الخليج بين «الممانعة» و«الاعتدال»: ما أشبه الليلة بالبارحة
بعد الربيع القصير الذي شهدته المنطقة العربية، الذي ما لبث حتى صار صيفًا ملتهبًا في عدد من البلدان العربية خلال السنوات الماضية كسوريا وليبيا واليمن، تعيش منطقتنا اليوم رغم شدة حرارة صيف هذا العام، شتاءً سياسيًّا بامتياز، شتاءً تبدو خلاله الأوضاع في منطقتنا الآن تشرع بالعودة إلى أجواء ما قبل الربيع، من خلال مؤشرات وشواهد عديدة لا تخفى.
تبدو الأزمة القطرية الخليجية القائمة الآن، كأحد أبرز معالم الردة عن مكتسبات ذلك الربيع، حيث شرع النظام العربي الرسمي القديم، الذي بدأت جراحه في الالتئام في العديد من البلدان، كليبيا التي شهدت البارحة إطلاق سراح سيف الإسلام القذافي، واليمن الذي يدير خيوط مشهدها الدامي من الخلف الرئيس السابق علي عبد الله صالح وأبناؤه، رغم تصدر الحوثيين للمشهد السياسي والإعلامي، في الهجوم على إحدى نقاط الانطلاق الأساسية لذلك الربيع، ألا وهي قطر ذات التأثير الإعلامي والسياسي غير الخافي في العالم العربي.
أمر ربما لم يلحظه الكثيرون حتى الآن، يعزز من فرضية عودة المنطقة إلى أجواء ما قبل الربيع، هو بدء استعادة المنطقة تدريجيًا الاستقطاب الإقليمي نفسه الذي كان قائمًا قبل الربيع العربي، ألا وهو استقطاب محوري الممانعة والمقاومة كما كان يطلق عليه، في مقابل ما يسمى بمحور الاعتدال الذي كان يضم كلا من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن ودولة الإمارات ذات الدور الفاعل والبارز في المشهد الإقليمي في السنوات الأخيرة.
العنصر الغائب الذي يفرض نفسه خلف تناولات حديث الكثير من الساسة والمحللين والمعلقين الآن عن الأزمة الخليجية القطرية، هو قضية صفقة القرن التي ربما تفرض على حلفاء الأمس في سوريا واليمن تموضعات جديدة تستدعي الاستقطاب الإقليمي القديم عينه الذي كان قائمًا قبل الربيع العربي، والذي يبدو أنه قد يعود قريبًا، ويا للمفارقة في لحظات ما يبدو أنه نهاية ذلك الربيع.
المحاور الإقليمية خلال سنوات الربيع
بحسب الصحفي البريطاني ديفيد هيرست رئيس تحرير موقع ميدل إيست آي، تنافست خلال سنوات الربيع العربي ثلاثة تكتلات إقليمية من أجل السيطرة على المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط، وهي:
– الأول تقوده إيران، ويضم فاعليها من الدول كلاً من العراق، وسوريا، ومن الفاعلين من غير الدول كلاً من الميليشيات الشيعية في العراق، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن.
– والثاني هو الأنظمة القديمة في الدول الخليجية: المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، والبحرين، في حين يضم أيضًا كلًا من الأردن ومصر.
– التكتُّل الثالث قادته تركيا، وقطر، والإخوان المسلمون، والقوى الفاعلة في الربيع العربي.
يبدو المشهد اليوم وعلى خلاف ذلك التمحور الإقليمي الذي ساد المشهد في منطقتنا خلال السنوات الماضية، يتجه إذا فشلت مساعي الوساطة في الأزمة الخليجية، وفشلت المساعي الحثيثة الجارية حاليًا للضغط على حكومة حركة حماس في قطاع غزة من أجل عقد صفقة سياسية مع القيادي في حركة فتح والقائد السابق لجهاز الأمن الوقائي في قطاع غزة محمد دحلان، نحو استقطاب يحيي الانقسام السابق نفسه في المنطقة بين ما كان يسمى بمحوري الممانعة والاعتدال.
يقول فريد زكريا، المحلل السياسي ومقدم برنامج GPS على شبكة CNN، في هذا السياق: إن الأزمة التي تشهدها المملكة العربية السعودية وقطر ترتكز على دوافع جيوسياسية، وستخلق حالة من عدم الاستقرار الكبيرة في المنطقة، حيث ستقترب الآن قطر -بحسبه- من إيران وتركيا، وتكون أحلافًا مع لاعبين معادين للسعودية في العالم الإسلامي.
يمكننا أن نقرأ كذلك في سياق تحليلنا الراهن محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا العام الماضي، وما تلاها من تقارب تركي روسي لا تخطئه عين، وتراجع واضح للدور التركي في دعم الثورة السورية، كنقطة البداية ربما في التغير في ملامح المحاور الإقليمية في المنطقة.
من جهة أخرى تشكل الأزمة القطرية الخليجية الآن، والتي كلما طال أمدها زادت على الأرجح فرص التقارب بين إيران وقطر أكثر فأكثر، منعطفًا مهمًا في ذلك التبدل المشار إليه، وهو ما سينعكس بدوره كمحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا وما أعقبها من تقارب تركي روسي، سلبًا بطبيعة الحال على مستقبل الثورة السورية.
«صفقة القرن»
من خلال العديد من الإشارات لعل أبرزها تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل جبير التي يدين فيها دعم الدوحة لحركة حماس، تبدو الأزمة الخليجية القطرية غير بعيدة بنهاية المطاف عن الترتيبات التي تجري في المنطقة في إطار ما يسمى الآن بصفقة القرن.
حيث يشكل في هذا الإطار دعم قطر، الراعي الإقليمي لحركة حماس وحكومتها في قطاع غزة، سندًا أساسيًا للحركة لاسيما في ظل ظروف الحصار التي يعاني منها القطاع منذ سنوات عديدة، وهو ما خفف جزئيًا من ضغط الحصار وأجهض مفعوله السياسي المراد منه لسنوات.
ولذلك فمن أجل إحداث أي تسوية في الفترة المقبلة على أي مستوى، سواء على صعيد إعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، أو على صعيد المشاريع والتسويات الإقليمية المطروحة حاليًا، يشكل الموقف القطري الداعم للحركة عقبة حقيقية لتحقيق أي تسويات على الصعيدين بالشكل الذي تريده الأطراف الأخرى، وهم في هذه الحالة دول ما يسمى بمحور الاعتدال وجناح محدد من حركة فتح، ألا وهو جناح محمد دحلان، الذي يسعى في تلك الأثناء لعقد تسوية مع قيادات حركة حماس في غزة.
المتوقع خلال الأيام والأسابيع المقبلة أن تتمخض جهود الوساطة عن عروض في هذا السياق، ستتجاوز بطبيعة الحال دعاوى دعم قطر للإرهاب والمطالب التي قُدِّمت حتى الآن، وعند تلك اللحظة سيظهر التلامس بوضوح فيما يبدو بين القضيتين، الأزمة القطرية الخليجية من جهة، وقضية ما يسمى بصفقة القرن من جهة أخرى.
لا يخفى أن كل هذه المجريات الحادثة الآن لا تبتعد كثيرًا عن الجهود الملموسة القائمة منذ العام الماضي على قدم وساق لإعادة ترتيب المشهد الإقليمي، التي كان أبرزها اللقاء السري في مدينة العقبة الأردنية في 21 فبراير/ شباط من العام الماضي، الذي كشفت عنه صحيفة هآرتس الإسرائيلية، والذي شارك فيه كل من الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي والملك الأردني عبد الله الثاني؛ بحضور وزير الخارجية الأمريكي السابق جون كيري؛ الذي طرح مبادرة سلام إقليمية على رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو خلال اللقاء السري، وفقًا لما نقلته إذاعة صوت إسرائيل.
ومن أبرزها كذلك اللقاء السري التالي الذي تم في العام نفسه، وتحديدًا في نيسان/أبريل، أي بعد حوالي شهرين من اللقاء الأول، بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ورئيس المعارضة إسحاق هرتسوغ مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في القاهرة، والذي كشفت عنه أيضًا صحيفة هآرتس الإسرائيلية الأسبوع الماضي.
وكان اللقاء الأخير يهدف إلى تقريب وجهات النظر بين نتنياهو وهرتسوغ، لتشكيل حكومة ائتلافية، للبدء في عملية سلام إقليمية واسعة النطاق.
في أبريل / نيسان من العام الماضي أيضًا، الشهر نفسه الذي حدث فيه ذلك القاء السري المشار إليه، شهدت القاهرة كذلك زيارة الملك سلمان التي وُقِّعت خلالها اتفاقية إعادة ترسم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وهو تزامن هنا ربما لم يجئ من قبيل المصادفة.
حيث أكد في تلك الأثناء عادل الجبير، وزير الخارجية السعودي، أن السعودية ملتزمة بالاتفاقات التي تلتزم بها مصر بشأن اتفاقية السلام فيما يتعلق بجزيرتي «تيران وصنافير». وهو ما حلله البعض كمقدمة لتوسيع اتفاقية كامب ديفيد لتضم السعودية بموجب سيادتها المستجدة على الجزيرتين، وبموجب إدارتها المشتركة مع مصر لجسر الملك سلمان المزمع تدشينه بين مصر والسعودية.
ولعله من المفارقة الآن أن تتزامن الأزمة القطرية الخليجية مع المساعي الجارية للمصالحة بين دحلان وحركة حماس، مع إقرار البرلمان المصري لاتفاقية تيران وصنافير، في توقيت واحد، في مشهد كاشف للغاية يشي بالتحولات المقدمة عليها المنطقة في الفترة المقبلة.