في هذا اليوم انطلقت شرارة الفساد الأولى في كرة القدم
يُعرِف معجم أوكسفورد الفساد على أنه تغيير وتدمير للنزاهة من خلال المحاباة والرشوة في سبيل خدمة أهداف وغايات معينة، وتنتهج الكثير من الشركات والمؤسسات هذا النهج من أجل تسيير مصالحها وعرقلة نشاطات الشركات المنافسة، وبما أن الرياضة أصبحت مرهونة بالصراعات المجتمعية كافة سواء كانت سياسية أو عسكرية أو اقتصادية، لابد أن نذكر البدايات الأولى للفساد في عالم الرياضة، والتي تشكلت نواتها الأساسية إبان صراع المصالح بين شركتي أديداس وبوما بعد انفصال الشريكين عن بعضهما البعض واللذين كانا تحت مسمى الأخوان داسلر للأحذية.
بعد فض الشراكة بين الشقيقين أدولف ورودولف بسبب الخلافات العائلية، كبرت العداوة بين أهالي مدينة هيرتسوجيناوراخ، وتحولت لما يشبه حربًا أهلية باردة، فتغيرت الحياة كثيرًا في المدينة وعلى وجه الخصوص العلاقات بين الأشخاص الذين يعملون لدى بوما وأديداس .أصبح هناك صراع جديد في المدينة الصغيرة يمكن تشبيهه بصراع سياسي أو طائفي، فقبل إلقاء أهالي المدينة التحية على بعضهم البعض، ينظرون إلى الأقدام للتأكد من مكان العمل، هل أنت تابع لأديداس أم بوما؟ لم يكن هناك اختلاط بين عمال المصنعين، لا مواعدة ولا حالات زواج ولا يجلسون في المطاعم ذاتها.
الخيانة من جديد
العداوة ما بين الأخوين كانت كبيرة جدًا بعد الانفصال، لم يتكلما معًا وحاربا بعضهما بكافة الوسائل الممكنة، ما أثر على نجاحهما في البدايات، كان نجاحًا كبيرًا بلا شك قياسًا بالظروف التي مروا بها،لكن هذه العداوات جعلت تركيزهما ينصب على مواجهة ومجابهة بعضهما بدلاً من التركيز على العمل،وهذا ما أضاع الكثير من المال والوقت لكليهما. بطبيعة الحال أجبرت تبعات الحرب العالمية الثانية الشقيقين على البداية من الصفر مجددًا، ليس هما فحسب بل ألمانيا التي قمست إلى دولتين غربية و شرقية، لكن لم يشكل هذا الأمر معضلة كبيرة للأخوين؛ لأن الأفكار موجودة والرغبة الكبيرة للعمل مجددًا ساعدت على إنجازه بشكل أسرع.
الحذاء الذي صنعه الأخوان داسلر عندما كانا يعملان سوية، كانت قاعدته من المسامير، فحاول رودولف تطوير الحذاء وفكر بوضع البراغي بدلا من المسامير، وبالفعل كانت النتائج مذهلة عند تجربته. كانت بوما قد ابتكرت هذا الحذاء في عام 1952، لكن لم تطرحه في السوق ولم يتم تزويد الفرق به في ذلك العام. في أحد الأيام، عاد رودولف إلى المعمل غاضبًا وبيده زوجان من الأحذية، وطلب من أحد الموظفين القدوم إلى مكتبه على الفور.
بوما طرحت الحذاء الجديد في موسم 1953-1954، وبالفعل كانت نتائجه ممتازة، حيث استطاع نادي هانوفر تحقيق لقب الدوري الألماني في ذلك الموسم، وأغلب لاعبي الفريق كانوا يرتدون حذاء بوما الجديد ذا البراغي، لكن هذا النجاح لا يقارن على الإطلاق بنجاح أديداس لصاحبها أدولف داسلر مع حذاء البراغي الجديد.
معجزة برن
بعد غياب عن بطولة كأس العالم 1950 بسبب حرمانها من المشاركة، ألمانيا ستعود للبطولات العالمية من جديد، منتخب ألمانيا الغربية سيشارك في بطولة كاس العالم 1954، لكن لم يكن منتخبًا قويًا أو مرشحًا للبطلولة. أغلب لاعبي ألمانيا الغربية كانوا يرتدون أحذية بوما منذ عام 1952، وقبل بداية كأس العالم ذهب مدرب المنتخب سيب هيربرجر إلى صديقه رودولف داسلر، فالرجلان كانت تجمعهما علاقة وثيقة جدًا.
