الحج كشأن أوروبي: كيف رعت أوروبا الحج طوال قرنين؟
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
الحج السنوي إلى مكة طقس إسلامي مركزي وأحد أكبر وأقدم التجمعات في العالم. يؤدي الحجاج الفريضة على مدى ثلاثة أيام خلال شهر ذي الحجة، آخر شهور التقويم القمري الإسلامي.
يؤدي الحجاج سلسلة من الشعائر في عدد من المواقع المحددة، في إعادة إحياء لبعض أنشطة الشخصيات الدينية القديمة. والحج الإسلامي فريضة، خلافًا لغيره من أنواع الحج الديني في العالم. وبالحج إلى أقدس مدينة إسلامية -مسقط رأس النبي محمد وموضع بدء الوحي- يوفي المسلمون ركنًا من أركان دينهم الخمسة.
يعد الحج صناعة مربحة بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية، الدولة الحديثة التي تقع مكة ضمن أراضيها، إذ تمثل إيرادات الحج 3% من إجمالي الناتج المحلي، وهو في الوقت ذاته حدث جماهيري يتوجب على المملكة الإشراف عليه بتكلفة باهظة. لقد استقبل السعوديون في العام 2015 وحده نحو مليوني حاج، وهو عدد محكوم بنظام الحصص الذي أدخل في الثمانينيات للسيطرة على الحشود الجارفة المتعطشة إلى زيارة المدن المقدسة.
وقد استثمرت الحكومة السعودية مليارات الدولارات في البنية التحتية للحج التي تشمل محطتين جويتين مخصصتين للحج ومرافق الصرف الصحي والمرافق الصحية في مكة وحولها، وكذلك الطرق السريعة والأنفاق التي تربط هذه المواقع، كل ذلك لإدارة وتسهيل حركة الحج السنوية.
مع ذلك، شهد الحج عام 2015 مأساة، إذ تسبب انهيار رافعة بناء بمكة في مقتل أكثر من مئة شخص، وأدى التدافع خارج المدينة إلى عدة آلاف من القتلى.
والحج، باعتباره ظاهرة عالمية، يتوجب إدارته من قبل الدول القومية العديدة التي ترسل مواطنيها إلى مكة كل عام للزيارة. يبلغ تعداد المسلمين اليوم نحو 1.6 مليار نسمة موزعة حول العالم. ينجز هؤلاء المسلمون معاملاتهم من أجل بلوغ مكة المكرمة عبر البلدان التي يحملون جنسيتها، والتي تصدر تأشيرات الحج بناءً على نظام الحصص السعودي. (بشكل عام، يصدر السعوديون تأشيرة حج واحدة لكل 1000 مواطن مسلم).
إن تحديد الفائز بتأشيرة الحج، وكذا كيفية ضمان سلامته، لعملية معقدة. فالطلب على الحج يفوق المعروض من التأشيرات في بلدان كثيرة، وثمة قوائم انتظار طويلة، خاصة بالنسبة لمن لا يملكون علاقات سياسية.
الغريب في الأمر أن للدول الأوروبية ارتباطًا وثيقًا -إلى درجة سيجدها الكثيرون مثيرة للدهشة- بهذا الحدث الإسلامي السنوي، وهو ارتباط قائم منذ قرنين تقريبًا.
في الوقت الذي تغذي فيه السياسات المثيرة للشقاق موجات الهجرة الجماعية للمسلمين إلى أوروبا، وتعيد إحياء المخاوف والقوالب النمطية عن الإسلام باعتباره دينًا تآمريًا يهدد أنماط الحياة «الغربية»، يغدو من الواجب التذكير باهتمام أوروبا السابق بالحج ومشاركتها فيه ودورها في تشكيل التاريخ الحديث لهذه الشعيرة الإسلامية المقدسة.
أوروبا باعتبارها مركزًا للحج العالمي
تعد أوروبا اليوم مركزًا للحج العالمي باعتبارها مصدرًا للحجاج ومحورًا للنقل في الوقت ذاته.
