مستقبل اليمين في تركيا
رغم مرور أكثر من قرنين عليه ورغم كل الانتقادات الموجهة له، يبقى تصنيف التيارات السياسية بين يمين ويسار هو الأكثر انتشارًا واستعمالًا في يومنا هذا. ويعود أصل هذه التسمية إلى الثورة الفرنسية وطريقة جلوس القوى السياسية والشخصيات المنضوية تحت الجمعية الوطنية التأسيسية في حديقة «تويليري» عام 1789، حيث جلس المؤيدون لبقائه ومنحه صلاحيات واسعة إلى يمين المنصة، والداعون إلى رحيله أو تقليص صلاحياته إلى يساره، ومنذ ذلك الحين بدأت تتبلور بعض السمات الرئيسة لكلا التيارين.
ينادي اليمين بالاقتصاد الحر وحرية التجارة والمشاريع الخاصة المتحررة من سطوة الدولة، ويدافع عن فكرة التفاوت والتفاضل بين الناس، ويوصف غالبًا بتأييد الحكم، ومن أبرز أطيافه المحافظون والقوميون والليبراليون. بينما يدافع اليسار عادة عن العدالة الاجتماعية وحقوق العمال والفئات الضعيفة في المجتمع، ويدافع عن فكرة المساواة، وينادي بدور أكبر للدولة في الاقتصاد والصحة والتعليم، ومن أبرز أطيافه الشيوعيون والاشتراكيون والخضر.
اليمين التركي
حكمَ حزب الشعب الجمهوري، الذي أسسه «مصطفى كمال أتاتورك» مؤسس الجمهورية، تركيا وحيدًا حتى عام 1946، الذي انتهت فيه فترة حكم الحزب الواحد وسمح بالتعددية السياسية. ومنذ ذلك الوقت ازدهرت الحياة السياسية التركية، وارتفع عدد الأحزاب بشكل ملحوظ رغم عيوب قانون الأحزاب والانقلابات العسكرية المتعددة.
عرفت تركيا أحزابًا يسارية عديدة مثل الشعب الجمهوري (CHP) واليسار الديمقراطي (DSP)، ومعظم الأحزاب التي اعتمدت القومية الكردية عنوانًا لها، في مقابل أحزب يمينية في مقدمتها الأحزاب الإسلامية -المحافظة- التي أسسها الراحل «نجم الدين أربكان» والأحزاب القومية مثل الحركة القومية (MHP) والاتحاد الكبير (BBP).
وما بين هؤلاء وهؤلاء كان هناك أحزاب يمين الوسط التي طالما خاطبت تقريبًا نفس الكتلة الجماهيرية، المنتمية للتوجه المحافظ فكريًا ووسط الأناضول والبحر الأسود جغرافيًا، مثل الحزب الديمقراطي (DP) وحزب العدالة (AP) والطريق القويم (DYP) والوطن الأم (ANAP) وصولًا للعدالة والتنمية (AKP).
يعتبر نجم الدين أربكان «أبو الإسلام السياسي» في تركيا، الذي رفع شعارات إسلامية صرفة. أسس حزب «النظام الوطني» في الـ 26 من يناير/كانون الثاني 1970، وهو الحزب الذي حظرته المحكمة الدستورية وأغلقته عام 1971، لتبدأ مسيرة «أربكان» وتياره مع الأحزاب المحظورة مرورًا بأحزاب السلامة الوطني (1972)، والرفاه (1983)، والفضيلة (1998)، وصولًا لحزب السعادة (2001) المستمر حتى اليوم.
يبدو الحزب اليوم على هامش الحياة السياسية التركية بعد تأسيس العدالة والتنمية وسيطرته على الحياة الحزبية منذ 2002، وبعد انفصال «نعمان كورتولموش» ومجموعته عام 2010 ليؤسس حزب صوت الشعب (HAS PARTİ) قبل أن ينضم للعدالة والتنمية عام 2012، وبعد أن هجره الكثير من القيادات والشباب، وقد حصل في آخر انتخابات برلمانية عام 2015 على نسبة تصويت بلغت %0.68 فقط.
من جهة أخرى، عرفت حقبة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي جملةً من الأحزاب المصنفة على يمين الوسط، أصبحت كلها على هامش المشهد الحزبي في تركيا اليوم، في مقدمتها حزبا «الوطن الأم»، و«الطريق القويم» بقيادة كل من «تورغوت أوزال»، ثم «مسعود يلماظ»، و«سليمان دميريل»، ثم «تانسو تشيلر» على التوالي. وهي من جملة الأحزاب التي فقد الناخب التركي أمله بها بعد انقلاب 1997 والأزمات السياسية والاقتصادية التي تلته، فاستبدل العدالة والتنمية بها عام 2002، ولم تقم لها قائمة من بعد ذلك التاريخ وأصبحت اسمًا ورسمًا فقط.
الأحزاب القومية
تصنف معظم الأحزاب السابقة على «يمين الوسط»، بينما الأحزاب التي توصف تقليديًا وبشكل مباشر على أنها «يمينية» هي الأحزاب القومية في تركيا، وأهمها حزبا «الحركة القومية» و«الاتحاد الكبير».
تأسس حزب «الحركة القومية» عام 1969 على يد العقيد المتقاعد «ألب أرسلان توركيش» زعيم التيار القومي ورمزه حتى يومنا هذا. توفي «توركيش» عام 1997 فخلفه «دولت بهجلي» الذي بقي في رئاسة الحزب حتى اليوم. يدافع الحزب عن الفكرة التركية-الإسلامية والقومية التركية، وينضبط الحزب بتقاليد صارمة في الطاعة واحترام الرئيس الذي يعتبر «زعيمًا» وقائدًا للقوميين وليس مجرد «رئيس» للحزب.
الرؤية الفكرية والسياسية للحزب تتمثل في وثيقة «الأضواء التسعة» المعتمدة على القومية التركية التي يصوغها الدين الإسلامي، وهي القومية، التركية، الأخلاق، الروح العلمية، المجتمعية، الريفية، الحرية والفردانية، التطوير والشعبية، الصناعية والتقنية. للحزب، الذي تعتبره كثير من الأوساط يمينيًا متشددًا، مواقف حادة من القضية الكردية في تركيا وحازمة في مواجهة «الإرهاب»، ولذلك فقد بات متفقًا مع حزب العدالة والتنمية الحاكم في كثير من سياساته، الأمر الذي جعلهما مؤخرًا أشبه بحليفين سياسيين.
وإذا كان حزب «الحركة القومية» يعتمد القومية التركية والدين الإسلامي كأساسين وبهذا الترتيب، فإن حزب الاتحاد الكبير يتبناهما ولكن بترتيب معكوس، إذ تتقدم لديه الهوية الدينية/الإسلامية على القومية نوعًا ما. تأسس الحزب عام 1993 على يد «محسن يازجي أوغلو» الذي دعا إلى قومية يغلب عليها المحافظة، ويعتنق الفكرة الإسلامية – التركية ويؤيد أيديولوجية «الاتحاد التركي – الإسلامي».
توفي «يازجي أوغلو» عام 2009 بسقوط مروحيته في حادث يعتبر على صعيد واسع في تركيا على أنه عملية اغتيال مدبرة، ويرأسه حاليًا «مصطفى داستيجي» الذي انتخب في المؤتمر الخامس للحزب عام 2011. يعمل الحزب خارج إطار البرلمان التركي، إذ لم يستطع تخطي العتبة الانتخابية المتمثلة بنسبة %10 من أصوات الناخبين (حصل على 0.54% في آخر انتخابات برلمانية)، ويحرص في كثير من الأحيان على التمايز قدر الإمكان في مواقفه وسياساته وقراراته عن حزبي الحركة القومية والعدالة والتنمية.
تحولات العدالة والتنمية
تأسس العدالة والتنمية في 14 أغسطس/أغسطس 2001، في فترة أعقبت ثلاثة متغيرات مهمة محليًا وإقليميًا ودوليًا، وهي حالة الانسداد السياسي والإفلاس الاقتصادي في البلاد، والقبض على «عبدالله أوجلان» زعيم حزب العمال الكردستاني عام 1999، ومرحلة ما بعد الحرب الباردة عالميًا. هذه العوامل الثلاثة وغيرها مهدت الطريق للعدالة والتنمية، لأن الناخب التركي كان قد كفر بالنخبة السياسية التي لم تستطع إنجاح الحكومات الائتلافية المتعاقبة ولا إنقاذ البلاد من مسار الإفلاس والاستدانة من صندوق النقد، فمثّل الحزب أملًا جديدًا في الحياة السياسية التركية، إضافةً لما تمتعت به قياداته ورموزه من سمعة طيبة وخبرة جيدة من العمل في البلديات (خصوصًا أردوغان).
قدّم «العدالة والتنمية» نفسه بأنه الحزب القادم من خارج التصنيفات السياسية التقليدية في البلاد كحزب لكل تركيا (وقد صرح أردوغان بهذا المعنى مؤخرًا لدى تهنئته ماكرون بفوزه في الانتخابات الفرنسية)، حيث جمع في المجموعة المؤسِّسة له مختلف التيارات الإسلامية والمحافظة والقومية والليبرالية وحتى اليسارية، وعرّف نفسه على أنه حزب «ديمقراطي محافظ»، مبتعدًا عن تصنيفات اليمين واليسار.
إلا أن الكثير من المراقبين صنفوه على أحزاب يمين الوسط بسبب جذوره وتاريخ قياداته وأيضًا – وهذا هو الأهم – لأن قاعدته الجماهيرية/الانتخابية تتشكل بالأساس من الطبقة الوسطى المحافظة والمتمركزة بشكل كبير في وسط الأناضول والبحر الأسود، وهي الفئة التي لطالما هُمِّشت من قبل النخبة السياسية التركية.
كثير من مواقف الحزب وسياساته وقراراته على مدى سنوات طويلة كانت متمايزة عن الأحزاب التقليدية ومختلفة جدًا عن الأحزاب اليمينية، الحركة القومية تحديدًا، سيما ما يتعلق بالقضية الكردية وعملية السلام التي بدأها وقطع فيها شوطًا طويلًا وبدرجة أقل مسار الانضمام للاتحاد الأوروبي.
سياسة التمايز هذه أفادت العدالة والتنمية كثيرًا، باعتباره يستهدف نفس الكتلة التصويتية تقريبًا للأحزاب المحافظة والقومية، ولكن بخطاب متمايز وسياسات مختلفة وإنجازات متراكمة، الأمر الذي أكسبه طيفًا لا بأس به من أنصار هذه الأحزاب الذي -وللمفارقة- بقي ضمن أطر هذه الأحزاب ومؤسساتها، لكن أعطى الحزب الحاكم صوته في المنافسات الانتخابية كما تظهر لغة الأرقام بوضوح.
بيد أن الحزب بدأ يتبنى مؤخرًا خطابًا قوميًا واضحًا يميل إلى الشعبوية أحيانًا، وبدرجة أقل سياسات يمكن وصفها بنفس الصفة، خصوصًا على صعيد تعريف الذات والعلاقة مع الغرب/أوروبا والملف الكردي أو مواجهة العمال الكردستاني. مضت سنوات «تصفير المشاكل» وحلت مكانها رؤية «نحن والآخر» بشكل واضح جدًا، وساهم في ذلك إلى حد بعيد الانقلاب الفاشل العام الفائت ومواقف الدول الغربية (الحليفة) لتركيا خلاله وبعده إضافة للتغيرات الجذرية في المنطقة بشكل عام.
