مسلسل The Handmaid’s Tale: واقع أكثر رعبًا من الخيال
تجلس إلى مكتبها حول أوراقها المبعثرة، تترك القلم وتسرح في محاولة لتذكر تلك الكلمات التي سمعتها مرة في أحد دروس اللاتينية في مدرستها «لا تدع الأوغاد ينالون منك». رغم اعتياد تداول هذه الكلمات كطرفة بين دارسي اللاتينية من الأطفال في زمن فائت، إلا أن «مارجريت آتوود»، الروائية الكندية، رأتها الكلمات الأنسب للسخرية بجدية من الأوغاد في روايتها «قصة الخادمة»، جدية قد يكون ثمنها رقبة إحداهن!
تحل دولة «جلعاد» محل الولايات المتحدة الأمريكية، مُعلية كلمة الحق والإنجيل لتحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه وإصلاح ما فسد من الأمور فسوقًا وظلمًا، بعد أن انتشر التلوث بمعدلات خطيرة، وفقدت النساء خصوبتها، واستمرت معدلات المواليد في الانخفاض، لتهبط في عام واحد فقط بنسبة 60% عن سابقه. تصور ديستوبي ذو رؤية متطرفة تجاه الدين، ونسوي بالطبع، وضعته مارجريت آتوود نصب أعيننا في سرد روائي عام 1985، والذي تحول لعمل تليفزيوني شهير تحت الاسم نفسه، حائزًا على عدة جوائز بعد عرض أول مواسمه في 2017، وعُرضت حلقات الموسم الثالث منه منذ شهور قليلة.
ديستوبيا واقعية
يزعم مؤسسو دولة جلعاد بأنهم يريدون جعل العالم مكانًا أفضل، وفي سبيل تحقيق الهدف الأسمى عليهم تقديم التضحيات والتنازلات، بل وإجبار الآخرين على تقديمها، للابتعاد عن الشهوة والفساد. ذلك من خلال الرجوع إلى الأصولية والقيم التى طالما أهُمِلت، رجوعًا سرى على كل شيء، من أكبر شئون الدولة لأصغر شئون المنزل.
أشهر مظاهر هذا النظام الجديد القديم هو الإماء أو الخادمات، ومنهن «أوفريد» الخادمة بمنزل القائد «واترفورد» والشخصية الرئيسية في الرواية. الإماء أو الخادمات يختلفن عن خادمة المنزل (المارثا)، فهن مجموعة من النساء تم اختيارهن بعناية شديدة لأعلى هدف تنشده جلعاد وهو إنجاب الأطفال. ولكن تحقيق الأفضل- كما يخبر القائد واترفورد خادمته أوفريد- لا يعني أفضل للجميع، فدائمًا ما يعني أسوأ بالنسبة للبعض. ومن خلال متابعتنا للأحداث سندرك أن هذا الأسوأ قد يصبح كارثيًا، مميتًا ودمويًا.
يبقى السؤال في ذهن البعض: هل تقتصر جلعاد على كونها تصورًا سوداويًا متطرفًا، أم تمتد لكونها حقيقة وقعت وتقع بالفعل؟
في حديث لها تقول آتوود بأن كل ما أتت به في روايتها –تقريبًا- قد حدث بالفعل في زمان ومكان ما. ما يبعدنا عن القول بأن آتوود تطرفت في رؤيتها لمستقبل النساء، منساقة وراء تصور نسوي ديستوبي، فممارسات جلعاد الشهيرة مورست وتمارس بالفعل هنا وهناك.
«جمهورية جلعاد الإيرانية»
الإنسان عدو ما يجهل، لكن مع تعرضه التدريجي لهذا المجهول يشعر بألفة تجاهه، ألفة من شأنها أن تصير تعودًا، لكن ربما لا تسير الأمور على هذا النحو دائمًا.
لم تقم دولة جلعاد بين ليلة وضحاها، بل كانت الأمور تُدبر شيئًا فشيئًا، كانت الدلالات موجودة لكنها لم تكن مرئية للجميع، لذا حين بلغت الدولة الدينية من القوة ما يمكنها من السيطرة على أهم المؤسسات: كالكونجرس والبيت الأبيض والجيش، كشّرت عن أنيابها، ليدرك الجميع -رجالًا ونساءً- الكارثة التي حلّت عليهم بالفعل.
