فيلم «The Happy Prince»: سيرة حياة أوسكار وايلد
من أوائل القصص التي فتنتني صغيرًا قصة «الأمير السعيد»، تحكي عن لقاء بين تمثال لأمير صغير منصوب في أعلى مكان بالمدينة وطائر سنونو في طريقه للهجرة لمنطقة دافئة.
يستريح الطائر في أثناء سفره لمصر على قاعدة التمثال ويطلب منه التمثال مساعدته في مساعدة فقراء المدينة بالمجوهرات والحلي وصفائح الذهب التي تزينه حتى يتحول التمثال المرصع بالجواهر إلى تمثال حجري عار، ويطلب الطائر منه قبلة ويخبره أنه ذاهب إلى بيت الأموات، فالموت هو شقيق النوم، ويقع الطائر ميتًا بسبب ببرودة الشتاء الذي هجم على أوروبا والذي كان يهاجر منه في الأساس، وبعدها نسمع صوت انكسار القلب الرصاص داخله إعلانًا بموته.
كبرت قليلًا وعرفت أن أوسكار وايلد له رواية واحدة وهي «صورة جوريان دراى»، قرأتها مختصرة وكاملة وحيرتني كثيرًا وظلت تلك الحيرة حتى قرأت كتابًا عن أوسكار وايلد نفسه، وعرفت أنه شاعر ومسرحي بالأساس، وكان ذا شهرة واسعة حتى سُجن ومات على إثر مرض غامضلم يذكر الكتاب طبيعة المرض أو تهمة السجن، ولم أهتم وقتها.
بعدها عرفت أن قصة الأمير الصغير ضمن مجموعة قصص خيالية للأطفال كتبها بعد أن حازت قصة الأمير السعيد على إعجاب أطفاله الصغار، فبحثت عنها ووجدت ترجمة سيئة وترجمة أخرى أقدم لكنها ترجمة معقولة وفيها فقرة أخيرة متممة للقصة التي تم حكيها لي قلبت لي رأسي. تحكي الفقرة المتممة عن حوار بين الرب والملاك، فيطلب الرب من الملاك أن يأتي له بأثمن شيئين في الأرض، فيبحث لملاك ولا يجد إلا القلب الرصاصي للتمثال وقلب الطائر، فيقول له الرب أحسنت الاختيار، ويدخلهم الفردوس.
هذه هي نهاية فيلم الأمير السعيد «The Happy Prince» من إنتاج عام 2018، والذي يحكي الثلاث سنوات بعد خروجه من السجن ومنفاه الاختياري في فرنسا حتى موته هناك، ولكنه لا يعود لبريطانيا أبدًا. الفيلم يبدأ بإلقاء بداية تلك القصة على أطفاله وينتهي بتكملة القصة على طفلين مشردين في سكرات الموت.
روبرت إيفيرت وأوسكار وايلد
الفيلم من بطولة وإخراج «روبرت إيفيرت – Rupert Everett» في تجربته الأولى في الإخراج والكتابة. يبدو أن روبرت الممثل البريطاني صاحب الأصول الأيرلندية مغرم بالكاتب الأيرلندي أوسكار وايلد، فقد قام بدور لورد آرثر في فيلم «زوج مثالي An Ideal Husband» عام 1999 المأخوذ من مسرحية لأوسكار بنفس العنوان، وقام أيضًا بدور ألجى في فيلم «أهمية أن تكون صريحًا – The Importance of Being Earnest» عام 2002 المأخوذ عن مسرحية لأوسكار بنفس العنوان.
إذا لم تتذكر الممثل صاحب 59 عامًا فأنت بالتأكيد ستتذكر دوره في فيلم «شكسبير عاشقًا» في دور الشاعر كريستوفر مارلو أو بطولة فيلم «وقائع موت معلن» عن رواية جابريل جارسا مركيز. فالمكياج والشخصية مختلفان تمامًا عما قدمه الممثل طوال حياته، مما يشي بتفوقه في أولى تجاربه على مستوى التمثيل والإخراج والكتابة.
تم تقديم سيرة حياة أوسكار وايد كثيرًا وبالأخص وقائع محاكمته وسنتي السجن بالأشغال الشاقة، لكن لم يلتفت أحد إلى سنواته الأخيرة، فهو لم يصدر فيها إلا مجموعة قصائد عن فترة السجن، والمعلومات عنها شحيحة. أشهر مؤرخ لحياة أوسكار هو همونتجمري هايد H. Montgomery Hyde وكتابة The Trials of Oscar Wilde الذي اعتمد عليها الفيلم عام 1960 بنفس العنوان وقام ببطولته الممثل البريطاني بيتر فينش Peter Finch. ميزة هذا الكتاب عن سائر الكتب التي تناولت حياة أوسكار وايلد هو أنه يقدم صورة للعصر التي عاش فيها أوسكار والتناقضات فيه.
