الأحياء المسوّرة: القاهرة التي لن تسكن فيها
تاريخ المدن المسورة في مصر
بدأت فكرة إنشاء مدن في الصحراء بعد معاهدة كامب ديفيد، تنفيذًا لسياسات الانفتاح اقترح الرئيس السادات تنمية الفراغات الإستراتيجية حول المدن القائمة، لكن بالطبع وكأي فكرة بريئة تخرج في نظام يفتقد إلى الرقابة أو التخطيط حدث انحراف في إستراتيجية التعمير للصحراء تلك، مما جعل الأمر يصل إلى كونه أهم بناء اقتصادي لغسيل الأموال والفساد في مصر.
في عام 1990 وبعد الأزمات الاقتصادية الناتجة عن حرب الخليج كانت بداية استغلال الأنظمة الرأسمالية في الشرق الأوسط للمشروعات العمرانية الكبرى في الدعاية لها من جانب، والبحث عن بديل اقتصادي عن المشروعات الزراعية والصناعية طويلة النفس. في مصر كانت البداية على يد مستثمر مصري قابله حسني مبارك في أمريكا داعيًا إياه للعودة إلى مصر لبداية المشروع: «لو أن الناس مثلك لم يعودوا لمصر فمن سيطور البلد»، لم يكذّب المستثمر الخبرَ، أصبح أول مطور لمدينة جولف في مصر، بدأ تنفيذ المشروع عام 1992 بعمل مناطق جولف وفيلات وحزمة من الوعود الدعائية التي يتعامل معها المجتمع لأول مرة (تعالَ اسكن في مدينة الأحلام حيث ملاعب الجولف والملاهي والمطاعم ودور السينما)، في نفس الوقت على الجانب الآخر من القاهرة كانت بداية مشروع مرتفعات.
عند بداية المشاريع العقارية عام 1990، ضغط البنك الدولي والقوى الدولية على نظام مبارك لزيادة نطاق الخصخطة زعمًا منهم أنها تعزز كفاءة النمو الاقتصادي بل وأصبحت الخصخصة شرطًا لإعطائه القروض، قامت الحكومة بتغيير توجهاتها الاقتصادية بعد أن تكونت شبكة من المستثمرين المرتبطين بالعائلة الرئاسية آنذاك، حيث تم بيع مساحات شاسعة من الصحراء بأسعار زهيدة وضمانات بتنفيذ مشروعات بنية تحتية مثل الطرق والكهرباء وخطوط المياه.
خلال السنوات العشر التالية – وفي ظل فشل الحكومة المصرية في عمل أي إصلاحات في المدن القائمة التي أصبحت متدهورة لدرجة لا يمكن تحسينها – أصبحت المدن الجديدة حول القاهرة هي الشكل المصري للحلم الأمريكي، الذي يعتمد على تقديم أكثر رفاهية متاحة للساكن، منذ ذاك الحين انفجرت ماسورة التجمعات المسورة في القاهرة بأسماء عجيبة تثير الضحك وتعبر عن الشريحة المستهدفة من هذة الاستثمارات: (ليليا – لا روزا – لا كوينتا – لا روكا)، خلال عشر سنوات تضخم عدد التجمعات السكنية العقارية في مصر يقرب إلى 150 مدينة جديدة في 6 أكتوبر وحدها، وأضعافها في القاهرة الجديدة.
العدالة الغائبة
تعتبر مصر من بلاد الفقر المائي حسب المعايير الدولية حيث أن نصيب الفرد من المياه أقل من 1000 م مكعب في السنة، الأزمة تتفاقم حين يظهر عدم التساوي في توزيع المياه على مستوى محافظات الجمهورية حيث يصل للفرد في القاهرة 600 لتر في السنة أمام 100 لتر في محافظة المنيا مثلًا، تتوقع الأمم المتحدة أن تصبح مصر دولة شحيحة المياه بحلول عام 2022 . على الرغم من ذلك يستهدف المخطط الإستراتيجي للمدن الجديدة عمل محطة تنقية للمياه بسعة 2 مليون متر مكعب وهي تعتبر سعة ضخمة بالنسبة للكثافة السكانية في هذه المناطق التي تصل إلى الربع بالنسبة لنفس المساحة في مناطق داخل القاهرة أو في الناحية الأخرى من الطريق.
