المساعي العباسية لمساعدة بلاد الشام في حربها ضد الصليبيين؛ ذلك أن المستظهر بالله كان كأبيه لا يملك من أمره شيئًا، وبذلك أضحت بلاد الشام وبيت المقدس وحيدة أمام الحملات الصليبية المتتالية!
[1] سهيل زكار: الموسوعة الشامية في تاريخ الحروب الصليبية 3/244- 346.[2] قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية ص95- 98.[3] قاسم عبده قاسم: السابق ص98- 108.[4] تاريخ ابن الوردي 2/14.[5] المستحفظون: طائفة عسكرية مهمتها حماية القلاع والحصون والأبراج. مصطفى عبد الكريم الخطيب: معجم المصطلحات والألقاب التاريخية ص395.[6] ابن كثير: البداية والنهاية 12/191.[7] من جاءوا من الشام إلى بغداد جزعين فزعين مستصرخين الخلافة العباسية ورعاياها، من هول ما رأوا من سقوط المدن الإسلامية في الشام في أيدي الصليبيين. راجع مادة استنفر: المعجم الوسيط 2/939.[8] ابن الأثير: الكامل 9/19، 20.