رغم الشهرة والمجد، لكن لم تسلم روايته الوحيدة من انتقادات، أبرزها عدم وضوح الجانب الأخلاقي في الرواية، بمعنى أنه لم يتم تجريم أو حتى التصالح مع الأعمال المشينة للبطل، الذى استغل أنه لا يشيخ أو يكبر ويحتفظ بشبابه للأبد لأن كل حركات الزمن والشيخوخة تصيب لوحة وبورتريه دوريان جراى. وكان وايلد يرد بأنه يقدم الفن ولا يقدم حكمًا أخلاقيًا، أو كما ذكر في مقدمته التي أضافها لاحقاً بعد الجدل الذي سببته الرواية: «لا وجود لكتاب أخلاقي وآخر غير أخلاقي. الكتب إما توصف بأنها مكتوبة بشكل جيد أو مكتوبة بشكل سيّئ».
يحاول أوسكار أن ينتصر لمقولته والتي تلخص ثمرة فلسفته حول الفن والجمال، والتي اختتم بها ديباجة العمل: «كل الفنون عديمة الفائدة». أي أن الفن لا يمكن أن يكون له غرض أو منفعة، الفن للفن، للمتعة والجمال، بل قد يكون ثمن محاولة توظيف الفن بأي شكل من الأشكال باهظًا جدًا.
فأوسكار، أثناء شهرته العريضة، كان معروفًا بمثليته، ولكن تم تقديمة للمحاكمة بشكل غريب. أوسكار كان على علاقة بشاب ثري اسمه بوزى، وعندما عرف والد الشاب وهو الماركيز كوينزبري Queensberry حاول فضح ممارسته المشينة، فترك بطاقة في النادى مكتوبًا فيها: «إلى أوسكار وايلد اللوطي الشهير»، وهو ما اعتبرها أوسكار إهانة وتقدم بمقاضاة الماركيز بالتشهير به، وبضغط من محاميه وعائلته، تراجع وسحب القضية، لكن الماركيز استمر فيها وقدم شهادات من أولاد شوارع كان يمارس معهم الجنس، وتم الحكم عليه بسنتين مع الشغل.
إذًا الرواية التي يقدمها روبرت لنا في الفيلم متخيلة نوعًا ما، وإن كانت تسرد أجزاء كثيرة من حياته، فمنها حقيقة أنه تنقل في فرنسا تحت اسم سبيستيان مالموث Sebastian Melmoth. واستمراره في حياة اللهو المجون وعودته إلى الشاب الذي أحبه بوزى وتسببت علاقته به في سجنه وحب زوجته له التي كانت تعرف بمثليته.
الأمير السعيد لم يكن سعيدًا
في 2017 تمت تبرئة أوسكار وايلد من تهمة الفعل الفاضح ضمن 50 ألف رجل أدينوا بتلك التهمة تحت مظلة قانون جديد معروف بقانون آلان تورنغ Alan Turing law. آلان هو مخترع جهاز فك الشفرات أثناء الحرب العالمية الثانية والذى يعتبر أول كمبيوتر وانتحر بالسيانيد بعد نبذ المجتمع له بعد اتهامه بالمثلية.
إيفيرت الذي اعترف بمثليته منذ أكثر من عشرين عامًا، والحائز على العديد من الجوائز، يحكي رحلة السقوط لكاتب كان ملء الأسماع والأبصار، وكيف نهشه المجتمع. ولكن الأهم في هذا السقوط أن أوسكار كان لديه نزعة لتدمير نفسه بإصراره على علاقته بالشاب بوزى، رغم أنه تخلى عنه وتركه للإفلاس والفقر، ويربطها بقصة «الأمير السعيد» الذى دمر نفسه بأن خلع عنه المجوهرات والذهب حتى أصبح تمثالًا عاريًا ومفلسًا.
نوعًا ما التخلي ليس عن الحياة السعيدة والرفاهية التي كان ينعم بها، ولكن نضوب الإبداع، ففي تلك السنوات الثلاث لم يستطع أن ينتج أي نص، فباع حقوق مسرحية لم يكتبها إلى ثلاث جهات، وتشاجر معه أحد أصدقائه أنه يجب أن يعمل. يبدو هذا متسقًا مع فلسفة أوسكار التي أشار لها في روايته الوحيدة. المجتمع كان يغض البصر عن مثلية أوسكار لتألقه وشهرته وإبداعه، فأوسكار كان شخصية مجتمع فكاهي ساخر ورأس تحرير إحدى المجلات النسائية ورفع مستواها وجودتها بشكل أبهر وأعجب النساء في عصره.
الملمح الأبرز الثاني هو علاقته بالدين، والتي نراها في إبداعه، ومنها الفقرة التي أشرت لها في قصة الأمير السعيد، نراها في الفيلم في احتمائه بالكنيسة بعد مطاردة من شباب عابث اكتشفوا شخصيته. وطلبه قس يتلقى على يديه اعتراف الموت. يرى أوسكار أنه تطهر من ذنوبه في مشهد ذكره في قصائد السجن وصوره لنا الفيلم، فأثناء انتقاله بين سجنين جلس على محطة قطارclapham junction مع الجندي الذي ينقله إلى السجن الآخر ينتظر القطار، وهناك تعرف عليه مجموعة من الناس بأنه أوسكار وايد الشاذ وبصقوا عليه وأهانوه. وتلك الحادثة أثرت عليه لبقية حياته واعترف بها للقس.
أوسكار وايلد من المبدعين القلائل الذي كانت حياته أكبر من إبداعه، أحب الحياة لدرجة تدمير نفسه في مجتمع لا يرحم، عفا عنه بعد أكثر من قرن من الزمان.