التكلفة الباهظة والفرصة التاريخية لمحاولة الانقلاب الفاشلة
تعرضت تركيا، قبل أسبوعين، لعملية انقلابية، انتهت إلى الفشل. هذه واحدة من المناسبات القليلة التي لا تسعف فيها اللغة محاولة توصيف ما حدث وقراءة آثاره. المصطلح المستخدم في اللغة السياسية التركية أن ما شهدته البلاد ليلة 15-16 يوليو/تموز لم يكن انقلاباً، بل محاولة انقلابية. وهذا صحيح، بالتأكيد، ولكنه غير كاف. غير كاف لأنه يوحي بوجود تشابه بين المحاولة الانقلابية مساء 15 يوليو/تموز ومحاولات أخرى فاشلة عرفتها دول مثل الأردن وسوريا والعراق وفنزويلا، وغيرها، في النصف الثاني من القرن العشرين. الحقيقة، بالتأكيد، أن المحاولة الانقلابية التركية الفاشلة كانت عملية هائلة، عملية ما كان لها أن تفشل، وأن القائمين بها كانوا على ثقة بالنجاح أنهم لم يضعوا خطة «ب».
تركيا الجمهورية هي، بالطبع، الوريث المباشر للسلطنة العثمانية؛ والجيش التركي هو الوريث المباشر للجيش العثماني الحديث، الذي بدأ في التكون منذ ما بعد تدمير وإلغاء النظام العسكري الانكشاري في 1826. ولذا، فإن محاولة 15 يوليو/تموز الفاشلة تأتي في ذيل سلسلة من الانقلابات: ثلاثة انقلابات قامت بها جمعية الاتحاد والترقي في 1908، 1909، 1913؛ ثم انقلابات الجيش الجمهوري، المباشرة وغير المباشرة، في 1960، 1971، 1980، و1997. كل هذه كانت انقلابات ناجحة، أدت إلى سيطرة الجيش على السلطة، أو إلى قيام الجيش بإطاحة حكومة منتخبة وفرض أخرى. وربما كانت محاولة 15 يوليو/تموز أول مشروع انقلابي، بهذا الحجم والإمكانيات، ينتهي إلى الفشل، ليس في تركيا وحسب، بل في المشرق برمته. عدد الجنرالات، من كافة درجات رتبة جنرال، ومن كافة أسلحة القوات المسلحة، الذين ألقي القبض عليهم بعد مرور أسبوع على المحاولة الانقلابية، وصل إلى 126 جنرالاً. ويمثل هذا الرقم ما يقارب ثلث عدد جنرالات القوات المسلحة التركية. وبحساب سريع وتقريبي، يمكن القول أن هذا العدد من الجنرالات كان يتحكم في ما يقارب 150 – 200 ألف جندي من تعداد القوات المسلحة التركية البالغ 700 ألف من الجنود.
بيد أن المسألة لا تنتهي هنا. كان تصريح الرئيس التركي المبكر بأن جماعة فتح الله غولن كانت وراء المحاولة الانقلابية، التصريح الذي أكده رئيس الأركان شخصياً في أول حديث له بعد تحريره من قبضة الانقلابيين، أثار بعض الشكوك خارج تركيا. ولكن الأدلة على صحة هذا التقدير لا تتزايد بمرور الساعات وحسب، بل وتكاد أن تصبح غير قابلة للجدل. وهذا ما يجعل محاولة 15 تموز/يوليو شأناً غير عادي في تقاليد الانقلابات العسكرية في تركيا الجمهورية. هذه ليست محاولة تعهدتها مجموعة من الضباط الكماليين، الذين حركتهم أوهام الخطر الذي يواجه النظام العلماني، أو الذين أقلقهم تهديد ما لوحدة البلاد، أو الذين افترضوا أن الجيش هو صانع الجمهورية وحارسها، ومالكها، على أية حال. من تعهد هذه المحاولة وقادها، كان تنظيما دينيا، ذا سمة غنوصية، تختلط في رؤيته للإسلام وتركيا والعالم روافد صوفية، وتوجهات سياسية نخبوية، وعقائد غريبة «يتعلم أتباع غولن، مثلاً، أنه أقرب إليهم من حبل الوريد!».
يحمل غولن مشروعاً للسيطرة على العالم بأجمعه، ويتصور أن السيطرة على تركيا هي الخطوة الأولى نحو تجلي مشروعه العالمي. ومنذ مطلع الثمانينات، عندما أعلن غولن، رجل الدين الكاريزمي الشاب تأييده لانقلاب 1980، غض النظام الانقلابي النظر عن نشاطات الجماعة السيطرة، التي استطاعت خلال العقود الستة التالية أن تزرع جذورها بصورة سرطانية في كافة دوائر الدولة والمجال العام: مئات المدارس الخاصة، وآلاف مدارس نهاية الأسبوع، و15 جامعة؛ آلاف رجال الأعمال والشركات والبنوك؛ تغلغل واسع النطاق في البيروقراطية التركية، سيما في المؤسسة القضائية، ووزارتي التعليم والمالية؛ مؤسسات إعلامية ضخمة، بما في ذلك صحف ومحطات تلفزة ومواقع على الإنترنت؛ سيطرة واسعة النطاق على جهازي الشرطة واستخبارات الداخلية؛ وتنظيم عسكري غير مسبوق في حجمه وانتشاره في كافة أجنحة القوات المسلحة والجندرمة.
