رواية «حفلة التيس»: أن تحرس التاريخ من كذب الرواة
لأدب أمريكا اللاتينية سمة مميزة غير تلك التي يحفظها من قرأ ومن لم يقرأ. ببساطة لا يمكنك أن تقرأه لتزجية الوقت. سيعجبك رنين الوصف الاقدم؛ «الواقعية السحرية».تقرر أن تقرأ رواية لماركيز مثلًا، بعد خمسين صفحة على أقصى تقدير سيصيبك الملل وتتساءل أين السحر الذي يتحدثون عنه؟! تغلقها وتنصرف مقررًا أن الادب اللاتيني ممل ومحشو بالتفاصيل.
حسنًا. هذا استعمال خطأ آخر. الأدب اللاتيني أبعد ما يكون عن الملل، كل ما هنالك أنه لا يرحب بالضيوف العابرين يجب أن تكون على دراية تامة بطبيعة المضيف وطقوس الضيافة قبل حضورك. هذا ما لفت نظري حين قرأت ليوسا للمرة الأولى. سنحكي اليوم عن رواية «حفلة التيس»للبيروفي «ماريو بارجاس يوسا».
يوسا
ماريو بارجاس يوسا المولود في بيرو في مارس/آذار من العام 1936، روائي، وصحفي، وسياسي، وناقد، وأستاذ جامعي. صدرت روايته الأولى في العام 1963 بعنوان «المدينة والكلاب»ولاقت نجاحًا جماهيريًا ونقديًا كبيرًا. معظم كتابات يوسا عبرت عن تصوره لعادات المجتمع البيروفي مع خلاصة تجاربه وتفاعله معها، وامتدت لتشمل المجتمعات اللاتينية المحيطة مع اهتمام متزايد بعلاقة السلطة بالشعوب بشكل عام.
حصل على جائزة «ثربانتس» في العام 1994، ثم التكريم الأكبر كان في العام 2010 حين تم منحه جائزة نوبل في الأدب. وجاء في تعليق اللجنة المانحة عن يوسا؛
يعيش يوسا الآن في إسبانيا التي يحمل جنسيتها ويعده النقاد واحدًا من أهم الكتاب اللاتينيين، إن لم يكن من أهم الكتاب العالميين على الإطلاق.
حفلة التيس – La Fiesta Del Chivo
تبرز رواية «حفلة التيس» واحدة من أهم فضائل الأدب على الإطلاق؛ «التوثيق». يرى يوسا أن الرابط الأخوي بين البشر والشعور بالانتماء للتجربة البشرية التراكمية عبر الزمان والمكان، هو أعظم إنجاز للثقافة ولا شيء يساهم في تجددها كل جيل إلا الأدب، وأنه الأداة الأكثر فاعلية لإخبار من سيأتي بعده كيف آلت الأمور لما آلت إليه.
قرر يوسا، الذي يعرف أنه لا يمكن حماية التاريخ من كذب الرواة سوى بالحكي،أن يسرد – بكامل البهاء الأدبي، وبكامل الأمانة التاريخية – السنوات المظلمة لأكثر الديكتاتوريات التي مرت بأرض اللاتينيين بشاعة. حين انتهيت من الرواية كان كل شيء يبدو في موضعه تمامًا، رواية أخرى تنتمي لأدب الطغيان – وهو أمر معتاد في الأدب اللاتيني بشكل عام – يوسا نفسه يقول إن الأدب هو الشيء الوحيد القادر على الذهاب بعيدًا لأعمق الكهوف التي لا يعرف الواقع عن وجودها،غير أن ثمة رائحة من الحقيقة مبالغ في تجسيدها كانت تزكم الأنوف.
نظرة خاطفة على موقع البحث، فظهر الاسم الصاعقة مع كامل التفاصيل. الجنرال رافائيل ليونيداس تروخيو. التيس بكامل هيئته حقيقي تمامًا. هذه لم تكن رواية إذًا، هذا هو التاريخ بعينه. يوسا كان يوثق لفترة حكم تروخييو السوداء لجمهورية الدومنيكان فيما بين العام 1930 حتى مقتله الذي يعلنه من الصفحة الأولى في العام 1961.
لأن حكايانا إن لم نكتبها صارت ملكًا لأعدائنا
يفتتح يوسا روايته البديعة بهذا المقطع من أغنية شعبية دومنيكانية قديمة. ها قد أخبرك من الصفحة الأولى أن الرجل الذي سنروي قصته سيقتل، ما الذي يمكن أن تضيفه القصة إذا.
