يكتب دوستويفسكي في روايته «ذكريات من منزل الأموات»؛

نعم إن الإنسان حيوان طويل العمر! ويمكن أن نعرفه بقولنا: الإنسان كائن قادر على أن يتعود على أي شيء، ولعل هذا خير تعريف يمكن أن يعرف به الإنسان.

هذا أيضًا ما تقوله العمة «ليديا»إحدى المربيات المؤمنات بالدولة الجديدة للخادمات الجدد في مسلسل «قصة الخادمة The Handmaid’s Tale»: «أعرف أن هذا يبدو غريبًا الآن، لكن العادي هو فقط ما اعتدنا عليه، ماتعيشونه الآن قد لا يبدو عاديًا لكن بعد زمن سيبدو عاديًا». فهل يمكن للإنسان أن يعتاد على الجحيم؟

على الأقل هذا ما تراهن عليه كل سلطة ترغب في فرض كابوسها الجديد.


النضال ضد النسيان

تدور أحداث مسلسل «The Handmaid’s Tale»المأخوذ عن رواية تحمل ذات الاسم للروائية والشاعرة الكندية «مارجريت آتوود»، صدرت في عام 1985، في مستقبل ليس ببعيد، حيث تنشأ ديكتاتورية دينية فيما كانت من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وصارت الآن تسمى «جيلياد». تسبب التلوث بالمواد الكيميائية والأشعة النووية إلى ارتفاع معدلات العقم وتشوه المواليد بما يهدد بكارثة حقيقية. ترى الجماعة الحاكمة -التي تسمي نفسها «أبناء يعقوب»- في الكارثة التي تحيق بالعالم، عقابًا إلهيًا على عصيان الإنسان وابتعاده عن تعاليم الرب.

الألم الذي عرفناه يتوارى تحت رماد هذا العالم المظلم، عالم جديد يفرض نفسه بالرعب والدم. تنذر النساء القادرات على الإنجاب «الخادمات» كملكية متبادلة لقادة العالم الجديد من أجل الحمل بديلاً عن زوجاتهم، فيما يشبه اغتصابًا طقسيًا أو كما تقول أوفريد (إليزابيث موس): «نحن لسنا عشيقات، نحن أرحام تمشي على قدمين». جميع الأسماء الواردة في النص الروائي/المسلسل لها مرجعيتها في الكتاب المقدس، فالعالم الجديد هو تأويل حرفي لسفر التكوين التوراتي.

لا تفضل آتوود أن يصنف عملها تحت جنس الخيال العلمي بل تفضل أن تطلق عليه «أدب النبوءة speculative fiction». رواية آتوود تنتمي إلى أدب الدستوبياحيث يتصور الخيال الروائي مستقبلاً مظلمًا لهذا العالم. الدستوبيا ليست مكانًا بعيدًا عن اليوتوبيا إنها وجهها الآخر، الكابوس النائم تحت قناع الحلم. بإمكاننا اعتبار اليوتوبيا النوايا الطيبة التي تفترش الطريق إلى الجحيم. كل يوتوبيا هي دستوبيا ممكنة أو كما يقول القائد «واترفورد» لخادمته: «نحن فقط نريد أن نجعل العالم أفضل، أفضل لا تعني أفضل للجميع، إنها دائمًا ما تعني الأسوأ للبعض».

تقارب آتوود وللمرة الأولى الدستوبيا بعيني امرأة. يمكن اعتبار قصة الخادمة النسخة النسوية من رواية أورويل «1984». كتبت آتوود الرواية بالفعل عام 1984، وصدرت في العام التالي. حيث نرى بعيني الخادمة أوفريد ما آل إليه العالم. اختار النص، الذي أعده للتليفزيون بروس ميللر، أن يسرد الأحداث معظم الوقت عن طريق «Voice Over» الصوت المصاحب للصورة، مونولوجات أوفريد الداخلية، حيث نعيش عبر صوتها كابوس جيلياد.

صوتها المكان الوحيد الذي تمارس فيه حريتها، سخريتها التي تفلت من أعين المراقبين وتمرر من خلاله روحها القديمة التي لم تخبُ بعد. يلجأ النص أيضًا أغلب الوقت لـ«الفلاش باك»، محققًا عبره عدة أهداف منها الغوص في ماضي الشخصيات ودواخلها، هذا التجاور بين الماضي القريب والحاضر الكابوسي يجعلك تفكر في قلق أن العالم الذي بين يديك الآن يمكن أن يتحول في غمضة عين إلى كابوس مريع.