أدت هجرة المسلمين واسعة النطاق إلى أوروبا الغربية وسقوط الشيوعية في الشرق إلى نمو المجتمعات الإسلامية في أوروبا. إذ يعيش في أوروبا اليوم أكثر من 40 مليون مسلم، يمثلون 6% من إجمالي عدد السكان.
يحج اليوم ما لا يقل عن 100 ألف مواطن أوروبي إلى مكة سنويًا، وتتزايد أعدادهم بالتوازي مع نمو الجاليات المسلمة في أوروبا، التي تسارعت في عام 2015 مع وصول أكثر من مليون مهاجر ولاجئ من أفغانستان والشرق الأوسط وأفريقيا.
وكنوع من الاستجابة لاندماجها في شبكات الحج العالمية، تولت الحكومات الأوروبية رعاية الحج بشكل مطرد، وهادئ في الوقت نفسه.
على سبيل المثال، ساهمت وزارة الخارجية والكومنولث في بريطانيا عام 2000 في تمويل بعثة الحج البريطانية لتقديم الدعم القنصلي والخدمات الطبية لمواطنيها في أراضي المملكة العربية السعودية. أما فرنسا، فرغم كونها علمانية رسميًا، إلا أن حكومتها تبعث قنصلًا إلى جدة لمساعدة المواطنين الفرنسيين في الحج. قام أحدهم مرة، وهو متحول إلى الإسلام يدعى لويس بلين، بأداء قدر كبير من مهامه الوظيفية راكبًا دراجة نارية، متنقلًا في أنحاء مكة والمواقع المقدسة لمساعدة المواطنين الفرنسيين.
أما عن روسيا، ذات الـ14 مليون مواطن مسلم، وهو تعداد يفوق عدد سكان أي دولة أوروبية، فلعلها الدولة التي بذلت قصارى جهدها لدعم مواطنيها في الحج. إذ يستمتع مسلمو روسيا برحلات مخفضة إلى جدة خلال موسم الحج على شركة طيران إيروفلوت منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي، في ظل حكومة بوتين. كما يتولى مكتب اتصال الحج الذي أنشأته الدولة ترتيبات التأشيرات والنقل.
في تطور جديد في العام 2015، بعد ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، عرضت روسيا إعانات حج كريمة على تتار القرم (1000 دولار للفرد، حوالي ثلث تكلفة رحلة الحج الاقتصادية) في محاولة واضحة لتنمية ولاءاتهم تجاه موسكو عوضًا عن كييف.
الحج في زمن الاستعمار الأوروبي
بدأ انخراط أوروبا العميق في الحج خلال عهد الإمبريالية الأوروبية العالمية.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كانت القوى الإمبريالية في أوروبا قد استعمرت معظم آسيا وكل أفريقيا تقريبًا، وأخضعت معظم مسلمي العالم للحكم الاستعماري. (لم تنجُ من الدول الإسلامية إلا فارس وأفغانستان والإمبراطورية العثمانية.) وفي العقود السابقة للحرب العالمية الأولى، حكمت كل من القوى الإمبريالية الرائدة اليوم -بريطانيا وهولندا وفرنسا وروسيا- عددًا من المسلمين في إمبراطورياتها يفوق عدد سكان أي دولة إسلامية مستقلة.
وكان أحد آثار الهيمنة الاستعمارية على الأراضي ذات الأغلبية المسلمة هو أن الحج أصبح تحت التأثير والسيطرة الأوروبية لأول مرة في التاريخ.
منذ بزوغ الإسلام، كاد الحج أن يكون تحت رعاية حصرية للحكام المسلمين، عبر الأراضي التي يحكمها المسلمون، وبمساعدة المسئولين المسلمين على طول الطريق. كانت الوجهة النهائية للحجاج -مدينة مكة المكرمة- مغلقة (وما زالت) أمام غير المسلمين.
قبل عصر الإمبريالية الأوروبية العالمية، أدى المسلمون الحج تحت رعاية الإمبراطوريات الإسلامية. أنفقت الحكومات الإمبراطورية المملوكية والمغولية والعثمانية مبالغ كبيرة لدعم الحجيج في رحلتهم الطويلة -والخطيرة في كثير من الأحيان- إلى مكة، عبر إمبراطورياتها على طول الطرق البرية والبحرية.