في الحقيقة هذه هي معضلة تحويل أي وقائع تاريخية لعمل أدبي،سيطرق رأسك سؤال كبير: ما الذي يمكن أن تضيفه لحكاية نعرفها من الأساس؟ كيف يمكنك أن تلبس التاريخ المجرد حلة أدبية وتجعله قابلًا للتعاطي قائمًا بذاته بعد فقدانك لعنصر المفاجأة في تراتب الأحداث؟يوسا يجيب هنا: الوصف،اللغة،تقنيات السرد.لم يكن السؤال الذي أجاب عليه يوسا بروايته تلك هو: ما الذي سنحكيه من التاريخ؟ إذ تم تحييد الحكاية – المعروفة أصلًا – وصار السؤال هو كيف سنحكي ذلك التاريخ؟دون لحظة شرود واحدة،وباستخدام تقنية الراوي العليم التي بدت مثالية للتنقل بين كل الأماكن والأوقات، تتأرجح الرواية بين زمنين عهد تروخييو، وما بعد مقتله، يتم التنقل بينهما بطريقة الفلاش باك وثلاثة خيوط من الحكي لثلاث منصات رئيسية.1. التيس: الجنراليسمو، الزعيم الملهم، أبو الوطن الجديد، المنعم، صاحب الفخامة، الدكتور رافائيل تروخيو، سيد سلطته الأبدية مع الطبقة الأرستقراطية المحيطة به.
2. الثوار:الأصدقاء الاربعة شركاء مؤامرة اغتيال التيس في السيارة الشيفروليه على جانب طريق الكورنيش المتجه لسان كريستوبال يتقصى دواخلهم واحدًا واحدًا مع الكثير من التناقضات والأمل والرجاء ومثالية الثوار الحمقاء تلك.3. أورانيا: ابنة أوغسطين كابرال، رئيس مجلس الشيوخ الذي استيقظ ذات صباح ليجد السيارات الفولكس فاجن التابعة للاستخبارات العسكرية التي حارب في المجلس كي يقتطع لها جزءًا من أموال الدولة تتبعه هو شخصيًا.أورانيا التي بدأ واختتم روايته بها،تطل بقصاصات غامضة من الحكاية كل حين لتجعلك تتساءل عن أهمية وجود طفلة مدللة وسط صراع السلطة القذر ذاك. أورانيا! من اختار لك هذا الاسم الشنيع يا فتاة، ربما هو أبوك، أيكون أبوك كذلك هو من قام بتسمية العاصمة القديمة بمدينة تروخييو بدلًا من سانتو دومينغو. لا فارق. لقد صار كل ذلك من الماضي. الماضي الذي قرر أن يعود الآن دفعة واحدة.
الزاوية العليا
يعمد يوسا على طول الرواية إلى استخدام اللهجة الدومنيكانية ذات الطبيعة اللاذعة مع الكثير من الوصف والتفاصيل المورطة. يصف الشوارع، والحدائق، والأشجار، البيوت، والقصور، وجوه المارة، رائحة البحر، وزرقة السماء، ويصف الذكريات كذلك. هذه رواية ذات أبعاد خمسة. أنت لا ترى فقط ما يصفه الآن أنت تراه عبر الزمن لتدرك كيف كان، وكيف آل لما آل إليه.
يحكي يوسا بعيني جنرال أصابه جنون العظمة ووصل لأقصى مراتب تأليه الأفراد، يعتقد أنه هو الوطن، يسبغ اسمه على كل شيء، يضع كل أملاك الدولة تحت تصرفه ويدعي بذلك أنه يسدي صنيعًا للشعب. يرتكب المجازر دون أن يهتز له طرف، إذ إن الداء الكبير يا عزيزي لابد له من دواء كبير. ما الذي يهم لو قتلنا عشرة، أو عشرين، أو خمسين ألف هاييتي مقابل أن نخلص شعبنا من هؤلاء الهمج. سيحتج الأمريكيون؟ أنهم يحتجون على أي حال.يلقي بالمعارضين لأسماك القرش، يلقي بأتباعه حتى يتنصل من جرائمه، لقد تمت محاسبة المخطئ يا سادة، تتنتشر شائعة عن مشرد مجنون يقلده ينزل بنفسه للشارع. يرى رجلًا يلبس بدلة كالحة مرصعة بأغطية البيرة كأنها نياشين.
لكن لا أحد يصفق. المارة يتهامسون رعبًا ويبتعدون. يأمر بإلقائه للقروش، ويتراجع في صبيحة اليوم التالي إذ إن المجانين لا يعرفون ما يفعلونه،لكن بعد فوات الأوان.