في جلعاد النساء إما زوجات أو «إماء» خادمات بهدف الإنجاب أو خادمات منزل «مارثا» أو عاملات، يُصنفن وفقًا لأمور عدة، أهمها القدرة على الإنجاب من عدمها، ولكل فئة زي موحد للتمييز. في جلعاد لا نرى وجوهًا للتكنولوجيا الترفيهية، فالهواتف الذكية وأجهزة اللابتوب ومشغلات الأغاني غير مسموح بها، أدوات التجميل ومطاعم الوجبات السريعة والمزارات السياحية من متاحف وغيرها هم صورة من الماضي، بالإضافة إلى دور السينما ومراكز التسوق وغيرها من أمور بدت طبيعية تمامًا في يوم من الأيام.
في جلعاد الأنثى مهما بلغت مرتبتها لا تعمل، لا تقرأ، لا تكتب، لا تقود أي وسيلة مواصلات، لا تتنقل دون إذن، هي فقط عليها طاعة الزوج كزوجة، وإنجاب الأطفال كأمة، وتدبير شئون البيت كخادمة منزل. وبالطبع هذا ليس اضطهادًا لكنه تكريم لها، وطاعة منها لكتابها المقدس/ وإن لم تكن تتبع المسيحية!
ربما يذكرنا هذا بالثورة الإيرانية عام 1979، فهي ثورة شهدت بوادر وتحركات تدريجية بمشاركة فئات مختلفة، اجتمعت على رفض حكم الشاه الملكي، لتستبدله بالجمهورية الإسلامية الإيرانية تحت قيادة آية الله الخميني، التي أعلنت رفضها للتغيرات الغربية التي طرأت على المجتمع الإيراني اجتماعيًا وفكريًا مع سوء الحالة الاقتصادية. كثيرون رأوا في الثورة حينها تحررًا من التبعية الغربية أو ما أسماه البعض الاستعمار الحديث وسيطرة الرأسمالية، لكن سرعان ما أثبتت الجمهورية الإسلامية أنها ليست أقل فسادًا أو قمعًا أو بذخًا دون عموم الشعب.
جزء كبير من التغيرات التي طرأت على المجتمع عقب الثورة الإيرانية كان من نصيب النساء، فأصبح على النساء ارتداء الحجاب وزي موحد أسود اللون. كما حُظِر اجتماعهن مع الرجال، ومُنِعت النساء من بعض الأنشطة التي كانت طبيعية في السابق، كحضور الحفلات العامة أو حضور المباريات أو نزول البحر. كثير من هذه المحظورات حاول العديد التحايل عليها -نساءً ورجالًا- في صور وأشكال مختلفة، فكان مجرد إرجاع الحجاب إلى الخلف وإظهار جزء صغير من الشعر مقاومة من النساء، ما يُدحض في الواقع قول العمّة ليديا حول التعود على الأمور، فيظل الرفض كامنًا وإن لم يظهر حتى وقت معين.
زواج الأطفال
في إحدى حلقات الموسم الأول، يزور جلعاد وفد مكسيكي من أجل صفقة تجارية، ليتضح أن الخادمات اللاتي متعهن الله بمبيضين صالحين لإنجاب الأطفال هي البضاعة التي ستصدرها جلعاد للمكسيكيين، بعدما مرت عليهم سنوات بدون أن يشهدوا إنجاب طفل واحد. وفي حلقة أخرى من الموسم الثاني نشهد حفل زواج لبعض حراس الأمن التابعين للقادة من فتيات لا تتعدى أعمارهن الخمسة عشر عامًا، في الحلقتين ستجد ما تشاهده مألوفا لأنه وقع بالفعل وما زال.
فقضية زواج الأطفال قضية عالمية، لكنها أكثر انتشارًا في البلاد النامية، وخصوصًا المناطق الريفية التي يسيطر عليها الفقر والجهل. فعلى مستوى العالم، واحدة من كل خمس فتيات تزوجت قبل بلوغ سن 18 عامًا. وفي البلاد النامية يتضاعف هذا العدد، فنجد 40% من الفتيات متزوجات قبل بلوغ 18 عامًا، بالإضافة إلى 12% تزوجن ولم يبلغن 15 عامًا وفقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
وتشهد بلادنا العربية من الظلم جانبًا، ليس صغيرًا بالطبع، من خلال معاملات تجارية ناجحة بين المصدرين لبناتهم (أسر من قرى ريفية فقيرة) والمستوردين (أثرياء عرب أغلبهم من الخليج)، مقابل مبالغ مالية متفق عليها بحضور محامين وسماسرة زواج، لتنتهي الصفقة بانتهاء أجازة الثري العربي عائدًا لبلده، والفتاة عائدة لأهلها حاملة لجنين في أحشائها، مجهول مصيره كما يحدث في أغلب الحالات.