التوتر الكبير الذي تشهده العلاقات التركية-الغربية، وخصوصًا التركية-الأوروبية والمسار المتعثر -بل شبه المجمّد- لانضمام أنقرة للاتحاد الأوروبي بات يأخذ طابعًا هوياتيًا أيديولوجيًا في كثير من محطاته المتأزمة، ومن الطرفين. حتى الإحالات إلى الذات والدين والهوية باتت تأخذ شكل التاريخ والموروث الثقافي «التركي» أو «العثماني» في كثير من الأحيان، بل تتمظهر أحيانًا بما يتعلق بالشكل الخارجي وما يمكن أن يعتبر رمزًا قوميًا مثل إطلاق عدد كبير من قيادات العدالة والتنمية ووزراء الحكومة لشواربهم على الطريقة القومية.
أما على صعيد القضية الكردية، فقد توقفت عملية التسوية التي استمرت لسنوات ووصلت إلى مشارف مرحلة التفاوض المباشر إثر كسر العمال الكردستاني للتهدئة واستئنافه عملياته العسكرية في يوليو/تموز 2015، ومن وقتها والمقاربة العسكرية-الأمنية باتت أكثر بروزًا وحضورًا في معالجات الحكومة، في اقتراب نسبي للحكومة والحزب الحاكم من مقاربة المؤسسة العسكرية وخطاب التيار القومي. ورغم أن هذا المسار أتى بشكل شبه اضطراري بسبب الهجمات الانتحارية وعمليات التفجير والاغتيالات التي عاد لها العمال الكردستاني وتزامُنِ ذلك مع تهديدات أخرى لا تقل أهمية مثل داعش والتنظيم الموازي والمحاولة الانقلابية الفاشلة، ورغم أن أردوغان والحزب قدما إشارات على العودة لاحقًا وبشكل مختلف للعملية السياسية مع الأكراد، فإن هذا التحول يبقى لافتًا وذا دلالة.
ويضاف لكل ذلك، بالتأكيد، حالة التحالف السياسي التي تصبغ العلاقة بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية منذ الانقلاب الفاشل تحديدًا، حيث يدعم الثاني الأولَ في سياساته وقراراته المتعلقة بمواجهة العمال الكردستاني ومكافحة التنظيم الموازي وعرقلة مشروع الدويلة الكردية في سوريا والموقف من استفتاء إقليم شمال/كردستان العراق والتوتر مع أوروبا، لدرجة أن الدعوة لتفعيل مسار النظام الرئاسي وعرض الأمر على البرلمان ثم الاستفتاء الشعبي أتت أولًا على لسان رئيس الحركة القومية «دولت بهجلي» وليس أحد قياديي العدالة والتنمية.
كثير من الباحثين تناولوا قضية تصاعد التيارات اليمينية في العالم، خصوصًا أوروبا وفصّلوا في أسبابها. من هذه الأسباب الأزمات الاقتصادية كالكساد الكبير عام 1929 الذي سبق ورافق ظهور النازية والفاشية، والأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 التي لم يتعاف الاقتصاد العالمي منها تمامًا بعد.
ومنها أيضًا التحديات السياسية والعسكرية التي تذكي الشعور القومي والرغبة في الانكفاء على الذات، إضافة للخطاب الشعبوي الذي يدغدغ المشاعر ويدفع الجماهير -مع العوامل الأخرى- إلى لوم الآخر/الضعيف والكفر بالسياسيين التقليديين والبحث عمن يشبع مخيالهم بالخطاب الشعبوي الحماسي ويلعب على وتر القومية والأنا والتمايز عن الآخر بالحد الأدنى والكراهية والعنصرية بالحد الأعلى، ترمب مثالًا.
يرى الكاتب التركي (الأرمني) «إتيان محجوبيان» أن هناك سببين رئيسين لتصاعد التيارات اليمينية والشعبوية في أوروبا والغرب عمومًا، الأول فشل «النظام» ذاتيًا وعجزه عن «إنتاج إجابات لمواجهة التنوع الثقافي» ما اعتبره الكاتب «تعبيرًا عن أزمة الحداثة»، والثاني وجود عناصر/عوامل خارجية تشكل «تهديدًا وجوديًا للنظام برمته»، الأمر الذي يجعل التيارات والأحزاب السياسية المعتدلة أو «الوسط» أو أحزاب «المركز» ضعيفة في نظر الجماهير التي تبحث عن تيارات سياسية أكثر حزمًا وأعلى صوتًا.