هيربرجر أخبر رودولف عن رغبته بتجريب الأحذية الجديدة، بالإضافة إلى طلب آخر وهو تزويد المنتخب بالألبسة والمستلزمات الرياضية الأخرى، لكن بوما وأديداس في تلك الحقبة كان إنتاجهما يقتصر فقط على الأحذية، ولا يوجد منتجات أخرى كالقمصان والكرات. لم يكن لدى رودولف المال الكافي لذلك رغم رغبته الشديدة بتزويد المنتخب بالأحذية وجاء جوابه بالرفض، وذهب هيربرجر بعد ذلك إلى أدولف و أخبره بنفس العرض، وافق أدولف لرغبته بالعودة عالميًا، لكنه لم يزود المنتخب بالأحذية الجديدة بسبب عدم طرحها في الأسواق.
وصلت ألمانيا إلى المباراة النهائية بشكل مغاير للتوقعات، وستواجه منتخب المجر أقوى منتخبات العالم آنذاك. الكثير من المحليين اعتبروا أن المباراة منتهية حتى قبل بدايتها، وتم تشبيهها بنزال ملاكمة بين ملاكم من الوزن الثقيل وآخر من وزن الريشة؛ لأن اللقاء الذي جرى بين المنتخبين في الدور الأول من البطولة حمل معه خسارة ثقيلة ومذلة للألمان بنتيجة كانت محصلتها 8 أهداف مقابل 3.
قبل يوم من المباراة النهائية، قام هيربرجر بالاتصال بأدولف وطلب منه إرسال الأحذية الجديدة على الفور. في المباراة السابقة بين المنتخبين كان الجو ماطرًا وعانى المنتخب الألماني من تزحلق لاعبيه وفقدانهم للتوازن بسبب الطين، والحذاء الجديد كان يساعد اللاعب على البقاء متوازنًا في الأجواء الماطرة. ذهب أدولف على الفور إلى برن السويسرية ومعه الأحذية الجديدة، حتى أنه قام بمرافقة هيربرجر إلى الملعب في اليوم التالي.
كان مدرب المنتخب الألماني يحاول تفادي الخسارة بنتيجة كبيرة مجددًا، لكن حدثت المعجزة التي لا تصدق، ألمانيا الغربية بطلة لكأس العالم بعد تغلبها على أقوى منتخب عالميًا وفي أجواء ماطرة. وبهذا أديداس قدمت الحكاية وحبّكتها بطريقة ناجحة جدًا، واشتهر الحذاء الجديد باسمها رغم طرحه قبل عام من قبل بوما، ويبدي رودولف ندمه لاحقًا وتزداد النار اشتعالًا بين الشقيقين.
شرارة الفساد الأولى
رودولف اقتنع أنه بحاجة للمال والنجوم لكي تصبح لشركته سمعة أفضل ويستطيع منافسة شقيقه، فقام بإعادة التجربة الأولى لداسلر مع ألعاب القوى وأقنع العداء هاينز فوتيرير بارتداء حذاء البراغي الجديد بعد شهر من تحقيق المنتخب الألماني لكأس العالم، ونجح هاينز بتحقيق نجاح باهر بعد حصده الميدالية الذهبية وتحطيم الرقم العالمي في سباق 100 م بحذاء بوما.
طوال هذه الفترة كان تزويد المنتخبات واللاعبين بدون أي مقابل؛ أي أنه لم يكن هناك رعاية أو مبالغ تدفعها الشركات مقابل ارتداء الأحذية، لكن في عام 1960 كان لرودولف رأي مغاير! بطل العالم في ألعاب القوى الألماني أرمين هاري كان يرتدي أحذية أديداس، اتصلت به بوما وعرضت عليه ارتداء أحذيتها مقابل المال، هاري لم يعط موافقته على الفور وطلب التفكير والتريث.
حقيقة الأمر أن هاري قام بالاتصال بأديداس وطالبهم بمبلغ مالي مقابل ارتداء الحذاء، أدولف رفض بشكل قاطع، لكنه لم يعلم أن شقيقه قام بإغراء هاري بالأموال، ليرد العداء الألماني لاحقًا بموافقته على عرض بوما، ويحقق ميداليتين ذهبيتين في أولمبياد روما 1960، لتكون أولى شرارات الفساد في العالم الرياضي، والتي كانت مسؤولة عنها بشكل كبير شركتا بوما وأديداس.
أرمين هاري يرتدي حذاء بوما خلال أوليمبياد روما 1960.
المثير للجدل بأن هاري فاز بالميداليات بحذاء بوما، ولحظة التتويج ارتدى حذاء أديداس في محاولة منه لكسب المال من الطرفين، لكن أدولف رفض دفع الأموال مجددًا. ليتم لاحقًا إيقاف أرمين هاري من قبل الاتحاد الألماني بسبب تلقي رشاوى بعد التحقق من حسابه البنكي.
سلالة الفساد
في بداية الستينات أصبح للأبناء أدوار رئيسية داخل الشركتين أيضًا، هورست ابن أدولف وآرمين ابن رودولف، كلاهما تعلما في الصغر وتشربا أسس الصراع بين والديهما، وكانا مستعدين للمضي قدمًا بتعميق الشرخ بينهما كما والديهما.