الحرب القذرة: اختطاف الأطفال
في حوار مع الراديو الوطني العام الأمريكي في سبتمبر/أيلول الماضي، تقول آتوود بأن أحد أكثر الجوانب المؤثرة في روايتها، والذي يدور حول فصل الأبناء عن أمهاتهم وآبائهم عند قيام دولة جلعاد، وإعادة توزيعهم على بيوت القادة مع إعطائهم هويات جديدة، هو واقع حدث بالفعل. ففي فترات الحروب والاضطرابات السياسية وقيام الأنظمة الاستبدادية، وقع الكثير من عمليات سرقة الأطفال، ولعل من أشهرها سرقة الجنرالات في الأرجنتين للأطفال في فترة الحرب القذرة 1976–1983. فخلال هذه الفترة، أبقى الجنرالات والقادة العسكريون على السجينات الحوامل حتى يضعهن أطفالهن، وبعدها تخلصوا من الأمهات، ثم أخذوا الأطفال الرُضّع ليُوزعوا عليهم ويُربوا في بيوتهم.
بعد سنوات عديدة، تمكن بعض هؤلاء الأطفال من الاجتماع بعائلاتهم الحقيقية مرة أخرى، بعدما اكتشفوا أن آباءهم الذين عاشوا معهم طوال هذه السنوات هم في الحقيقة من قتلوا آباءهم الحقيقيين. يخبر فرانسيسكو مادارياغا كوينتيلا الـ CNN، وهو أحد الأطفال المسروقين آنذاك، والذي اجتمع مع والده مرة أخرى في عام 2010 بعدما بلغ 35 عامًا، أن هذا الفعل كان الأسوأ والأكثر انحرافًا في الديكتاتورية العسكرية، فكان تعذيبًا مطولًا عبر الزمن.
على مدار عقود وحتى الآن، تجتمع الأمهات والجدات كل عام في ميدان «بلازا دي مايو» بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، مطالبات بإجابات للعثور على أبنائهم وأحفادهم الذين تم اختطافهم وتبنيهم بشكل غير شرعي خلال فترة الحرب القذرة، والتي قُدِر عدد المختفين فيها بثلاثين ألف شخص.
المرأة: خائنة لجنسها
في «قصة الخادمة» استخدم تعبير «خائن لجنسه» في سياقين بمعنيين مختلفين. ففي جلعاد الخائن لجنسه هو مثلي الجنس -رجلًا كان أم امرأة- بينما لدى الإماء وخادمات المنازل والعاملات الواقعات تحت وطأة هذا الظلم والقمع والاغتصاب والعنف، كانت زوجات القادة والعمّات القائمات بدور الإصلاح والتذهيب، وكل امرأة شاركت في تأسيس هذا الكيان، هي الخائنة الحقيقية لبني جنسها من النساء، مثلما قالت «مويرا»، صديقة أوفريد وإحدى الخادمات اللاتي تمكنّ من الهروب إلى كندا، وذلك في حوارها مع «سيرينا جوي»، زوجة القائد واترفورد وإحدى المشاركات الرئيسيات في تأسيس دولة جلعاد وكتابة قوانينها.
الشخصيات النسائية في «قصة الخادمة» شديدة الثراء والتعقيد والتنوع. ففيهن نرى الظلم والمظلومية، النظرات المتبادلة بين امرأة وأخرى، ديناميكيات العلاقة بين بعضهن البعض، الحكم على الأخريات والخوف منهن بدلًا من الوثوق فيهن. فعلى سبيل المثال، عندما تحاول أوفريد الهروب بمساعدة البعض، نجد زوجة العامل ترفض مساعدتها وإخفائها في منزلهم ليس فقط خوفًا من العواقب، بل لأنها ترى الأمة بشكل عام سواء أوفريد أو غيرها، هي امرأة قبلت بالتخلي عن طفلها، فتسأل أوفريد في احتقار وتأنيب: «كيف تقبلين أن تتخلين عن طفلك؟» وكأن الأخريات تملك الخيار، لا مُجبرة عليه مقابل حياتهن التي لا يسعهن حتى التخلص منها بأي وسيلة، هن الموضوعات تحت المراقبة لعدم الإقبال على الانتحار أو أي فعل مشابه.
ربما يكون مُنفرًا وُمرعبًا تصور الوقائع التي حدثت بالفعل، والتي منها استمدت مارجريت آتوود أحداث روايتها، لكن الأكثر تنفيرًا ورعبًا هو تصور دور النساء اللاتي شاركن في كل هذه الأحداث من وراء الستار، لنرى كيف كانت المرأة ولا زالت فاعلًا ومفعوًلا به عبر أحداث التاريخ، فهي ليست مجرد طرف في معادلة يقابلها الرجل في الطرف الآخر… بل الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك.