الجذور التاريخية لدعوى المساواة في الميراث
إسلام أون لاين
21. 8. 2017
ليست الدعوة إلى المساواة في الميراث دعوة مستحدثة ألجأت إليها التطورات الاجتماعية التي شهدها العالم العربي مؤخرًا كما يظن البعض، إنما هي دعوة قديمة تضرب بجذورها إلى عشرينات القرن الفائت، وقد شهدت هذه الحقبة تحديدًا تشكّل خارطة الفكر العربي المعاصر وتموضع تياراته الأيديولوجية. وفي السطور التالية، أستعرض السياق التاريخي الذي نشأت خلاله هذه الدعوة مستهدفة بيان جوهرها وردود الفعل الأولى عليها والقائلين بها والحجج التي استندوا إليها حتى يمكن رصد التطورات التي طرأت عليها في المراحل التالية.
بواكير الدعوة إلى المساواة
أول ما أمكن العثور عليه من تاريخ هذه الدعوة يعود إلى عام 1928، حين ألقى سلامة موسى – وهو مفكر قبطي معروف – محاضرة له في جمعية «الشبان المسيحيين» بالقاهرة، دعا فيها إلى المساواة في الإرث بزعم أن عدم المساواة يعدُ تفضيلا للرجال على النساء، وأن اللامساواة من دواعي إحجام كثير من الشبان في الشرق عن الزواج، واعتبر أن في المساواة تشجيعًا على الزواج.
ويبدو أنه أراد إكساب دعوته مشروعية بإسنادها إلى قاسم أمين، فذكر أن الأخير كان ينوي المطالبة بالمساواة إلا أنه توقف لعدم نضوج الرأي العام. وعقب محاضرته، أرسل خطابًا إلى السيدة «هدى شعراوي» رئيس الاتحاد النسائي يدعوها أن تطلب من وزارة الحقانية سن قانون يساوي بين الرجل والمرأة في الميراث، وكانت في هذا الوقت تخوض معركة بشأن تعديل قانون الأحوال الشخصية بهدف الحد من الطلاق.
أحدثت دعوة «سلامة موسى» أصداء واسعة في الصحف، ويمكن أن ننتخب منها مقالين أحدهما ينسب إلى الأديب «مصطفى صادق الرافعي» والآخر إلى السيدة «هدى شعراوي».
كتب الرافعي مقاله تحت عنوان «المرأة والميراث»، ونشر في جريدة «الفتح»، وقد استهلّه بمقدمة تضمنت الإشارة إلى بعض الأفكار التي يعتنقها موسى ورأي الرافعي فيها، وذكر أنه ليس مسلمًا*، وبالتالي فهو «متطفل في اقتراحه»، كما أنه لا يفهم الدين الإسلامي حق الفهم لأنه ليس من أهله.
والانتقاد الرئيس الذي يوجهه الرافعي لأطروحة المساواة يتلخص في «أن ميراث البنت في الشريعة الإسلامية لم يقصد لذاته، بل هو مرتب على نظام الزواج فيها، وهو كعملية الطرح بعد عملية الجمع لإخراج نتيجة صحيحة من العملين معًا، فإذا وجب للمرأة أن تأخذ من ناحية وجب عليها أن تدع من ناحية تقابلها»، وهو يوضح ذلك بأن للمرأة حقًا في مال زوجها وليس للرجل هذا الحق في مال زوجه، فإن هي ساوت أخاها في الميراث مع هذه الميزة التي انفردت بها، انعدمت المساواة في الحقيقة، فتزيد وينقص، إذ لها حق الميراث وحق النفقة وليس له إلا مثل حقها في الميراث إذا تساويا [1].
أما هدى شعراوي فقد كتبت مقالا في «الأهرام»، ردت فيه على اقتراح موسى بسن قانون يساوي بين النساء والرجال في الإرث قائلة إنه ليس من المسائل الداخلة ضمن أعمال الاتحاد النسائي، وأردفت أنها لا تستطيع أن تؤيده لسببين: الأول أن الحركة النسوية المصرية رغم تأثرها بالحركة الغربية إلا أنها «لا يجب أن تتبعها في كل مظهر من مظاهرها وذلك لأن لكل بلد تشريعه وتقاليده وليس كل ما يصلح في بعضها يصلح في البعض الآخر»[2] والثاني، أنه ليس هناك تذمر من المرأة من عدم مساواتها الرجل في الميراث.