يعادي الكنيسة، والهاييتين، والفنزويليين، والكوبيين، ويعتقد أن الله اختاره لمهمة مقدسة على الأرض لأنه شخص ذو مواصفات خاصة. يرسل ابنه الأكبر الذي سبب له المتاعب بالداخل لأكاديمية عسكرية في أمريكا ليتسبب بذلك في قطع المعونة الأمريكية لأن ابن الزعيم ينفق ما يفوق قيمة المعونة على ممثلات هوليوود.
يستقيل شكليًا ليتجنب العقوبات، ثم يعين أخاه كرئيس صوري، يعود للكرسي مرة أخرى ليستقيل مجددًا ويعين الشاعر الدكتور «خواكين بالاغير» رئيسًا دمية حتى مقتله. يقف الرئيس الدمية – الذي دانت له السلطة بشكل فجائي- في الكنيسة أمام جثة الزعيم ليلقي خطابًا مؤثرًا؛ «انظروا يا رفاقي إلى السنديانة المقطوعة برشة رصاص غادرة التي طالما وقفت في وجه التقلبات بلا انحناء»، ثم بعد أسبوعين يلقي خطابًا في الأمم المتحدة عن التحول الديمقراطي منتقدًا سياسات تروخييو التي كان جزءًا منها.
كتيبة الإعدام
ينتقل يوسا بين الألسنة والعيون بطريقة القطع المتوازي ليحكي ذات القصة من زاوية أخرى، زاوية منخفضة لا ترى كل توازنات القوى، ولا السياسات المعقدة، ولا تداعيات عقوبات منظمة الدول الأمريكية، كل ما يرونه أنه لابد من الخلاص من التيس إذ ما أهمية المصانع والمزارع والمشروعات والطرق إذا كان الإنسان ذاته ممتهنًا في وطنه.يتتبع يوسا الدوافع النفسية والخلفيات التي أتت بكل منهم للسيارة التي تقف على طريق سان كريستوبال في انتظار مرور التيس. حالة من الأمل والرجاء والترقب الممتزجة بخيبة الأمل. يتنقل في ردهات ذكرياتهم بطريقة «فلاش باك» ليروي كل منهم ما جرى له حتى يأتي إلى هنا مقررًا أن يقتل.
يدرك سلفادور أنها محاولة استفزاز أخرى وقرر ألا ينجرف. سلفادور الذي حضر إلى هنا من أجل مقتل الأخوات ماريبال. سلفادور الذي صار فخورًا بكنيسته بعد الرسالة المطرانية التي ناهضت ممارسات تروخييو وأدت للقطيعة. سلفادور استريا سعد الله الذي يود لو يرى قريته في لبنان قبل أن يموت. يقول: لتنتهي الليلة بمصرع الزعيم، ويتتبع يوسا عمليات القبض عليهم وتعذيبهم وفشل ثورتهم المزعومة، حتى بعد قطع رأس الحية اللعين. سلفادور وكل المشاركين في إعدام التيس تم اغتيالهم دون محاكمة فيما عدا الجنرال أنطونيو امبرت باريرا الذي صار وزيرًا للدفاع لاحقًا ثم تم انتخابه رئيسًا للجمهورية.
أورانيا
الخيط الثالث الأكثر إيلامًا كانت تحمله أورانيا على طول الرواية. خيط مربك، غامض، يتوارى خلفه ألم دفين. ما الذي جاء بك إلى هنا يا أورانيا بعد كل هذه السنوات؟ لماذا غبت من الأساس؟ أورانيا التي تمثل الرابط بين تلاعب الزعيم بحاشيته وبطشه برعاياه واغتياله لإنسانية شعبه، ظلت تلقي بإيماءات الألم على طول الرواية حتى قررت أن تنفجر في الفصل الأخير لتخبرك من وراء حكايتها الموجعة أنه لا نجاة لشعب قرر أن يمجد طواغيته. أورانيا كانت تمثل الوطن المغتصب بكامل هيئته بلا أدنى مواربة.
يقول يوسا إن الأدب الجيد كله متطرف، ويطرح أسئلة حادة عن العالم الذي نعيشه. في كل النصوص الأدبية العظيمة، وغالبًا دون قصدٍ من الكتّاب، توجد نزعة تحريضية. الأدب لا يقول شيئًا لمن هم راضون بما لديهم، لمن يرون الحياة بما يعيشونها الآن. الأدب هو قوت الروح المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد، هو ملجأ لمن لديهم القليل جدًا أو الكثير جدًا من الحياة.