مصير مصر بين أربع قوى سياسية وأربعة تواريخ
بينما حُكم على فلسطيني آخر يدعى «حسن سلامة» في عام 1996 بـ 48 حكما بالسجن مدى الحياة وتم احتجازه طوال المدة منذ ذلك الحين، حيث قضى أغلب مدة احتجازه في الحبس الانفرادي.
أما المشترك بين هؤلاء الفلسطينيين الأربعة فهو أنهم قد تم الحكم عليهم جميعا في يونيو/حزيران الماضي من قبل محكمة مصرية بالإعدام بتهمة ضلوعهم في تحرير المئات من السجناء، بينهم الرئيس المعزول محمد مرسي، من أحد السجون الواقعة خارج القاهرة، في 29 يناير/كانون الثاني عام 2011 إبان الانتفاضة الشعبية التي اجتاحت مصر.
لكن أحكام الإعدام الصادرة بحق هؤلاء وسبعين فلسطينيًا آخرين كانت مجرد زاوية هامشية للقصة الرئيسية، حيث حكمت المحكمة ذاتها على 122 شخصًا بالموت، من بينهم مرسي، وأبرز القيادات العليا لجماعة الإخوان المسلمين، والشيخ يوسف القرضاوي أبرز رجال الدين في العالم السني، إضافة إلى عدد من الأكاديميين والنشطاء، وحتى طالبة شابة لكونها كانت جزءًا من الفريق الرئاسي لـ «مرسي».
هذه المحاكمات إضافة إلى محاكمات أخرى لقيت إدانة واسعة في مختلف أنحاء العالم، وقد وصفتها منظمة العفو الدولية بأنها محاكمات تمثيلية وأنها واضحة الجور (غير عادلة). وبالتبعية، فقد صار القضاء المصري المسيس «أضحوكة العالم»، نظرًا لاستخدامه بشكل واضح كأداة للقمع في وجه المعارضين للنظام منذ انقلاب 3 يوليو/تموز 2013 الذي أطاح بـمرسي وأحبط طريق مصر نحو الديمقراطية. ومن غير المرجح أن القضاء في مصر لم يكن يعرف هذه الحقائق، إلا أن القضاة يبدو أنهم لا يهتمون لأنها محاولة لإعادة فرض حالة الخوف التي اجتاحت المجتمع المصري قبل ذلك، والتي كادت أن تتلاشى مع سقوط مبارك في فبراير/شباط 2011.
ولم يكن هناك أحد سوى الجنرال سامي عنان الذي كان رئيسًا لأركان الجيش في ذلك الوقت هو الذي فند جوهر هذه التهم الملفقة، حين أكد أنه ليست لديه أية معلومات عن أي خرق للحدود من قبل نشطاء حماس أو حزب الله خلال هذه الأيام العصيبة، كما تدعي النيابة الحكومية في محاكمتها السياسية.
الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي تم ارتكابها بواسطة نظام قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي قد تم توثيقها جيدًا بما في ذلك قتل أكثر من 5000 شخص، وإصابة أكثر من 27 ألفًا، والاستخدام الممنهج للاغتصاب و التعذيب والاختطاف، إضافة إلى الإخفاء القسري كأدوات لإخضاع الشعب المصري (على شاكلة حوادث الإخفاءالقسري التي وقعت بحق المعارضين في الأرجنتين إبان حكم المجلس العسكري الأرجنتيني أواخر السبعينات وأوائل الثمانينيات)، إضافة إلى سجن أكثر من 41 ألفا من المعارضين.
وحتى الآن، وعلى الرغم من العقوبات القاسية والإجراءات الوحشية المستخدمة على مدار العامين الماضيين، فإن الحكومة المؤيدة من الجيش وداعميها من تيار الثورة المضادة لم يستطيعوا بعد إحكام قبضتهم على الشوارع أو فرض الاستقرار. ويقاتل الجيش ضد الجماعات المسلحة في سيناء ويفقد جنوده بشكل أسبوعي، وصارت قوات الأمن تهاجم بلا هدف وتضيق الخناق على المعارضين السياسيين والناشطين إلى حد الإنهاك.
اقتصاديا، تبدو مصر على حافة الانهيار، على الرغم من ضخ أكثر من 50 مليار دولار خلال العامين الماضيين تم تقديم أغلبها من الداعمين الرئيسيين للانقلاب في المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة. البنية التحتية للبلاد تتحطم والبطالة تنفجر، وسعر العملة في تدهور مستمر والتضخم في ارتفاع بينما مؤشر معدل البؤس في البلاد من بين أعلى المعدلات في العالم.