وبلغة يسيرة ومنطق واضح لا عوج فيه، اتجهت نحو تفكيك دعائم دعوة موسى فذكرت أن عدم المساواة في الميراث ليس من دواعي الإحجام عن الزواج، لأننا نشاهد في أوروبا انتشارًا للعزوبية يفوق انتشارها في الشرق رغم التساوي في الميراث. وأضافت أننا إذا سلّمنا بنظرية سلامة موسى بالمساواة، «فهل لا يخشى أن يؤدي ذلك إلى إسقاط الواجبات الملقاة على عاتق الزوج نحو زوجته وأولاده بإلزام الزوجة بالاشتراك في الصرف، وفي ذلك ما فيه من حرمان يعود بالشقاء والبؤس على الزوجات الفقيرات اللاتي لم ينلن ميراثًا من ذويهن»[3]. وأتت كذلك على الادعاء الخاص بكون قاسم أمين كان ينوي المطالبة بالمساواة في الإرث ووصفته أنه من قبيل «الرجم بالغيب».
واختتمت مقالها بتوضيح أولويات الحركة النسوية وعلاقتها بمرجعية الشريعة قائلة:
وقد أحدث المقال صدى طيبًا، فقد أرسل إليها الأمير عمر طوسون – وهو أحد أبناء الأسرة العلوية الحاكمة – خطابًا نشرته الصحف جاء فيه أنه استحسن ما كتبته حيث جمعت بين النهضة النسائية مع الاحتفاظ بالشرائع الإلهية والصالح من عاداتنا وتقالدينا، وبدا من الرسالة استياء الأمير من تلك الدعوة التي تستهدف «إطراح قوميتنا والانفصال شيئًا فشيئًا عن أصول ديانتا»، واعتبرها «خطرة المغبة» وأننا سنرى دعاتها قريبًا وقد ضلوا الطريق لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء [ أي مذبذبين بين الشرق والغرب][5].
الحجج والحجج المضادة
لم تكد الأزمة التي أثارها موسى تخمد حتى أعقبتها أخرى أكثر اتساعا بعد أقل من عامين وذلك حين عقدت الجامعة المصرية مناظرة حول مساواة المرأة بالرجل في الثامن من يناير/كانون الثاني عام 1930م، وحضرها الدكتور «محمود عزمي» من المؤيدين و«السيد رشيد رضا» من المعارضين، وكان لها وقع كبير إذ حضرها جمهور تجاوز الألف شخص اكتظت بهم قاعة الجامعة وغطتها معظم الصحف. وفي كلمته أعاد عزمي ما طرحه سلامة موسى من وجوب التسوية في الميراث، وفنّد رشيد رضا ما ذهب إليه في كلمته أثناء المناظرة ثم كتب في ذلك سلسلة مقالات نشرها متتابعة في المنار.
وفي المقابل نشر محمود عزمي مقالا بالأهرام أوضح فيه رؤيته لهذه المسألة، وفي تلك الآونة ألقى شخص يدعى «فخري ميخائيل» فرج محاضرة بالجامعة الأمريكية عن «الواجب المالي للأمومة» تضمنت ضرورة المساواة، وتمت طباعتها وتوزيعها ويبدو أنها تضمنت ما يمس الدين فاستدعي للتحقيق القضائي، ويبدو أن انتشار هذه الأفكار أزعج الكثيرين ليس من الإسلاميين وحدهم، ولكن من غيرهم فقد كتب الأمير عمر طوسون مطالبا السلطات الرسمية بمنع نشر هذه الدعايات.
ومن خلال متابعة ما نشر بمجلة المنار يمكن القول إن حجج الداعين إلى المساواة كانت كالتالي:
أولا: أن المسلمين قبلوا بترك الحكم بالشريعة في معظم المجالات ورضوا بحكم المحاكم الأهلية (الوضعية) فلماذا لا يرضون بترك أحكامها المتعلقة بالأحوال الشخصية والمواريث.
ثانيا: الزعم أن بعض علماء المسلمين جوّز ترك أحكام الشريعة في المسائل الدنيوية إلى ما يعتقدونه خيرًا منها بحجة اختلاف المصلحة باختلاف الزمان.
ثالثا: أن نظام الوقف وضع في الإسلام للاستدراك على ما في أحكام الإرث من جمود يقتضي الزمان الخروج عنه، فالمسلمون يوقفون أموالهم على من يريدون إعطاءهم أموالهم فوق ما تعطيهم آيات الميراث [6].
رابعا: أن مقتضى الإنسانية التسوية بين الأخ والأخت في ميراث الأبوين.
وقد فنّد رشيد تلك الدعاوى الواحدة تلو الأخرى ومما قاله في ذلك: إن القول بوجوب تخلي المسلمين عن أحكام الشريعة في المواريث قياسا على الأحكام القضائية الأخرى يعد من قبيل القياس الفاسد، وضرب لذلك مثالا بمن قصر في حفظ ماله فاغتُصب بعضه ولم يسع لرده، فهل يقال له إنك عرضت مالك للزوال فيجب عليك تعريض الباقي لتصبح معدما!
أما بخصوص أحكام الشريعة ووجوب خضوعها للتطور اتباعا للمصلحة فقد أكد أن «أمر الدين ليس كأمر القوانين في جواز وضع نصوصه موضع البحث والنظر لنترك ما لا نستحسنه منها ونبقي ما نستحسنه، بل مقتضى الدين …. قبول كل ما هو قطعي منه سواء أدركنا وجه منفعته أم لا»، وأضاف أن الأحكام الشرعية ليست اختيارية، ولم يقل أحد علماء المسلمين من المتقدمين ولا المتأخرين، وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع، والقول به يعد كفرا صريحا إذ لا فرق بين أحكام العبادات وأحكام المعاملات في أدلة ثبوتها ووجوب العمل بها [7].
وفيما يخص الوقف؛ ذهب رشيد رضا إلى أن الوقف على الذرية بما يخالف الفريضة الشرعية ليس فيه نص ديني قطعي وإنما هو من توسع الفقهاء الذين يختلفون فيه بين من يقول ببطلانه ومن يجيزه وأوضح أن ححج القائلين بالبطلان أرجح لديه [8].
وقد اختتم بقوله إن الإنسانية ليست مناطا للإرث ولا سببا لتحديد درجات الوارثين فذكرها لا محل له، ولكن مقتضى الإنسانية أن يسوي الوالدان في النفقة بين أبنائهما ذكورا وإناثا فيما تتساوى حاجتهم فيه كالملبس والمطعم وخلافه.
في المحصلة النهائية يمكن القول إن هناك متغيربن وثابتا واحدا في مسألة المساواة في الإرث؛ فأما المتغيران فهما أن الدعوة بدأت فردية ثم اتخذت طابعا مؤسسيا في فترات لاحقة حين تبنتها بعض التجمعات النسوية منذ الأربعينات، وأن غالبية دعاتها الأوائل كانوا أقباطا، ولكن هذا لم يلبث طويلا إذ سرعان ما صادفت الدعوة قبولا من المسلمين وأصبح دعاتها من بينهم، أما الثابت فهو الادعاء أن المصلحة تستدعي بالضرورة تغيير الأحكام الشرعية الثابتة.
* أثارت مسألة قبطية سلامة موسى استهجانا من الدوائر الإسلامية إذ بينما اكتفى رشيد رضا بوضع علامات تعجب واستفهام بعد أن ذكر أنه قبطي وأن محاضرته كانت في الشبان المسيحيين، على حين عنونت جمعية الشبان المسلمين بيانها حول هذه الأزمة بعنوان لافت هو «الاعتداء على الإسلام في جمعية الشبان المسيحيين». يُنظر نص البيان في: مجلة الفتح، ع 129 ، 22 رجب 1347، ص9-10.
- مصطفى صادق الرافعي، وحي القلم، بيروت: المكتبة العصرية، ج3، ص 374-375.
- هدى شعراوي، مذكرات هدى شعراوي، القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2013، ص 300.
- نفس المرجع السابق، ص301.
- نفسه، ص302.
- عمر طوسون، نصيب المرأة في الميراث: رأي الأمير عمر طوسون، القاهرة: الفتح، ع 130 ، 29 رجب 1374ه، ص11.
- رشيد رضا، مناظرة في مساواة المرأة للرجل ،القاهرة: المنار، ج 31 ع 1، يناير 1931، ص 59.
- المنار، ج 30 ع 9، ص 704-705.
- المنار، ج 31، ع 1، ص 59-60.