ربما كان العثمانيون الأكثر طموحًا في رعاية الحج. إذ كانوا يطلقون قوافل حج إمبراطورية على طول الطرق البرية الرئيسية إلى مكة المكرمة سنويًا. كان ذلك ينطوي على أعداد هائلة من البشر والدواب، بقيادة حراسة عسكرية، وبلغ عدد الحجيج فيها 50000 حاج بحلول أوائل القرن التاسع عشر.
قام العثمانيون بتحصين الطرق الصحراوية التي تربط دمشق والقاهرة بمكة، وشيدوا القلاع والآبار والصهاريج على طولها، لتأمين القافلة من هجمات اللصوص، وتنظيم حركة الحج.
أقام العثمانيون بنيتهم التحتية المعقدة والمكلفة للحج لأسباب رمزية وإستراتيجية. إذ كان ينتظر من السلطان العثماني، بصفته الحاكم الإمبراطوري (بعد القرن السادس عشر) للمدن الإسلامية المقدسة -مكة المكرمة والمدينة المنورة- أن يتولى رعاية الحج، مؤكدًا بذلك دعواه بأنه «حامي» الحجاج و«خليفة المسلمين أجمعين».
في الوقت ذاته، كان العثمانيون قادرين على توزيع القوات والمسؤولين في محافظاتهم العربية النائية من خلال البنية التحتية للحج التي بنوها والاحتفالات التي نظموها حول القوافل السنوية. كما تمكنوا من إظهار قوة الخليفة-السلطان للسكان المحليين، وكذلك المسلمين الأجانب.
لكن ذلك الوضع بدأ في التغير ببطء بحلول القرن السادس عشر. فمع توغل الأوروبيين في المحيط الهندي وأجزاء من آسيا، احتلوا أراضي ذات أغلبية مسلمة وفرضوا سيطرتهم على مسافات طويلة من طرق الحج التقليدية. ومع نمو الإمبراطوريات الأوروبية، لا سيما في القرن التاسع عشر، ازداد اهتمامها ومشاركتها في الحج.
بحلول نهاية القرن العشرين، كان معظم الحجيج الذين يصلون مكة من الرعايا الاستعماريين. وقد وصلت منهم أعداد غير مسبوقة -ما بلغ 300000 سنويًا- بسبب الثورة التي أحدثتها الإمبريالية الأوروبية نفسها في حركة التنقل العالمي.
أدى إدخال السكك الحديدية والسفن البخارية عبر المستعمرات الأوروبية إلى تحويل الحج من طقوس صغيرة تؤديها بشكل رئيسي بعض النخبة إلى حدث سنوي جماعي يهيمن عليه فقراء الريف، الذين تكدسوا فوق أسطح البواخر المتوجهة إلى شبه الجزيرة العربية بفضل تذاكر الدرجة الثالثة والرابعة. وقد تصدر ما لاقوه من عذابات على أيدي قباطنة السفن الجشعين عناوين الصحف في أوروبا، ومثلت تلك الفضيحة الأخلاقية قلب رواية جوزيف كونراد لورد جيم المنشورة عام 1900.
أوروبا راعية للحج
كان على القوى الإمبريالية في أوروبا أن تقرر ما يتوجب فعله بتقليد الحج هذا الذي ورثته مع توسعاتها الاستعمارية.
في منتصف القرن التاسع عشر، مع بدء نمو حركة الحج بين المستعمرات الأوروبية ومكة، احتار المسؤولون الاستعماريون فيما يخص الحج. فمع تزايد القلق من ازدهار الحركات السياسية الإسلامية التي تمثل تهديدًا للإمبراطورية، والمخاوف من الحج باعتباره موسمًا لانتشار الكوليرا وسائر الأمراض المعدية، اقترح البعض حظر الحج من الأساس.