تم تدمير صناعة السياحة، وأفلس البلد تقريبا من ناحية احتياطي العملات الأجنبية الذي نزل دون حاجز الـ 20 مليار دولار منها 6 مليارات فقط ليست مملوكة لحكومات أجنبية، منها 3 مليارات على هيئة أصول ذهبية غير قابلة للتحويل. اضطرت حكومة السيسي مؤخرًا لاقتراض 1.5 بليون دولار بأسعار فائدة مرتفعة جدًا بلغت 6.25 %، على الرغم من أن أسعار الفائدة المفروضة على البنوك تتقلب منذ سنوات بين صفر و0.25 في المئة، وفقا لما يحدده مجلس الاحتياطي الفدرالي. في كل يوم تقترض البلاد داخليا ما يقرب من مليار جنيه (130 مليون دولار) فقط لتغطية العجز في موازنتها على الرغم من الخفض المستمر للإعانات والنفقات الاجتماعية. هذا وقد تجاوز حجم الدين الداخلي حاجز 2 تريليون جنيه مصري (262 بليون دولار)، بما يعادل 96% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ الدين الخارجي 40 بليون دولار.
لماذا يصر إذن نظام الانقلاب على السير في طريق التدمير الذاتي؟ للإجابة على هذا السؤال يتعين على المرء أن يفهم المكياج المغطي للمشهد السياسي الراهن في البلاد.
أربعة فصائل سياسية
كان أهم ما يميز التاريخ السياسي لمصر المعاصرة الذي يؤرخ لبدايته بانقلاب عام 1952 الناعم؛ هو سيطرة الجيش على مقاليد الأمور داخل الدولة. الرؤساء الأربعة الأوائل للبلاد كانوا من ضباط الجيش (نجيب – ناصر – السادات -مبارك). منذ منتصف الخمسينيات وحتى عام 1970، هيمن ناصر على المشهد بواسطة خطاب نيو اشتراكي يهدف إلى إعادة رسم هيكل السلطة السياسية في البلاد. وحُظرت الأحزاب السياسية القديمة، وتم خنق الحياة السياسية، كما ولدت النخب السياسية الجديدة داخل الدولة الاستبدادية التي يسيطر عليها ضباط الجيش.
وجاءت هزيمة عام 1967 على يد إسرائيل لتهز هذا الواقع الجديد، لفتح الباب في النهاية أمام سياسة الانفتاح التي أدت إلى صعود النخب الثرية، وهي طبقة جديدة من النخب السياسية والاقتصادية التي تهيمن عليها الرأسمالية الجامحة، من رجال الأعمال الفاسدين، إلى ضباط الجيش المتقاعدين وأتباعهم.
وعندما تولى مبارك السلطة عام 1981 بعد اغتيال السادات، سمح للجيش ببناء إ مبراطوريته الاقتصادية والتجارية من أجل تأمين حياة فخمة لكبار الضباط، الذين صاروا في نهاية المطاف منافسا مباشرا وتهديدا للعديد من الشركات والتكتلات التي تهيمن عليها النخب الاقتصادية الجديدة البلاد. وفي الوقت ذاته، عزز مبارك العلاقات بين سلطته وبين تلك المجموعة الأخيرة من النخب وخصوصا عندما بدأ ابنه جمال في أواخر التسعينيات في السيطرة المباشرة على جهاز الدولة حين بدأ يعد نفسه ليصبح رئيس مصر القادم.
ولكن هذين الفصيلين (الجيش والفلول)، وهو الاسم الذي أطلق على بقايا نظام مبارك في أعقاب انتفاضة عام 2011، كانا يخضعان بقوة لقبضة مبارك أثناء فترة حكمه، كما أنه كان يعرف جيدا كيف يناور بينهما.
ومع ذلك، فإن الشارع السياسي منذ السبعينيات قد بدأ يقع تدريجيا تحت تأثير الحركات الشعبية التي تهيمن عليها الحركات الاجتماعية الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان المسلمين. ولكن توسيع شبكاتها الخيرية والعمل الاجتماعي كان مسموحا به تحت عين النظام لأنه كان يجبر النقص في الخدمات التي تعجز الحكومة عن توفيرها للطبقات الفقيرة وأسفل الطبقة الوسطى. وبحلول مطلع القرن العشرين، كان هناك تفاهم ضمني بين هذه الفصائل الثلاثة، وكان كل منهم على وعي بشريكيه والمحيط الذي يحوزه من السلطة والنفوذ. الجيش مع وضعه الاجتماعي المرتفع وامتيازاته الاقتصادية، والطبقة الثرية مع تأثيرها المتنامي وسيطرتها على مؤسسات الدولة والاقتصاد ودائرة نفوذ سياسي تراقب بعناية، وأخيرا الإسلاميون مع التوسع القاعدي والهيمنة على الشبكات الاجتماعية والمساجد والشوارع.
