فيلم «الضيف» وجماليات الحوار السينمائي
مجموعة من الأصدقاء يجلسون بإحدى المقاهي في أحد أيام الخميس بعد أسبوع عمل طويل. يتسامرون، ويثرثرون، ويلعبون الطاولة أو الدومنيو أو الشطرنج. يدخلون في جدالات ﻻ تنتهي عن كرة القدم، وعن السياسة، وعن تريندات السوشيال ميديا، أو عن أي شيء في الحياة. يتقاذفون بإفيهات الأفلام، ويعيدون تدويرها وتوظيفها لخدمة مواقف جديدة بالكلية، ثم فجأة يصيح أحدهم: «والله إحنا مسخرة والمفروض يعملوا فيلم عننا». ليرد عليه آخر: «إيه اللي يخليني أشوف فيلم فيه أربعة وﻻ خمسة قاعدين مع بعض وبيتكلموا؟».
قبل عامين عرض الفيلم الإيطالي «Perfect Strangers» ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، وقوبل الفيلم بترحاب جماهيري كبير، ثم أعيد عرضه لعدة أسابيع عقب انتهاء المهرجان، شهد خلالها إقبالًا واسعًا من الجمهور المصري، ربما كان من بينهم هذا الصديق الذي يستنكر الذهاب إلى السينما لمشاهدة مجموعة من الأشخاص يتحادثون، فلم يكن بفيلم «Perfect Strangers» ما هو أكثر من ذلك.
ﻻ عجب أيضًا أن يكون هذا الصديق أحد المعجبين بالفيلم الكلاسيكي «12 Angery Men»، والذي يدور أيضًا حول 12 رجلًا يجلسون بغرفة مغلقة ويتجادلون طوال مدة الفيلم. فما الذي يجعل من هذه النوعية من الأفلام التي يمتلك عنصر الحوار فيها أهمية مركزية، أعمالًا سينمائية جميلة يسعى المشاهد إلى رؤيتها أكثر من مرة، وﻻ ينطبق الأمر نفسه على جلسة الأصدقاء بالمقهى؟
الفيلم المصري «الضيف» من إخراج هادي الباجوري، وتأليف إبراهيم عيسى، وبطولة خالد الصاوي، وأحمد مالك، وشيرين رضا، وجميلة عوض، هو أحد تلك الأفلام التي تدور حول مجموعة من الأشخاص يجلسون بمكان ما ويتبادلون الحديث طوال مدة الفيلم، وهو الفيلم الذي نتناوله بالتحليل في السطور القليلة القادمة.
السرد: «Show, Don’t Tell»
هكذا تقول واحدة من قواعد السينما الراسخة: «أرني وﻻ تخبرني». والتي تعني أن صانع الفيلم عليه أن يسرد فيلمه بصريًّا، أن يُري المشاهد الحكاية، ﻻ أن يخبره بها. فكيف لصانع فيلم يعتمد بالأساس على الحوار أن يلتزم بمثل هذه القاعدة؟
السرد في مثل تلك الأفلام الحوارية هو أقرب إلى الأحجية، يقدم الحوار مجموعة من القطع، وعلى المشاهد أن يستكمل بخياله ما غاب منها لتكتمل الأحجية. فعلى سبيل المثال، يقدم لنا فيلم «12 Angery Men» قصة بوليسية بامتياز، دون أن يكون هناك محقق، ودون أن نرى الحدث الأبرز في القصص البوليسية (الجريمة) يجري أمامنا على الشاشة، ولكن علينا أن نلجأ إلى الخيال لنستحضره، بل إن الفيلم يقدم أكثر من سردية لهذه الجريمة، وأكثر من سردية للمحاكمة وأقوال الشهود، كل ذلك من خلال المعلومات التي يسكبها الحوار الدائر بين الشخصيات بشكل متقن، وتلقائي.
نرى ذلك أيضًا في فيلم «الضيف»، ولكنه يقتصر على الفصل الأول الذي يتضمن تقديم الشخصية الرئيسية (د. يحيى) وتفاصيل بسيطة عن المحاكمة التي يتعرض لها، ثم ينطلق الفيلم بعد ذلك في حوار طويل وممل، تتقاذف فيه الشخصيات بعضها البعض بالآراء والأفكار الجامدة المباشرة عن الدين والحرية والتطرف وغيرها من الموضوعات. حوار ﻻ يختلف في شكله ومضمونه عن أي حوار قد تسمعه في برنامج توك شو رتيب على أحد القنوات الفضائية.