خلال أولمبياد طوكيو في عام 1964، كانت هناك حادثة مشابهة لما حصل مع هاري في روما، هورست قام بالاتفاق مع العداء الأمريكي بوب هاييس لتمثيل أديداس ورسم الخطة بشكل محكم لكي لا تتمكن بوما من المزايدة في السعر، فطلب من بوب عدم ارتداء الحذاء في التدريبات وارتداءه في يوم السباق. بوب تمكن من تحطيم الرقم القياسي وأصبح أسرع رجل في العالم، وأطلق عليه اسم «الرجل الطلقة» كدلالة على سرعته.
بعد 4 أعوام عاد هورست للعب بشكل قذر، في أولمبياد المكسكيك 1968 اتفق مع بعض ضباط الجمارك المكسيكيين على حجز شحنات الأحذية الخاصة بشركة بوما لكي تنشغل في تخليص شحنتها، ويتفرغ هو لعقد صفقات مشابهة وسرقة النجوم من بعضهم البعض. يقال بأن ظروف الأموال والدفعات للاعبين كانت تصل من تحت أبواب غرف الفنادق؛ لكي لا يتم رؤية مسؤولي الشركتين مع اللاعبين وتتعثر الصفقات.
الضرب تحت الحزام
رغم تحقيق نجاحات كثيرة في ألعاب أخرى كألعاب القوى، لكن بوما أرادت نجاحًا في اللعبة الأشهر عالميًا، في تلك الحقبة كان المنتخب البرازيلي في أوج نجاحاته الكروية بقيادة بيليه. فيما يخص بيليه كان هناك اتفاق سري ضمنيًا بين أديداس وبوما بعدم التوقيع مع بيليه بسبب المتطلبات المالية العالية والتي ستكلف الكثير من المال، لكن رودولف وآرمين خرقا الاتفاق، حيث قام رودولف بإرسال ابنه آرمين إلى المكسيك عام 1970 التي كانت تستضيف كأس العالم آنذاك، التقى آرمين ببيله وقدم له حقيبة تحتوي على 120 ألف دولار لكي يقبل عرضه ووافق بيليه على الفور.
لم تكن الخطة تقتصر على الأموال فقط بالنسبة لآرمين، حيث اتفق مع بيليه على تأخير صافرة الحكم قبل بداية مباراة البرازيل أمام البيرو. قبل إطلاق الحكم لصافرته طلب بيليه منه التريث قليلاً لربط حذائه، الخطة كانت لجذب الكاميرات والتركيز على بيليه وهذا ما حصل، الكاميرا الرئيسية موجهة نحو بيليه وحذائه الجديد، لتحقق البرازيل اللقب وترتفع مبيعات بوما بنسبة 300% بعد الدراما التي كان بطلها بيليه.
في كأس العالم 1974 والتي استضافتها ألمانيا، وقعت حادثة أخرى أيضًا، بعض لاعبي المنتخب الألماني كانوا يرتدون أحذية بوما، حاولت أديداس التوقيع معهم لكن ليس بشكل مباشر، حيث تم تقديم الأموال للاتحاد الألماني كصفقة رعاية، أحد مندوبي أديداس تواصل مع بيرتي فوجتس والذي كان يرتدي أحذية بوما، ذهب إلى غرفة الملابس في الملعب وقدم له حذاء أديداس، فوجتس فتح لسان الحذاء بحثَا عن الأموال، لكن لم يجد شيئا و رفض العرض.
بعد ذلك علم اللاعبون برعاية أديداس للاتحاد الألماني وطالبوا بحصة من الأموال، وهددوا قبل أيام من بداية المونديال برفض تمثيل المنتخب في حال لم يقبل الاتحاد، فوجتس وبيكناور وهونيس طالبوا الاتحاد بحصة من أموال الرعاية واستمرت المفاوضات حتى قامت أديداس بتوصيل الدفعات للاعبين عن طريق الاتحاد الألماني.
الخصومة الأبدية
بعيدًا عن التجارة وصراع الأموال وبالعودة إلى العلاقة العائلية يبن أدولف ورودولف، في أواخر عام 1974 تعرض رودولف لأزمة صحية أوصلته لصراع جديد، لكن هذه المرة الصراع كان بين الحياة والموت ولم يكن أمام أخيه. قبل وفاته طلب من ابنه آرمين أن يجلب له أدولف لرؤيته للمرة الأخيرة، ذهب آرمين إلى عمه لكن أدولف رفض ذلك وقال له:
بعد وفاته وعند الذهاب إلى المقبرة، الجميع كان ينتظر قدوم أدولف، نسوا أمر الدفن وبدأ البحث عن أدولف بين الحضور، انتهت مراسم الدفن ولم يأت أدولف. بعد 4 أعوام فارق أدولف الحياة أيضًا وتم دفنه في نفس المقبرة، لكن في أبعد بقعة عن قبر أخيه، وليتأكد بذلك استمرار الصراع بين الشركتين حتى بعد وفاة الشقيقين.