ويرى الكاتب -الذي شغل سابقًا منصب مستشار أول في رئاسة الوزراء- غياب «الأرضية المادية» للنزوع نحو الشعبوية في تركيا لخلوها من السببين الرئيسين لها، ولذلك فتوسُّلُ العدالة والتنمية لها ليس مبررًا من وجهة نظره.
النظام الرئاسي
في المشهد السياسي الحالي، ثمة حضور بارز للأيديولوجيا في الخريطة الحزبية التركية، بحيث تعبر الأحزاب الأربعة الكبيرة الممثلة في مجلس الشعب التركي الكبير (البرلمان) عن التيارات الأربعة الرئيسة في الشارع التركي. بشيء من التبسيط، يبدو العدالة والتنمية الممثل الأبرز للطيف الإسلامي/المحافظ، والشعب الجمهوري الممثل الأكبر للتيار العلماني أو الكمالي، والحركة القومية التجمع الأهم للقوميين، بينما يحتشد القوميون الأكراد حول الشعوب الديمقراطي.
بيد أن هذه الخريطة الحزبية مرشحة للتغيير مستقبلًا لأسباب عدة، في مقدمتها بدء تطبيق النظام الرئاسي نهاية 2019، إضافةً لعوامل أخرى أقل أهمية وتأثيرًا، مثل المشاكل الداخلية التي تعاني منها بعض الأحزاب، تحديدًا «الحركة القومية»، و«الشعوب الديمقراطي».
فالأول يعيش حالة تجاذب كبيرة وصلت للتمرد على زعيمه «دولت بهجلي»، وانتهت بخروج مجموعة من القياديين لتؤسس حزبًا جديدًا قبل أيام بقيادة القيادية السابقة فيه «ميرال أكشنار» (حزب الوسط الديمقراطي)، كما أن بهجلي نفسه قد تقدم في السن كثيرًا مع غياب قيادات تاريخية صاحبة كاريزما يمكن أن تحافظ على تماسك الحزب بعده.
من جهته، يبدو الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) في قلب العاصفة إثر فشله في الإبقاء على مسافة واضحة من العمال الكردستاني وعملياته العسكرية، فبدا في كثير من الأحيان مجرد ذراع سياسية له يأتمر بأمره، كما تورطت بعض قياداته الوسيطة على ما يبدو بتقديم العون له في بعض عمليات التفجير.
في النتيجة، نزف رصيد الحزب التصويتي بشكل واضح وفقد بعض مصداقيته وتأثيره على الشارع، فضلًا عن توقيف عدد من قياداته قيد التحقيق والمحاكمات بتهم تتعلق بدعم الإرهاب، في مقدمتهم رئيسا الحزب التشاركيان «صلاح الدين دميرطاش» و«فيغان يوكساك داغ».
لكن التأثير الأكبر على المشهد السياسي والحزبي في تركيا سيكون سريان تطبيق النظام الرئاسي مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المتزامنة في نوفمبر/تشرين الثاني 2019. فالنظام الرئاسي، بطبيعته سوف يزيد من أهمية مؤسسة الرئاسة ويضعف من أهمية الأحزاب السياسية، باعتبار أن البرلمان سيكتفي بمهامه التشريعية والرقابية، ولن يكون موكولًا باختيار أو إقرار الحكومة والوزراء الذين لن يشترط فيهم أن يكونوا برلمانيين كما هو العرف (وليس القانون) اليوم.
كما أن إجراءات وقوانين «المواءمة» التي سيعمل عليها البرلمان التركي خلال الفترة القادمة للانتقال بسلاسة من النظام البرلماني للرئاسي سيكون من بينها في الغالب تخفيض العتبة الانتخابية المطلوبة لدخول البرلمان من %10 إلى %7 أو ربما %5. بهذا المعنى، سيكون عدد الأحزاب الممثلة تحت قبة البرلمان أكبر من اليوم بما يضعف من تمثيل وقوة كل منها، فضلًا عن تراجع دور الأحزاب في الحياة السياسية بشكل عام.
