مسلسل «سفاح الجيزة»: السعي غير المسئول تجاه الجماليات العالمية
في مايو/آيار من عام 1991 كتبت الناقدة «آيمي تاوبن» مقالًا في مجلة «sight and sound» بعنوان «ذئاب – حملان وكلاريس ستيرلنج: صعود القاتل المتسلسل في سينما التسعينيات الأمريكية Wolves, lambs – and Clarice Starling: the rise of the serial killer in 1990s cinema»، كان فيلم صمت الحملان وقتها متصدرًا النقاشات العامة حول السينما، فقد خلقت شخصية هانيبال لكتر التي لعبها أنتوني هوبكينز وجهًا سينمائيًّا أيقونيًّا، وأصبحت سرديات القتل المتسلسل بعدها في تصاعد مستمر.
تجادل تاوبن بأن ذلك ناتج من التنصل من مواجهة المشكلات الحقيقية، فبعد كل شيء كم من الممكن أن يموت على يد قاتل متسلسل، 10 أو 20 إنسانًا، على الرغم من فداحة وعنف الأمر، فإنه لا يضاهي ضحايا العنف المؤسسي.
يسترجع المقال الأفلام التي أسست لما أصبح نوعًا في حد ذاته مثل M لفريتز لانج، وبالطبع سايكو لألفريد هيتشكوك، والذي استوحى شخصيته الرئيسية من قاتل حقيقي يدعى «إيد جين»، في وقت كتابة المقال أشارت الإحصاءات إلى أن أمريكا وحدها تملك 75% من القتلة المتسلسلين في العالم، ومع صعود الموجة الجديدة من أفلام القتلة المتسلسلين فإن النوع يتعمق أكثر في أمريكيته باستكشاف الدور المؤسسي الذي يخلق القتلة المتسلسلين.
اقرأ أيضًا: لهذه الأسباب ظل فيلم «Psycho» مرعبًا حتى اليوم
في الموجة الحالية أصبح الاهتمام بالقتل المتسلسل أشبه بهوس، هوس امتد للوثائقيات كذلك، وليس مقتصرًا على الأعمال الدرامية المتخيلة التي تجعل القصص أكثر إثارة. تعتمد الأعمال الدرامية عادة على قصص قتلة حقيقيين، لهم ضحايا حقيقيين وهو توجه جدلي بشكل جوهري بعيدًا عن طرائق التناول أو الزوايا ووجهات النظر المختارة، خاصة مع تطور البصريات العنيفة، امتد الاهتمام ليخرج خارج أمريكا مع الإتاحة اللانهائية للمنصات والقرصنة وطرق المشاهدة المتعددة، مما طور فضولًا محليًّا لاستكشاف النوع، لكن باستخدام قاتل يكاد يكون معاصرًا يتم تناوله أثناء حياته بينما ينتظر نتائج طعن في حكم إعدامه.
أنتجت منصة شاهد هذا العام عملًا مصريًّا على تلك الشاكلة، مسلسل «سفاح الجيزة»، قاتل حقيقي ذُكر في الأخبار وله ضحايا حقيقيون ومر بمحاكمات حقيقية، تم تطويع القصة لكي تكون أكثر درامية، ولكي تكون ذات طبيعة أسلوبية قاتمة، وتبنى سردًا غير خطي بالكامل يقفز بين التواريخ المختلفة.
أخرج المسلسل «هادي الباجوري» وكتبته ورشة تحت إشراف «عماد مطر» و«إنجي أبو السعود». قام بالدور الرئيسي «أحمد فهمي» في دور بعيد عن أدواره الكوميدية المعتادة، لاقى الأداء والأسلوب البصري رواجًا على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة مع بداية عرض المسلسل، ومع تقدم الحلقات خفت الثناء قليلًا لصالح توجس من الثيمات المتوقعة والنهاية المتعجلة.
خطوط متوازية
يسرد مسلسل «سفاح الجيزة» قصة جابر أو محيي أو يوسف (أحمد فهمي)، رجل ذو طباع دقيقة وغرائبية وهويات متعددة، يقضي وقته في طبخ الطعام الغربي الفندقي بدقة، لكنه في الوقت نفسه يحتفظ بجثة زوجته في الثلاجة.