في مقال تحت اسم «ثورة العطشى» رصدت الباحثة Karen Piper الظلم البيّن في توزيع المياه في مصر كنموذج للفساد في توزيع الموارد بشكل عام، ضاحية أليجريا السكنية التي تم إنشاؤها 2007 وتحت شعار «الجانب الأكثر اخضرارًا للحياة»، هي واحدة من عشرات الضواحي المسورة التي نبتت في الصحراء في العقد الأخير، والتي أنشأتها شركة السادس من أكتوبر للتنمية والاستثمار (سوديك) وهي مجتمع متعدد الثقافات يجمعه الجولف والسباحة، تفخر أليجيريا بـ «أسلوب حياة أكثر صحة وسعادة» وتعلن بفخر عن ملعب جولف ذي 18 حفرة بالإضافة إلى «إطلاله على أهرامات الجيزة» ويستطيع المشترون أن يختاروا من بين 30 تصميمًا مختلفًا للفيلات تم تصميمها كلها عن طريق فريق من المعماريين المرموقين، تملك كل فيلا أو مجموعةٍ من الشقق حمامَ سباحةٍ وحدائقَ خاصةٍ بها، وهناك أربع شركات تقوم بصيانة بصيانة الحدائق والمسطحات الخضراء. في نفس الوقت الذي كانت تتدفق المياه وتتحول أموال الضرائب نحو هذه الواحة أو تلك، كان ملايين من سكان القاهرة القديمة يكافح مع فرص ضئيلة لتوفير مياه على الجانب الآخر من الطريق، المسطحات الخضراء التي يتم التباهي بها والتي جعلت «الجانب الأكثر اخضرارًا للحياة» ممكنًا، أصبحت رمزًا لفساد الحكومة.
من تقرير العدالة في التخطيط 2016 – مؤسسة تضامن
رصدت الباحثة Karen Piper عديدًا من الاحتجاجات الغاضبة على غلاء أسعار المياه عام 2005، وكتبت: «ازداد سعر المياه إلى الضعف في بعض مناطق العاصمة خلال شهور من عملية الخصخصة، وبدأ المواطنون بالاحتجاج. وفي تظاهرة حدثت في شمال القاهرة عام 2005 قام السكان الغاضبون بمطاردة محصلي الضرائب في الطرقات، أما أولئك الذين لم يمكنهم تحمل تكاليف المياه فلم يملكوا الكثير من الخيارات سوى الذهاب إلى أطراف المدينة للحصول على المياه من القنوات القذرة المتفرعة من النيل، وفي عام 2007 قام محتجون بقطع الطريق الساحلي بعد أن قامت شركة المياه بتحويل المياه من البلدات الزراعية التي تعتمد على صيد الأسماك إلى المجتمعات الثرية في المنتجعات».
عندما تم إنشاء هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة كان الهدف من إنشائها هو تكوين مراكز حضرية جديدة حول القاهرة وإعادة توزيع السكان على شريط الوادي بعيدًا عن المناطق الزراعية، الهدف الثاني من إنشاء الهيئة هو توفير مساكن لمحدودي الدخل كوسيلة لخلق فرص بديلة عن المناطق الرسمية؛ هذه هي الأهداف المعلنة للهيئة.
الدستور والقوانين واللوائح كلها تصب في نصيب مواطن الطبقة تحت المتوسطة والمتوسطة، في حين أنهم الفئة الأقل استفادة من المشروعات، على أرض الواقع تعتبر هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة مجرد منظم لحركة المستثمرين في مصر، خلال عام 1991 إلى عام 1997 تضخم معدل النمو في قطاع العقارات في مصر من 1% إلى 6.2 %، وخلال العام 2014 إلى عام 2016 زادت نسبة الاستثمارات في هيئة المجتمعات العمرانية من 7.3 مليار جنيه إلى 26.7 مليار جنيه، أي ما يعادل خمسة أضعاف الإنفاق الاستثماري على قطاع الصحة في مصر كلها، وأربعة أضاعف الإنفاق على قطاع التعليم، في حين أنه في المقابل كان الإنفاق الاستثماري في وزارة العشوائيات والمناطق المحرومة يصل إلى 0.6 مليار جنية فقط، والذي يظهر أنها كانت تكلفة زائدة على طاقة الحكومة فتم إلغاء وزارة العشوائيات في أواخر العام الماضي.