يضاف إلى كل ذلك تزايد أهمية «الشخص» على حساب «الحزب» في قرار الناخب سيما مع الممارسة الطويلة في ظل النظام الرئاسي، وهو عامل إضافي يساهم في تقويض المساحة الكبيرة التي تحظى بها الأحزاب في السياسة التركية حاليًا.
وبالعودة إلى الخارطة المجتمعية سالفة الذكر من زاويتها الفكرية – الأيديولوجية، نجد أن حزب العدالة والتنمية قوي وسيستمر في الحضور البارز بجوار الحركة القومية الغارق في أزماته والمهدد بالتمزق إضافة لعدد من الأحزاب الأخرى الصغيرة، الإسلامية والمحافظة والقومية.
وفي الجهة المقابلة، يبقى دائمًا لحزب الشعب الجمهوري، حزب مؤسس الجمهورية الذي يصف نفسه باليساري، مسوغات الوجود والحضور مع ضعف وتراجع لحزب الشعوب الديمقراطي إلى جانب تشكيلة واسعة من الأحزاب العلمانية واليسارية والقومية الكردية الهامشية.
فإذا ما أضفنا لكل ما سبق أن سياسات العدالة والتنمية وخطابه وقراراته باتت جاذبة أكثر من أي وقت مضى للناخب القومي الذي سيفتقد حزبُه مستقبلًا لقيادة قوية، وأن سياسات وخطاب الشعب الجمهوري تسعى لإظهاره حزب المعارضة الأوحد والمعبّر عن الجميع، لتبين لنا أن النتيجة شبه المحسومة في مستقبل السياسة التركية هو تحول الأحزاب إلى تيارات مع الوقت.
سيكون ثمة تياران رئيسان، الأول يميني واسع يجمع معظم الإسلاميين والمحافظين والقوميين ويعبر عنهم حزب العدالة والتنمية، في مقابل تيار يساري أضعف منه نسبيًا يجمع معظم اليساريين والعلمانيين وبعض القوميين الأكراد ويعبر عنه حزب الشعب الجمهوري، إلى حد بعيد.
وفق المشهد الحالي، فإن الأحزاب التي تمثل التيار الأول (اليمين) تشكل ما نسبته %65 من أصوات الناخبين، فيما تمثل أحزاب التيار الثاني (اليسار) حوالي %35 منها، وهو الأمر الذي عول عليه العدالة والتنمية في مشروع النظام الرئاسي، أي أن يكون الرئيس دائمًا – وفق المنطق الحسابي على الأقل – من التيار الأول.
ليست هذه استنتاجات حتمية بطبيعة الحال، ولا سيكون تيارا اليمين واليسار في تركيا المستقبلية نسخة مكرورة بالضرورة من نظرائهما في دول أخرى، إذ تبقى للتجربة التركية خاصيتها وبصمتها المميزة، لكن الاتجاه العام الذي يمكن استقراؤه وفق المعطيات الحالية والتوقعات المستقبلية يوحي بما وصلنا إليه من خلاصة.
وهو ما يعني أن تركيا عمومًا والعدالة والتنمية خصوصاً سيكونان بعد 2019 أمام تجربة جديدة ومختلفة تمامًا عن كل ما سبقها، تتضمن تغييرًا جذريًا للخارطة السياسية والحزبية في البلاد باتجاه التيارات أكثر من الأحزاب (التي ستحافظ على وجودها وحضورها في الفترة الأولى على الأقل)، والتي سيكون لليمين فيها الريادة والتقدم. الأمر الذي يطرح تساؤلات كثيرة على انعكاسات ذلك على تركيا داخلياً وخارجياً في ظل نمو التيارات اليمينية في العالم وحالة السيولة السائدة والمتسارعة في المنطقة.