هنا نعود إلى أصدقاء المقهى، هم أيضًا يتحدثون لساعات في شتى الموضوعات، يتخلل حوارهم الكثير من النكات المعبرة، وربما الأفكار الجديرة بالالتفات، لكن ما يميز الحوار في أي عمل سينمائي عن هذا الحوار، هو قدرته على خلق الدراما، وسرد الحكاية، وأيضًا بما يحمله من جماليات تليق بعمل فني حقيقي.
في فيلم «Perfect Strangers» يتفق الأصدقاء على إلغاء أي حدود للخصوصية، وتحويل هواتفهم المحمولة إلى مشاع، هذه الهواتف بما تحمل من رسائل نصية ومحادثات، هي محض حوار، فليس هناك أي حدث محوري نراه على الشاشة، نحن فقط نستقى المعلومات المتتابعة، ونخلق بخيالنا الحدث، وفي هذا فقط تكمن المتعة والرغبة في استكمال فيلم يزيد على الساعة ونصفها ﻻ يحوي سوى مجموعة من الأصدقاء يجلسون بغرفة معيشة ويتحادثون.
أما في فيلم الضيف فتنضب الدراما، ويتراجع دور الخيال إلى حدوده الدنيا، وﻻ نرى إﻻ خطابًا أيديولوجيًّا مباشرًا يصبه صناع العمل على رءوس المشاهدين طوال عمر الفيلم، محاججات متتالية عن شرعية الحجاب والنقاب، تباريًا فكريًّا في التأصيل للعنف، ومناقشات مستمرة عن حدود الحرية. الحوار ﻻ يحيلنا إلى أي مواقف درامية باستثناء الخط الرئيسي للقصة، وبعض المحاولات المنفصلة عن سياق الفيلم مثل الحوار القصير الخاص بمرض الأم.
يقتصر الفيلم على حبكته الرئيسية والمتمثلة في متطرف يستتر خلف انتماءاته الاجتماعية والأكاديمية ليخترق عالم مفكر تقدمي تقوم الشرطة بحمايته، وهي الحبكة التي تستهلك جزءًا بسيطًا من الفيلم، بينما تستمر الجدالات الفكرية في الجزء الغالب منه، وهي الجدالات التي إن قمنا باستئصالها تمامًا من الفيلم فلن تؤثر على حبكته بأي شكل من الأشكال.
بمعنى أدق، إن قام أحد المشاهدين من مقعده بالسينما أثناء عرض الفيلم وغاب لمدة ربع ساعة أو نصف ساعة قبل نصفه الأخير ثم عاد إلى مقعده مرة أخرى فلن يختلط عليه الأمر كثيرًا، بل إن كل خطوط الشخصيات الثانوية التي قام بها ضيوف شرف مثل ماجد الكدواني، ومحمد ممدوح، وعارفة عبد الرسول، إذا ما تم حذفها نهائيًّا من الفيلم لما تأثر في شيء.
رسم الشخصيات
أحد أهم القواسم المشتركة في مثل هذه النوعية من الأفلام هو أنها تدور في إطار زماني ومكاني ضيق، فعادة ما تكون في مكان واحد، وعلى مدى فترة زمنية قصيرة هي بالفعل مدة الفيلم. نرى ذلك في فيلم «Perfect Strangers» والذي يدور في شقة أحد الأصدقاء، وعلى مدى ليلة واحدة، ونراه أيضًا في فيلم «12 Angery Men» والذي يدور في غرفة المحلفين، ويستمر طوال مدة مداولاتهم للوصول للحكم، ونراه أيضًا في فيلم «الضيف» الذي تدور أغلب أحداثه في منزل د. يحيى، وخلال مدة زيارة الضيف إلى هذا المنزل.
هذه الحدود الضيقة للزمان والمكان تفرض تحديًا كبيرًا على مستوى رسم الشخصيات، فليس هناك مساحة كافية ﻻستعراض تاريخ الشخصيات أو التأسيس المسبق لها، ﻻ على مستوى المكان من خلال متابعة الشخصية في أماكن ومواقف أخرى، وﻻ على مستوى الزمن من خلال استخدام تقنية الاسترجاع أو Flash Back مثلًا. وهنا يبقى الحوار فقط هو الوسيط الذي من خلاله يمكن أن نتعرف أكثر على ملامح هذه الشخصيات.
في فيلم «12 Angery Men» نحن بصدد عدد كبير نسبيًّا من الشخصيات، 12 رجلًا، في مكان ضيق، ولكننا لن نعدم الملامح المميزة لكل شخصية منهم، فهناك المستهتر، وهناك المنضبط، وهناك الغضوب، كلها سمات مميزة للشخصيات نستنبطها من خلال الحوار وأداء الممثلين.