الاقتصاد الوهمي: سمسار يبيع إلى سمسار
كنت آمل أن يمنحنا الوضع العقاري في مصر الفرصة أن نتناقش طويلًا حول التوجهات الاقتصادية الرأسمالية أو الإشتراكية، لكن في الواقع لا يزيد دور هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة الآن عن كونها سمسارًا كبيرًا لتنظيم حركة سوق العقارات وتجميد قطع الأراضي وتنظيم بيعها بأعلى سعر لأقرب مطور إلى السلطة والقادر على الدفع الفوري، تتحكم الهيئة في أهم سلعة تملكها الدولة في الوقت الحالي ألا وهي الأراضي، وتكسب الهيئة الملايين يوميًا للموافقة على تراخيص البناء في الأجهزة الإدارية التابعة لها في كل تجمع جديد.
يعتمد هذا النظام الاقتصادي المعولَم على تحريك النقود والسيولة النقدية كبضاعة عالمية وشفطها وتوجيهها إلى الأماكن التي تعود عليها بفوائد عالية تعمل على توالدها وتضاعفها، هذا النظام الخالي من أي شكل من أشكال المنتجات يعمل على إضعاف البناء الاقتصادي الحقيقي للدولة، هذا النظام يعمل على قتل وتذويب الموارد المحلية سواءً كانت منتجات زراعية أو عمالة حِرَفية، فالأماكن غير الجذابة للاستثمار تخسر كل يوم مما يغلق الدائرة أمام كل المحاولات لتصنيع أو زراعة منتجات حقيقية بدلًا من الخرسانة.
المخاوف الحقيقية هي في تكرار أزمة العقارات التي أصابت العالم في ظل التضخم المستمر في العملة كما حدث في عدد من دول الخليج وعلى رأسهم الإمارات عام 2009 حيث تضخمت الديون على الحكومة الإماراتية حتى بلغت 80 مليار دولار في ظل الاستدانة المكثفة من المستثمرين والمقاولين على حد سواء. كان سبب الأزمة الاقتصادية يتركز في الانحسار المتزايد لعدد الأغنياء القادرين على شراء الوحدات الباهظة الثمن للاستثمار في ظل زيادة العرض وقله الطلب، الإحصاءات توضح أن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في مصر تساهم بأقل من 1% من ميزانية الدولة وهذا يدلنا على الوجه الآخر من العملة في هذه التجمعات أن الاستغلال الحقيقي للوحدات في القاهرة الجديدة يصل إلى 30 % فقط! فعدد السكان في القاهرة الجديدة مثلًا يقرب من مليون ونصف ساكن في حين أن المستهدف هو إسكان 6 مليون، وتظل النسبة الأكبر من التجمعات السكانية يسكنها الأشباح وتنتظر البيع.
هاوية الإنسانية
المفكر علي عزت بيجوفيتش
إن الشكل الحالي للعمران الاجتماعي الذي نعيشه يعبر عن فقر فعلًا لكنه في نفوس المستثمرين، إن الآلة الرأسمالية التي توظف كل الطاقات الأكاديمية والمواهب العمرانية لخدمة المسثمرين وسوق العمل تعبر عن فشل أخلاقي أولًا.
وسيظل هذا المسار يتحكم في البشرية حتى لو أقمنا مائة مؤسسة وقانون لدعم المحرومين والمهمشين والحد من الفقر، قد تكون البداية الأمثل يجب أن تغرس في نفوس المتخصصين أنفسهم، قد تكون البداية في زرع الإنسانية في نفوس البشر، لعلها تنطلق من شرارة وعي تسمو فوق كل شهوات السوق، شرارة تضمن لجيل جديد تحمّل كل ضغوطات الحياة المادية، مستعينين بحقيقة ثبتت في نفوسهم عن الخير، حقيقة التسليم لله.