يفتتح المسلسل سرده بتلك المعلومات الموضوعية والبصرية ليؤكد على تناقض بطله وغرابته، وانعدام إحساسه الكامل بطبيعة جرائمه، تتطور الأحداث لتتمحور بشكل رئيسي حول عدة خطوط مكانية وزمانية، أولها هو علاقة جابر بزينة (ركين سعد) التي يقابلها في قبو مظلم مصفدة يدها في المدفأة، تعامله برفق وتتفهم دوافعه للقتل وتتقبله دون أحكام.
بموازاة ذلك نتابع عدة خطوط زمنية تظهر جرائم جابر المختلفة، زوجاته المتعددات، وعلاقته بوالدته المقعدة التي يعتني بها. تلك هي الخطوط التي تخص الشخصية الرئيسية يوازيها خط تحقيق، يتوسطه الممثل باسم سمرة في دور المقدم حازم، ويتفرع من خط التحقيق خط عائلي يجمع المحقق بابنه الذي يلومه على فقدان أمه. يقسم التعدد السردي اهتمامات المسلسل بين كونه تحليلًا لشخصية جابر وتسلسل جرائمه وربما استكشاف مسبباتها، كما يعمل كمسلسل تحقيق بوليسي، في انتظار اجتماع الخطين في النهاية تتحول الموازاة السردية إلى ذروة درامية.
تجميع السمات
يتبنى المسلسل أسلوبًا بصريًّا يمكن وصفه بـ «النوار – Noir»، فهو قاتم الإضاءة يعتمد بالتة لونية زرقاء، ويصور طرقات غارقة في الأمطار باستمرار، وعلى الرغم من اسم المسلسل: سفاح الجيزة، والطبيعة الفوضوية التي يتعرف عليها بسهولة أي ساكن في مناطق مثل الجيزة أو الهرم، فإن العمل يتبنى طبيعة تقليدية منمقة ونظيفة، تعتمد على البصريات الحادة والعادات المنظمة، بهدف رئيسي هو محاكاة الجماليات المتعلقة بالقتلة الهولووديين، دون استكشاف حقيقي لانتقال القاتل إلى بيئة وطبقة اجتماعية مختلفة، فجابر بالطبع ليس طبيبًا نفسيًّا ثريًّا مثل هانيبال لكتر في النسخة التلفزيونية من الحكاية، يطبخ شرائح اللحم نصف المطهية ويتناولها بحرص بالشوكة والسكينة.
هذا هو ما يكرره المسلسل لتقديم شخصيته بدلًا من تشكيل شخصية متفردة متورطة في عالمها المحدد جدًّا، يجعلها تنويعة على شخصيات أخرى حقيقية وخيالية سبق أن شوهدت في الدراما، كأن القاتل المتسلسل هو مجموعة من السمات tropes التي يمكن تطبيقها في أي بيئة أخرى، دون أن تعمل تلك السمات بشكل يكشف عن طبيعة الشخصية، فطهي الطعام في حياة جابر هو مجرد حقيقة مثيرة عنه، لكنه كل مرة يسمم ضحاياه عن طريق طعام لم يطبخه، فالطهي هو مجرد سمة بصرية تجعل المسلسل “أكثر عالمية” وتصبح مقارنته بمسلسلات من نفس النوع أسهل وأكثر إلحاحًا.
لا يتوقف تجميع العمل للسمات على الشخصيات فقط، بل حتى في حالة الطقس حيث تمطر السماء كل عدة أيام كلما احتاجها العمل كسمة شكلية، لا ضرر بشكل عام في اتباع أشكال تتعلق بنوع أو وضع سينمائي معين مثل النوار مثلًا، لكن في سفاح الجيزة لا يوجد وعي بالنوع أو السمات، هي مجرد تراكمات مشهدية ضلت طريقها إلى مسلسل امتلك الكثير من السمات البيئية والشكلية التي ترسخه في طبقته لكنه تجاهلها، اعتمد العمل لكي يخلق شعورًا بالبيئة على الاختيارات الموسيقية، مثل صوت بدرية السيد الذي يصدح في كل حلقة لينذرنا بشر قادم، وهو أحد الخيارات التي يمكن وصفها بالأصيلة، سواء بشكل جمالي بحت أو فيما يخص الطابع الزماني والمكاني للعمل وخلفية شخصياته الثقافية.