ومع ظهور شبكات التليفزيون الفضائية ووسائل الإعلام الاجتماعي، برز جيل جديد من الشباب الذي ضاق ذرعا بفساد النظام، كما أنه لم يكن راضيا عن جدول الأعمال البراجماتي الحذر من قبل الجماعات الإسلامية. بدأ هؤلاء الشباب في تنظيم حركات مثل حركة 6 إبريل، وأخذوا زمام المبادرة في تحدي النظام في سياساته الاقتصادية والاجتماعية. نظمت جماعات المعارضة المستقلة الأخرى أيضا أنفسها تحت مظلة حركة كفاية، ومع كل تحد أصبحت المجموعات هذه أكثر جرأة من العديد من أحزاب المعارضة التقليدية التي اكتفت إما بدعمهم من وراء الكواليس أو الهتاف لهم من على مقاعد البدلاء، بما في ذلك العديد من الحركات الإسلامية. وفي الواقع فقد انساب العديد من شباب جماعة الإخوان المسلمين بهدوء إلى هذه الأنشطة، بل إن بعضهم أسس جماعات مستقلة خاصة بهم تميزت بكونها أكثر صخبا وجرأة.
وكانت هذه الجهود الجماعية لهذه المجموعات هي التي أشعلت في نهاية المطاف الانتفاضة الشعبية في 25 يناير/كانون الثاني من العام 2011، والتي أطاحت بمبارك. على الرغم من أن جماعة الإخوان المسلمين قد لعبت دورًا حاسمًا خلال الأيام التاريخية التي أدت إلى الإطاحة بـمبارك، إلا أن دخولها الرسمي إلى المسار الثوري كانت في 28 يناير/كانون الثاني بعد 3 أيام من بداية نزول المتظاهرين إلى ميدان التحرير.
4 فصائل و4 تواريخ: 24 يناير، 3 يوليو، 29 يونيو، 12 فبراير
أظهرت الفصائل الثورية حالة من الوحدة التي أدت دورها ببراعة خلال الأيام الحاسمة من يناير/كانون الثاني وفبراير/شباط 2011، قبل أن تنتقل سريعا لتبادل الاتهامات وتجاذب التوترات بمجرد سيطرة الجيش على السلطة خلفا لمبارك. ظهر اثنان من المواقف المتعارضة حول الطريق إلى الأمام، الأول تبنته الكتلة الإسلامية والآخر تبنته المجموعات الشبابية الثورية. ودعت مجموعات الشباب للمسار الثوري الذي يتمحور حول كتابة دستور جديد من شأنه إعادة هيكلة العقد الاجتماعي بين الدولة ومواطنيها، بينما انحاز الإسلاميون إلى أجندة إصلاحية وأيدوا إجراء الانتخابات تحت سيطرة الجيش لثقتهم أنهم سيفوزون بها.
اتهمت المجموعات الشبابية الإسلاميين بخيانة أهداف الثورة والتحالف الضمني مع الجيش، وخلال معظم فترات المرحلة الانتقالية تحت الحكم المباشر للمجلس العسكري، اشتبكت الحركات الشبابية الثورية مع الدولة، في حين دعا الإخوان المسلمين للتهدئة حيث حققوا خمسة انتصارات انتخابية متتالية شملت غالبية مقاعد البرلمان فضلا عن الرئاسة.
وبصعود مرسي إلى مقعد الرئاسة في يوليو/تموز من العام 2012، أصبحت المناورة السياسية مكشوفة وأوراق اللعب أكثر وضوحا، هناك اثنان من الفصائل الأربعة سيتحالفان بشكل لحظي لهزيمة الثالث، بينما سيكتفي الرابع بدور المراقب من على مقاعد البدلاء. في أوائل العام 2011 كان التحالف بين الإسلاميين والمجموعات الشبابية ضد الفلول، بينما بقي الجيش يراقب من على مقاعد البدلاء لأنه رأى أنه من مصلحته وقف صعود نجل مبارك الذي لم يأتِ من بين صفوفه. بعد فترة وجيزة، توافقت اهتمامات الإسلاميين مع الجيش حيث أراد الإسلاميون أن يكتسبوا الشرعية من خلال تحقيق انتصارات انتخابية، في حين أراد الأخير (الجيش) الحفاظ على الوضع الراهن لحين إيجاد إستراتيجية لعكس الزخم الثوري.