تمنح هذه الذكريات للمشاهد متنفسًا لبعض الوقت بعيدًا عن كابوس جيلياد، وأخيرًا تمثل هذه الذكريات فعل مقاومة بالنسبة لأوفرويد، نضال الذاكرة ضد النسيان الذي تفرضه السلطة كتلك الجملة المكتوبة باللاتينية المحفورة في قلب خزانة ثياب الخادمة المنتحرة والتي سبقت أوفريد في هذا المكان وترجمتها «لا تدع الحمقى يهزمونك» أو كما يقول ميلان كونديرا في «كتاب الضحك والنسيان»؛ «إن نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان».


جوهر الرعب في كابوس «جيلياد»

ما هو مرعب حقًا في المستقبل المظلم الذي تخيلته آتوود ليس الخراب، أو الحرب، أو القمع، ليس الدم السائل في شوارع جيلياد، ولا الجثث المدلاة كدمى من حوائطها كديكور ثابت لمسرح الرعب اليومي، بل يكمن جوهر الرعب في أن هذا الكابوس قد عشناه من قبل ويصلح أيضًا لليالينا المقبلة. تقول آتوود في أحد حواراتها «لا شيء في كتابي لم يحدث من قبل، لم أتحدث أبدًا عن شيء لم يفعله البشر بالفعل في مكان ما وفي زمان ما».

التأسيس السينمائي

يعود الفضل للمخرجة «ريد مورانو» والتي أخرجت الحلقاث الثلاث الأولى من «قصة الخادمة» في التأسيس سينمائيًا لعالم جيلياد، فخياراتها الأسلوبية هي التي خلقت هذا الجو الكابوسي لدستوبيا جيلياد جنبًا إلى جنب مع كلمات آتوود. استخدام اللقطات القريبة والقريبة جدًا نجح في نقل الجو الخانق والحصار الذي تعيشه الشخصيات. استخدام لقطات وجهة النظر الشخصية جعل المشاهد أيضًا يتوحد مع الشخصيات ويعايش نفس الكابوس. واستخدام اللقطات المحلقة لعين الإله والتي تظهر ضآلة وانسحاق الشخصيات في قاع الكادر، يتناسب مع الفاشية الدينية التي تحكم كما لو كانت قدرًا إلهيًا، كما تتناص مع عبارات التحية التي تتبادلها الشخصيات «Under His Eye».

كماتوجد الشخصيات النسائية دائمًا على جانبي الكادر وليس في المركز بما يعبر بصريًا عن التهميش والقمع الذي تعانيه النساء في هذا العالم،على عكس الذكريات التي تظهر أوفريد ومويرا في مركز الكادر. بالإضافة لاستخدام عدسات خاصة تجعل مجال وضوح الرؤية ضئيلاً جدًا في الكادرات، وتعتيم الجزء الأكبر (أي جعله خارج مجال الوضوح البؤري) وهو ما يتناسب مع جو الحصر والمنع والرقابة الصارمة التي تحكم دستوبيا جيلياد.

دلالات اللون الأحمر في قصة الخادمة

الألوان مثل القوانين والأسماء في «قصة الخادمة» تحمل مرجعية دينية. فالأزرق الذي ترتديه زوجات القادة يشير إلى العذراء مريم والتي تظهر في الأيقونات واللوحات ترتدي هذا اللون، بينما يشير الأحمر إلى مريم الأخرى، مريم المجدلية، مريم الخاطئة، لكن الأحمر يكتنز بدلالات أخرى، لون دم الخصوبة التي تميز الخادمات.

الأحمر أيضًا هو لون الحياة، لون الرغبة المطفأة ولون الجمر المتقد تحت رماد جيلياد. هذا ما يحدث في آخر حلقات الموسم الأول حيث تقوم الخادمات بفعل التمرد الجماعي الأول حين يرفضن رجم «جانين». يسرن في صفين على خلفية أغنية نينا سيمون «feeling good». الأحمر أيضًا يكمن بداخله من البداية إمكانية الثورة أو كما تقول أوفريد «لو لم يريدوا لنا أن نصير جيشًا، لماذا منحونا إذن زيًا موحدًا؟»

بشائر ثورة حمراء على أبواب جيلياد، هكذا ينتهي الموسم الأول من قصة الخادمة والحائز على جائزتي جولدن جلوب والإيمي كأفضل عمل درامي لعام 2017، وأفضل ممثلة لبطلة العمل «إليزابيث موس». النجاح الجماهير والنقدي للموسم الأول من المسلسل يجعلنا نأمل في موسم ثانٍ في مستوى سابقه، والذي ينتظر عرضه بنهاية الشهر الجاري.