وهذا ما سيجعل تكاليف المحاولة الانقلابية باهظة، حتى بعد فشلها. لوضع حد لتغلغل هذه الجماعة في مؤسسات الدولة والحكم، لابد من اقتلاع التنظيم السري من جذوره. وليس ثمة شك أن عملية التطهير هذه ستكون لها عواقب متفاوتة الأثر على مؤسسات الدولة وعلى المجتمع والاقتصاد التركيين. سيتولد اضطراب ما في القوات المسلحة، ولابد من مرور بعض الوقت قبل أن تستعيد المؤسسة العسكرية قدراتها. ولأن القوات المسلحة أصيبت بعطب بالغ، جراء صدامها غير المسبوق مع الشعب، فلابد من إعادة بناء للمؤسسة العسكرية، لصورتها، ولعلاقتها بالشعب التركي. كما إن من المتوقع أن تترك العملية الانقلابية أثراً واسعاً على القطاع التعليمي، سواء فيما يتصل بجهازي التعليم المدرسي والجامعي، أو بوضع عشرات، وربما مئات، الآلاف من الطلاب. ولا يختلف الوضع كثيراً في المؤسسة العدلية، سواء الجهاز القضائي أو النيابة العامة. وبالرغم من أن عملية التطهير لم تصل بعد إلى قطاعي المال والأعمال والاقتصاد، فالمعروف أن عشرات رجال الأعمال من أتباع الجماعة كانوا غادروا البلاد منذ 2013. والأرجح أن مطاردة أعضاء الجماعة في هذا المجال وتحديد طبيعة ممتلكاتهم وصلتهم بمقدرات الجماعة المالية ستبدأ سريعاً.
تركيا العدالة والتنمية، إضافة إلى ذلك، تتعرض لضغوط استراتيجية، إقليمية ودولية، منذ 2012. تشارك في هذه الضغوط ليس فقط دول إقليمية تخالف سياسات أنقرة في الإقليم، ولكن أيضاً قوى غربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، الحليف التقليدي لتركيا. ولذا، وبالرغم من أن المواجهة مع الانقلابيين قدمت صورة أخرى لتركيا ومجالها السياسي، صورة التوافق والوحدة، بعد سنوات من الاستقطاب السياسي الحاد، إلا أن حجم المحاولة الانقلابية، وحجم التنظيم السري الذي يقف خلفها، سيولد انطباعاً من عدم الاستقرار.
من جهة أخرى، يوفر فشل المحاولة الانقلابية فرصة تاريخية لحكومة العدالة والتنمية وللرئيس أردوغان، داخلياً وخارجياً، لإعادة بناء الدولة وعلاقة الدولة بشعبها، ولتعزيز دور تركيا الإقليمي. منذ توليها مقاليد البلاد في نهاية 2002، أجرت حكومة العدالة والتنمية سلسلة إصلاحات في كافة مؤسسات الدولة التركية. ولكن أغلبية دارسي تركيا الجمهورية تعرف أن هذه واحدة من أكثر الدول تحكماً وسيطرة، وأن بناء نظام ديمقراطي، حر، يتطلب إعادة بناء جذرية للدولة، بما في ذلك مؤسسات الدولة القضائية والعسكرية والأمنية؛ كما يتطلب إعادة بناء نظام الحكم ووضع دستور جديد. ولكن مشروعاً إصلاحياً بهذا الحجم لا يمكن أن يتقدم بصورة تسللية من تحت عباءة الانتصار على الانقلابيين، بل عبر توافق شعبي وسياسي. وهذا هو التحدي المطروح أمام قيادة العدالة والتنمية وقيادات الأحزاب المعارضة. وربما كان لقاء أردوغان بقادة حزبي المعارضة الرئيسيين، يوم الإثنين 25 يوليو/ تموز، مؤشراً بالغ الإيجابية على مناخ سياسي جديد في طريقة للتبلور.
ولأن المحاولة الانقلابية لم يكن مقصوداً بها تركيا وحسب، بل ووضع نهاية لحركة التغيير الديمقراطي في المشرق برمته، فإن فشل هذه المحاولة لابد أن يسهم في إصلاح الخلل في ميزان القوى بين قوى الثورة والتغيير، من جهة، وقوى الثورة المضادة، من جهة أخرى. لم تخطئ دوائر الثورة المضادة في الإقليم ووسائل إعلامها عندما عبرت عن ابتهاجها المتسرع بنجاح الانقلابيين، ولم تخطئ الشعوب ومثقفوها الأحرار عندما احتفلت بفشل بالمحاولة الانقلابية وهزيمتها. هذا لم يكن حدثاً تركيا وحسب، هذا حدث تعلق بمصير المشرق ومصير شعوبه ومستقبلها.