كان ذلك هو التفكير بالفعل خاصة بعد عام 1865، وهو العام الذي أصبح فيه تفشي الكوليرا الهائل في مكة وباءً عالميًا، إذ انتشر على نطاق واسع مع انتشار الحشود العائدة من الحج في مختلف بقاع الأرض. بعد هذا الوباء -الذي أودى بحياة أكثر من 200 ألف شخص حول العالم في مدن بعيدة مثل نيويورك- عقدت القوى الأوروبية أول اجتماع من سلسلة مؤتمرات قضت باعتبار الحج تهديدًا صحيًا وأمنيًا للإمبراطورية. لكن الزمن أثبت استحالة محاولات منع الحج: إذ لا يمكن منع الحج أو إيقافه بتلك السهولة لكونة ركنًا دينيًا وفريضة على المسلمين.
مع نمو السيطرة الأوروبية على السكان المسلمين خلال القرن التاسع عشر، بدأ المسؤولون الاستعماريون في الانتباه إلى فوائد قد تجلبها رعاية الحج بدلاً من تقييده أو حظره. ففي أوائل القرن التاسع عشر، بدأ المسؤولون الاستعماريون في تجربة رعاية الحج كوسيلة لكسب دعم المسلمين الذين تم استعمارهم مؤخرًا، مع مراقبة اتصالاتهم بالمسلمين من سائر أنحاء العالم أيضًا.
بدأ المسؤولون القيصريون في القوقاز الخاضع لحكم روسيا، خلال أربعينيات القرن التاسع عشر، في دعم رحلات الحج للنخب الإسلامية المحلية التي كانوا يحاولون دمجها في الإدارة الروسية الناشئة. وبالمثل، عرضت الحكومة الاستعمارية الفرنسية بغرب أفريقيا في أوائل خمسينيات القرن التاسع عشر دفع ثمن رحلات حج «أصدقاء النظام الاستعماري»، كجزء من جهودها الواسعة للدعاية لتسامح الحكم الاستعماري الفرنسي.
وبحلول نهاية القرن التاسع عشر، ولأسباب مختلفة تتعلق بالرغبة في الحفاظ على الإمبراطورية وتنمية الولاءات الإسلامية، بدأت جميع القوى الأوروبية في رعاية الحج؛ فدعمت السفر بين مستعمراتها والجزيرة العربية خلال موسم الحج، وفتحت القنصليات الأجنبية على طول الطرق المؤدية إلى مكة، وأصدرت قوانين جديدة لحماية الحجاج من الأذى الجسدي والخداع المالي.
عشية الحرب العالمية الأولى، كانت الإمبراطوريات الأوروبية تشارك في جميع جوانب الحج تقريبًا. في الواقع، كان معظم المسلمين ليجدون استحالة في تأدية الحج في هذه الحقبة دون التعامل مع المسؤولين الأوروبيين.
أقام الهولنديون «مكتب الحج» متعدد الخدمات في جدة. وكان نائب القنصل البريطاني -وهو طبيب مسلم وأحد رعايا بريطانيا الهنود- يدير مستوصفًا طبيًا خارج القنصلية. كما عمل أطباء وممرضون أوروبيون في اثنين من مرافق الحجر الصحي الرئيسية التي أنشئت لفحص الحجيج في الطور (بالجزء السفلي من شبه جزيرة سيناء) وفي جزيرة كمران (بالبحر الأحمر).
لم يكن هدف القوى الاستعمارية الأوروبية من رعايتها للحج مجرد السيطرة عليه أو احتواء المشاكل التي أوجدها باعتباره حركة جماهيرية سنوية، وإنما كانت تغتنم الفرصة التي أوجدتها الفتوحات الإمبراطورية للاستفادة من الحج، والاستعانة به كآلية للتكامل والتوسع الإمبراطوري.
سعت القوى الاستعمارية من خلال رعايتها للحج إلى جعله أداة للتكامل الإمبراطوري. كان هذا جزءًا من العملية الأوسع الجارية عبر الإمبراطوريات الأوروبية خلال القرن التاسع عشر والتي أضفت الحكومات الاستعمارية من خلالها الطابع المؤسسي على الإسلام والممارسات الإسلامية لتعزيز خططها الإمبراطورية.