كما أن الدراما التي يخلقها هذا الحوار تحيلنا إلى تاريخ الشخصيات، فمع تقدم الفيلم نرى أن المحلف رقم 3، والذي يتبنى موقفًا عنيفًا وواضحًا منذ البداية إزاء المتهم، يتحول في نهايته تحت ضغط باقي المحلفين، ليحيلنا الحوار إلى أحد الجوانب الخاصة في حياة هذه الشخصية، والذي يتمثل في علاقته الخاصة بابنه.
أما في فيلم «الضيف» فنحن بصدد مجموعة من الشخصيات المسطحة، ﻻ نستطيع أن نتلمس أي عمق في أي منها بخلاف نموذجها الفكري الذي تعبر عنه من خلال محاججاتها المستمرة بشأن أفكار وقضايا عامة، وهو ما انعكس بالطبع على أداء الممثلين.
فبخلاف الشخصية الرئيسية والتي يؤديها خالد الصاوي، والتي أفرد لها السيناريو مساحة أكبر مقارنة بباقي الشخصيات، ﻻ يستطيع المشاهد الوقوف على ملامح شخصية الأم أو الابنة أو الضيف، وﻻ يستطيع كذلك التعرف على دوافعها، وبشكل خاص شخصية البنت، فلم يكن هناك ما يكفي من المبررات الدرامية لهذا القرار المصيري الذي اتخذته الابنة، ولم يفرد لها السيناريو المساحة الكافية للتعبير عن أفكارها أو دوافع قرارها.
الأمر نفسه ينطبق على شخصية الأم التي حاول السيناريو إضفاء جوانب إضافية لشخصيتها مثل كونها مسيحية الديانة، أو إصابتها بمرض السرطان، فكل هذه التفاصيل والجوانب لم تؤت ثمارها على مستوى الدراما، ولم تدفع الحدث إلى اتجاه محدد، هي فقط تفاصيل شكلية فقيرة على مستوى الكتابة ومن ثم انعكست بشكل واضح على الأداء التمثيلي.
هذه المساحة الكبيرة نسبيًّا لشخصية دكتور يحيى أعطت الفرصة لخالد الصاوي لتقديم أداء أفضل مقارنة بباقي الممثلين، فاستطاع أن يخلق سمات مميزة للشخصية على مستوى الصوت والأداء وأسلوب الكلام ولغة الجسد، غير أن الحوار المفعم في المباشرة مثَّل عائقًا للشخصية في الكثير من المشاهد التي يبدو فيها أن دكتور يحيى يلقي محاضرة بإحدى الجامعات أو حوارًا بأحد البرامج التلفزيونية، وليس رب أسرة يستقبل عريسًا لابنته.
أما التحدى الثاني الذي يفرضه محدودية الزمان في مثل هذه النوعية من الأفلام، هو تحول الشخصيات، فليس من المنطقي أن تشهد الشخصية تحولًا جذريًّا أو كبيرًا في تركيبتها على مدى ساعات قليلة، ولكن التحول الحقيقي يكون في وجهة نظر الشخصية ورؤيتها للأفكار وللعالم من حولها.
في فيلم «Perfect Strangers» نرى كيف تتحول رؤية الشخصيات إلى صديقهم المثلي بعد أن ينكشف أمره، هذه الشخصيات لا يصيبها أي تحول في ذاتها، ولكن نظرتها لباقي الشخصيات هي التي تتحول بفعل الدراما، وبفعل التجربة القصيرة التي تعيشها على مدى زمن الفيلم القصير.
يغيب هذا التحول بشكل واضح عن شخصيات فيلم الضيف، فكل الشخصيات تبقى على حالها وعلى موقفها من القضايا المختلفة التي يناقشها الفيلم من البداية إلى النهاية، فالتشدد والأصولية والعنف هي قيم مجردة منبوذة لذاتها، وفي المقابل فإن الحرية والانفتاح والتقدمية هي قيمة مجردة مقبولة، ليس هناك أي تحول في رؤية الشخصيات لهذه الأفكار والقيم، باستثناء انقلاب الابنة في النصف الأخير من الفيلم على تحولها غير المبرر في بدايته.
هذا الصديق المتحذلق على المقهى لم يجانبه الصواب تمامًا، بالطبع يمكن أن يخلق صانع السينما الموهوب فيلمًا جميلًا من حوارات عادية لمجموعة من الأصدقاء يجلسون على مقهى، ولكنه يحتاج إلى فهم أعمق لأدوات هذا النوع من الأفلام، ويحتاج مجهودًا أكبر في استنطاق الدراما والصورة من حوار مجرد، ولكنه مفعم بالجماليات السينمائية الحقيقية، وليس حوارًا فكريًّا جامدًا ومباشرًا.