الأمر السار يا عزيزي أنه قد تحطم كل شيء
حين وقف أمام طاقمه الموسيقي في الفيلم «Pirate Radio» على متن سفينته العتيقة، وجه إليهم سؤالا: أعزائي، لدي خبران أحدهما سار والآخر حزين. فبم تريدونني أن أبدأ؟
نظر الشباب لبعضهم، ولم يستغرق الأمر أقل من ثانية ليعرفوا حجم مصيبتهم، ولكن باعث خفي يخبرك أن تؤجل سماع المصائب إلى أبعد فرصة: بالخبر السار طبعا، ابدأ بالخبر السار كابتن.
الخبر السار هو أن محرك السفينة قد انفجر وأننا سنموت غرقاً خلال دقائق من الآن.
دعني أعترف في البداية، أنني لست من النوع الذي يكتم توقعاته السيئة في قلبه. بمجرد أن أقرأ كتابا أو حتى تدوينة مصغرة تحتوي بعض المؤشرات السيئة حتى تجدني أتكفل بدور كاهن التبت الأعمى الذي يسير بعصاه ينذر أهل القرية بتسونامي قادم لا محالة، إن هم لم يحركوا ساكنا.
ولكن مثل هذه العادة قد توقفت لدي منذ حوالي السنة. حين أيقنت أن القبطان قد غرق هو بالفعل، و أن الخبر السيئ الذي لم يكن يريد أن يخبرنا به هو أن طريقة الميتة ستكون بشعة بأن «نموت متجمدين في بحر الشمال».
و من بعدها أيقنت بمبدأ أكبر من دور الكاهن الأعمى إياه. طالما نحن نغرق فلنحافظ على بعض من رباطة جأشنا وقليل مما تبقى من بصيرة للهب منارة هناك، يعلم الله فقط كم تبعد عنا وعن سفينتنا المحطمة.
أيقنت أنه في البداية كان لا بد من قرع أجراس الخطر، حتى لا نقع في الشرك. شرك الإفلاس السياسي المقيت، شرك الفقر وضرباته الموجعة، شرك السحق تحت أحذية الديكتاتور الأوحد. أن تنتبه جموع الثورة أن عليهم الاتفاق ضد الزنازين أو الاتفاق فيها. أن تنتبه المجتمعات أن اختلال موازين العدل جريمة لا تسقط بالتقادم ويتحملها الجمع بأكمله.
كان لا بد من نواقيس تدقها ليل نهار، ولكن من قال إن تلك المهمة كانت لتستمر وقتا طويلا. بالتأكيد كان لا بد من ديكتاتور وأزمات اقتصادية ساحقة وزنازين تعج بالآلاف حتى تعلم أن تلك مرحلة قد ولت.
كيف تحذر مريض سرطان الرئة أن يبتعد عن التدخين؟! لقد أصبح يعلم، ولو حتى لا زال يدخن فهو يعاني الدرس كل مرة يحاول فيها فقط أن يشعل السيجارة. لقد انتهى الأمر، الخبر الجيد أن الأمور باتت إلى أسوأ. فلماذا إذن هناك من يحاول أن يخبرنا بالخبر السيئ؟!
والخبر السيئ يا سادة صار يحاصرك في كل مكان، في كل مرة يتحرك فيها سعر الدولار قرشا. تضج الساحات بالحديث عن الدولار الذي سيتخطى المائة جنيه خلال عام، وعن رغيف الخبر الذي سيصل سعره لعشرة جنيهات. والكل هنا يحاول أن يظهر بدور الألمعي لأبعد حد.
دائما الحديث الذي تتخلله الأرقام أكثر جذبا للانتباه. تجد هذا المتحاذق يخبرك أن لا تستثمر نقودك في أي شيء إذا أردت النجاة لا تكف عن شراء الدولارات، فالعقار والذهب والبورصة والودائع وعلب السمن والصابون، كل ذلك سينهار، الحل أن تصير أنانيا وتزيد من حجم الفجوة الحاصلة في جسد السفينة.
الخبر الجيد للأسف كان أننا على وشك أن نغرق بالفعل، ولكن هناك فرصة لإنقاذ جسد السفينة. أما الخبر السيئ الذي يخبرونك إياه فمعناه أن تقطع شرايينك في أول فرصة تواتيك لأنك لا تملك أن تشتري الدولارات ولا تملك الكلفة الباهظة للقفز من السفينة. لقد صرت أنا واحدا ممن يلعنون من يتفنون في ترويج الخبر السيئ، ويتسابقون لأن يخبروك بأنه أسوأ مما يحلم به شيطانك.
لقد كانوا يتهمونك بالتشاؤم حين كنت تنذر بالأسوأ، رغم أنك كنت تطرح الحل. عليكم بالالتفاف وإلا فسيسحقونكم، عليكم بالوقوف ضد المحاكمات الهزلية وإلا اختلت الموازين أكثر، عليكم بمقاطعة سارقي القوت قبل أن يأتلفوا على خراب دياركم، عليكم بالاستماع إلى صوت العقل قبل أن تتكمم الأفواه.
ولكن بعد أن سحقوا من سحقوه وقطعوا وصال العدل في هذا البلد البائس، واستحق العذاب من لم يستحق. لماذا إذن صار شق الجراح هواية، لماذا صار تلذذا أن نذكر القوم بالمصير الأسود طالما أننا لا نملك لهم حلا.
لا أخفي عليك القول، نحن لا نملك لهؤلاء القوم أي حل لمصيرهم، فقط ندعو الله ونبتهل أن يبقى في قلوبنا ولو بعض يقين أن هناك حلا حتى ولو لم نعلم عن وصفه خبرا. ولكن الحديث عن أننا سنموت حتما دون طرح حلول، فهو الإجرام بعينه في حق الأموات أنفسهم، هو القنوط من رحمات الله.
أنا لا أملك حلا، ولكن بعضا من أمل. كان حديثي عن السفينة التي تغرق نوعا من محاولة إيقاظ آخر الآمال في إبصار بعض الغافلين من يكون مسيخهم الدجال ومن مهديهم المنتظر، عله يأتي اليوم الذي يستيقظ فيه ذلك المنتظر من بين صفوفنا.
ولكن أن أزيد الإحباط وأتحدث بملء فيَّ عن مصير أكثر سوادا ينتظرنا حتى ولو أيقنه، فعلى الأقل عليَّ أن أتحلى ببعض النبل وأن أحفظ معروفا تجاه ضحايا ذلك المصير. أن أحافظ على بعض هدوئهم حتى ذاك الموعد، عله يكون انفراجا كان يستحق منا بعض عقل وثبات لننسلخ بسببه من تلك السفينة التي تغرق.
دعني أخبرك بالأمر السار، غرقت سفينة الكابتن، ولكن نداءات الاستغاثة استحضرت سفن الإنقاذ في نهاية الفيلم.