صدمت المشاركة الأوروبية في الحج عديدًا من المراقبين المسلمين الذين لم يتوقعوا استقبالهم في الجزيرة العربية العثمانية من قبل الأوروبيين. إذ فوجئ عبد الرشيد إبراهيم، المفكر والناشط الإسلامي الروسي، لدى وصوله محطة الحجر الصحي في كمران في العام 1908، بامرأة مسيحية تستقبله على باب مبنى التعقيم. سأله رفيقه في السفر المذهول بنفس الدرجة «ألسنا في الأراضي العثمانية؟» ليجيبه إبراهيم قائلًا: «لا أعرف».
أوروبا والحج: دروس من الماضي
لا يكاد الحج الذي نعرفه اليوم أن يشبه نظيره في أوائل القرن العشرين. لقد حلت الطائرات منذ فترة طويلة محل السفن والسكك الحديدية، وتحول مسار الحج من رحلة متعددة المواقع تستغرق أشهرًا إلى رحلة سريعة ومباشرة بين مختلف البلدان ومكة.
بالكاد يمكن لمن انتقل عبر آلة الزمن من العام 1900 إلى الحاضر أن يتعرف على مكة: جرف السعوديون مباني العصر العثماني والمقابر المقدسة في جميع أنحاء المدينة لإفساح المجال لمراكز التسوق الجديدة والفنادق الفاخرة، كما تبلغ أعداد الحجيج اليوم الملايين لا مئات الآلاف.
إلا أن الأحداث والعمليات العالمية المرتبطة بالإمبريالية الأوروبية قد أعادت الحج اليوم ليصبح ظاهرة أوروبية ثانية. فقد جلبت الهجرة بعد الاستعمار منذ منتصف القرن العشرين، نتيجة عوامل دفع وجذب مختلفة، ملايين المسلمين من المستعمرات السابقة إلى القارة الأوروبية.
في الوقت نفسه، أدى تفكك الاتحاد السوفييتي في التسعينيات -الذي أشاد به الكثيرون باعتباره انهيارًا متأخّرًا للإمبراطوريات الأوروبية الأخيرة- إلى تحرير ملايين المسلمين من الإلحاد المفروض مؤسسيًا، مما أدى إلى عودة ظهور الإسلام في روسيا والدول الشيوعية السابقة المحيطة بها.
غدت مطارات أوروبية رئيسية الآن محطات على طول طرق الحج العالمية. في الأيام التي تسبق طقوس الحج المقررة في شبه الجزيرة العربية، تتجمع حشود من المسلمين ويصلون عند بوابات مغادرة المطار في لندن وبرلين وباريس وموسكو، قبل الصعود إلى رحلاتهم المتجهة إلى مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة.
في الوقت الذي تكافح فيه الدول الأوروبية اليوم مع تقليد الحج الذي ورثته وأفضل السبل لإدارته، يمكن للتاريخ أن يقدم دروسًا وحكايات تحذيرية. إن قصة احتضان القوى الإمبريالية الأوروبية للحج كجزء من جهود أوسع لدمج السكان المسلمين في إمبراطوريتهم لها أصداؤها اليوم.
لعل الإمبراطورية الروسية هي الحالة وثيقة الصلة بوضع الدول الأوروبية اليوم. بالنسبة للإمبراطوريات البريطانية والهولندية والفرنسية، كان الحج إلى حد كبير قضية خارجية، تقع في مستعمرات بعيدة في الخارج، وليست مسألة داخلية. لكن روسيا مختلفة. فباعتبارها إمبراطورية برية، كان لدى روسيا عدد كبير من المسلمين الذين يعيشون داخل حدودها، وطرق الحج التي تقطع أراضيها المركزية الناطقة باللغة السلافية وموانئ البحر الأسود المزدحمة، وبالتالي لديها مصالح داخلية وخارجية في الحج.
إذن لم يكن الحج بالنسبة لروسيا مسألة تقتصر على المناطق والسكان البعيدين، منفصلة عن القضايا المحلية. بل كان حدثًا سنويًا واضحًا وواسعًا للغاية يجري إلى حد كبير داخل حدود الإمبراطورية، حدثًا مرتبطًا بالقضايا المحلية مثل إيرادات الدولة، وسياسات الهوية، ودمج سكان روسيا المسلمين البالغ عددهم 20 مليون نسمة (حوالي 15% من إجمالي سكان الإمبراطورية في عام 1900).