المسببات والنتائج
يستكمل المسلسل تجميع السمات فيما يخص دوافع شخصياته، صنعت الأعمال العالمية التي تناولت قتلة متسلسلين ذوي دوافع معقدة عادة من جعل الدافع الحقيقي وراء القتل هو الحب أو تعقيد يتعلق به: الحاجة للحب، الحرمان من الحب أو التعبير عن الحب، يلتهم هانيبال ضحاياه بدافع الحب، ويقتل جيفري دامر ضحاياه لأنه عاجز عن التعبير الصحي عن ميوله المغايرة، يصنع سفاح الجيزة سردية مشابهة يضمنها في الخط الرئيسي بين شخصية جابر وزينة التي يحتجزها لأنه بحاجة لحبها، لكن على مدار العمل لا يوجد ما يدعم هذا الدافع بجانب معاملة والدة جابر (حنان يوسف) الجافة له، فهو لم يحصل على حبها أو اهتمامها.
لكن لا يصبح نقص الحب الأمومي هو الذريعة الرئيسية لتقصي الحب في الأخريات أو إيجاد الأم أو الانتقام منها فيهن، يظهر أمامنا حب عدة زوجات لجابر له، بل وهوسهن به، ففي حالته هو يرغب في حب امرأة بعينها رفضته وهو تصور منطقي لقاتل سيكوباتي، لكن العمل يطرح بوضوح أن كل تصرف له مسببات أدت إلى نتيجة محددة، جابر قاتل لأن والدته قاتلة، وإذا لم يلتقط المشاهد ذلك من خلال المشاهد الاستعادية التي يراها بعينه، التي تهشم بها والدة جابر وجه والده بينما يراقبها جابر الصغير، فإن جابر بنفسه يصارح والدته بصدمته الطفولية، بوعي كامل ينفي تمامًا كونه سيكوباتيًّا يعامل البشر كأدوات ويتخلص منهم فور استخدامهم، حسب كلام الطبيب النفسي المشترك في تحقيق الشرطة، القاتل هو كذلك ببساطة لأنه يواجه صدمة طفولية.
ينتهي العمل بمواجهة تموضع الأسرة، الأبوة والأمومة في المنتصف، ليصبح المسبب الرئيسي لكل المشكلات هو انعدام الحب الأمومي أو التربية الخاطئة، ونرى تلك المقارنة قائمة بين جابر ووالدته وحازم وابنه، الذي يلمح جابر له أنه إذا لم ينتبه له فسوف يكبر ليصبح قاتلًا، فالطفل لا ينسى، تلك الطبيعة السببية التي تؤنسن القتلة تشكل معضلة أخلاقية بشكل عالمي، لأنها تهتم بشكل رئيسي بالجاني ولا تهتم بنفس القدر بأنسنة ضحاياه، ويصبح الأمر أكثر إشكالية عندما يكون هذا الجاني شخصية حقيقية لم تزل حية، ووالدته حية وذوو ضحاياه لم يتوقفوا عن الحداد بعد.
تتعرض أعمال مثل «دامر – Dahmer» من إنتاج نتفلكس لانتقادات مشابهة، لأن إرجاع التكون الوحشي الذي يصل إليه شخص لا يعبأ بالروح الإنسانية لنقص في الحب هو اختزال مبسط لخلق التعاطف والتفهم، لكن في أعمال مثل تلك يكون اللوم المبطن ذا طابع مؤسسي حتى مع التركيز على البطل وهو القاتل المتسلسل، فالمتسبب الحقيقي في صناعة القاتل ليس من ظلمه، بل من ترك ضحاياه يموتون ومن تركه يهرب مرات بعد مرات، في سفاح الجيزة تنعدم الثيمات المؤسسية تقريبًا، وتبقى فقط ثيمة التسلسل الأسري، فإذا ارتكبت جرمًا فإنه من المحتم أن يرتكبه ابنك، دون مجال للغموض أو جعل الشخصية أكثر تعقيدًا أو حتى أكثر عرضة للتعاطف.
يمثل الصعود المتواتر لتمثيل القتلة على الشاشة ظاهرة محيرة، يمكن ربما ضمها إلى تفسيرات استمتاع المشاهدين بأفلام الرعب لأنها تشعرهم أن حياتهم أفضل وتمدهم بتطهير عنيف دون التورط في العنف نفسه، لكن تمثيل الجرائم الحقيقية سوف يظل موضوعًا خلافيًّا بعيدًا عن الحريات والجودة الفنية، فإن استخدام السمات المستعارة دون استيعاب لحساسية الموضوع المتناول أو التوقيت المعروض فيه هو شكل من أشكال عدم المسئولية والسعي وراء النجاحات السهلة.
اقرأ أيضًا: أشرس 10 قتلة متسلسلين عرب