كافحت روسيا في أوائل القرن العشرين للتوفيق بين هويتها التاريخية كإمبراطورية مسيحية أرثوذكسية وبين النسبة المسلمة من سكانها المداومة على التنقل بشكل متزايد، ممن يخشى أن تكون ولاءاتهم للسلطان العثماني المجاور، وليس القيصر.
أراد عديد من المسؤولين الروس تقييد الحج لأسباب عديدة. ولكن كيف يمكنهم القيام بذلك دون أن يبدو ذلك تدخلًا في ممارسات المسلمين وانتهاكًا لحريتهم الدينية؟ بالمقابل، كيف يمكنهم توسعة رعايتهم للحج دون إزعاج الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وفقدان دعمها المؤسسي الحاسم للنظام؟
تواجه كثير من هذه الأسئلة نفسها المسؤولين الأوروبيين اليوم، بما في ذلك في روسيا، وهم يكافحون من أجل إدارة الحج وقبوله كجزء من ثقافاتهم الوطنية المتطورة. هذه ليست أسئلة جديدة بقدر ما هي أسئلة قديمة، متجذرة في الماضي الاستعماري لأوروبا، أسئلة باتت ملحة للقوى الأوروبية خلال الموجة الأولى من العولمة في أواخر القرن التاسع عشر.
باستكشاف دور أوروبا المهمل والمتناقض والمعقد في تاريخ الحج، يمكننا أن ندرك التاريخ الأعمق للمناقشات الحالية عن الإسلام في أوروبا، وكيف أن تصورات اليوم عن المسلمين تتأثر من عدة نواح بالقوالب النمطية والأحكام المسبقة المكررة في أواخر القرن التاسع عشر.
على سبيل المثال، خشي عديد من المسؤولين الاستعماريين الأوروبيين في أوائل القرن العشرين أن تكون مكة مركزًا للتآمر السري المناهض للاستعمار. ولكن لم يتم الإعداد لثورة كبيرة مناهضة للاستعمار في مكة. وتكشف الروايات المباشرة لأكثر من ناشط من عموم الإسلام مدى خيبة أملهم من عدم اكتراث الحجاج بالسياسة. أعرب عبد الرشيد إبراهيم، المفكر والناشط الإسلامي البارز، عن أسفه لعجزه عن إشراك المسلمين البسطاء الذين التقاهم في مكة في النقاش السياسي.
يبقى أن نرى كيف ستتكيف أوروبا مع دورها الجديد والمتنامي كمركز للحج العالمي. والسياق اليوم مختلف تمامًا، إلا أن ثمة دروس يمكن استخلاصها من التاريخ. كان العناد الأوروبي لرعاية الحج انتهازيًا وإمبرياليًا بالتأكيد. كان الهدف هو حماية الإمبراطورية، وإخضاع ودمج الموضوعات الاستعمارية الإسلامية عبر استيعاب الإسلام.
في الوقت نفسه، كان في هذه السياسة شيء من التفاؤل يجب الإشارة إليه: لم يكن المسؤولون الأوروبيون يخشون الإسلام وأبعاده العالمية، وهو ما يتجلى في الهجرة الدائرية للمسلمين بين المستعمرات ومكة. في الحالة الروسية على وجه الخصوص، كان هناك اعتقاد سائد بأن الميراث الإسلامي للحج يوفر فرصًا -لا مجرد مخاطر- ويمكن إعادة تشكيله -عوضًا عن قمعه- في صورة تقليد روسي.
يطرح الحج اليوم أسئلة صعبة على الدول الأوروبية التي تسعى إلى التوفيق بين الهويات الوطنية والعلمانية وبين احترام الحرية الدينية لأعداد كبيرة ومتنامية من المواطنين المسلمين، في الوقت نفسه الذي يتم فيه تطوير إستراتيجيات جديدة لدمج هؤلاء المواطنين في الأمة القومية.