عندما تم الانحياز لمصالح هاتين القوتين، تم تجاهل مطالب الشباب الثوري وتم تدمير صفوفهم كما تعرض الآلاف منهم للمحاكمات العسكرية في حين بدا الإسلاميون ينظرون في الاتجاه الآخر.
خلال هذه الفترة كان الفلول يراقبون من على مقاعد البدلاء، بينما لا يزالون يلعقون جراحهم جراء سقوط رئيسهم. بحلول الوقت الذي جاء الإسلاميون فيه إلى السلطة في صيف عام 2012، كان الفلول قد استعادوا موطىء قدم لهم، مدفوعين بقوة 12 مليون صوت حصل آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، الجنرال أحمد شفيق، لم تكفه لحسم مقعد الرئاسة في الانتخابات ضد مرسي.
وسواء كان للأمر ما يبرره أم لا، فإنه بحلول نهاية عام 2012 شعرت المجموعات الشبابية الثورية أنها قد تمت خيانتها من قبل جماعة الإخوان المسلمين التي اتهموها بالاستئثار بالسلطة وتنفيذ أجندتها السياسية والاجتماعية الخاصة. وفي الوقت ذاته، اشتكى الرئيس الإخواني بمرارة من أن شركاء الثورة قد تخلوا عنه وألقوا بأنفسهم في أحضان مجموعات الثورة المضادة.
في ذلك الوقت كانت المؤسسة العسكرية بقيادة الجنرال السيسي وجهاز أمن الدولة يراقبان الأمور من على مقاعد البدلاء. تصلبت المواقف وازدادت فجوة الثقة بين الشركاء الثوريين السابقين. وبسبب قلة الخبرة أو السذاجة السياسية أو سوء التقدير، فإن جماعة الإخوان المسلمين لم تقدم التنازلات الكافية لحلفائها السابقين، ظنا منها أنه بدون دعم الجيش (الذي اعتقد الإخوان خطأً أنه يدعمهم) لا يمكن لتلك المجموعات بحال أن تفرض إرادتها.
وبمجرد أن انقشع الغبار في أعقاب الانقلاب،أدرك الجميع بوضوح أن مرسي لم يسمح له في لحظة ما أن يكون حاكما فعليا، وأن المجموعات الثورية قد تم التلاعب بها بسهولة من قبل الدولة العميقة. في حين قدم الفلول كل الدعم اللوجستي والإعلامي اللازم للإطاحة بالإسلاميين. ولكن في هذه المرة كان هناك 3 من الفصائل اتحدت ضد فصيل واحد منذرة بعواقب وخيمة. تزايد الاستقطاب في البلاد بشدة ووصلت مستويات الكراهية وعدم الثقة والغضب إلى معدلات غير مسبوقة.
تم تنفيذ اللعبة بكل يسر وسهولة من قبل الجيش الذي أعاد طرح نفسه مرة أخرى في شخص السيسي كمنقذ للبلاد من الحرب الأهلية وعدم الاستقرار. ولكن على الرغم من النشوة التي جاءت مع إزالة أول رئيس منتخب ديمقراطيا، سرعان ما علمت المجموعات الثورية أن الجيش لا يشاركها أهدافها النبيلة. ففي خضم حماسهم للإطاحة بحكم مرسي، وقعت هذه المجموعات في خيانة للأهداف الخاصة الراسخة لديهم في رفض الحكم العسكري. في غضون أشهر، كان جميع قادة الشباب الثوري ما بين سجين ومنفي وهارب وساكت.
أصبح السيسي رئيسا في مايو/أيار من العام 2014 عبر انتخابات صورية حصل خلالها على 96% من الأصوات. ولم يسفر عام من حكمه عن أية إنجازات كبرى وتوترت في عهده التحالفات التكتيكية فلم تعد الفصائل تدخل في قطيعة فقط مع خصومها الأيدولوجيين، بل صار الحذر سيد الموقف حتى في التعامل مع الحلفاء الأيدولوجيين المفترضين.
وبقي الفلول غاضبين، وذلك لأن معظم المشروعات الاستثمارية الكبرى ذهبت لصالح الماكينة الاقتصادية القوية للجيش، لأنها تستند في الأساس إلى عمالة لا تتقاضى أجورا (المجندين) كما أنها لا تدفع الضرائب وتستخدم الطاقة المدعومة وتمتلك العقارات والأراضي الثمينة، وبهذه الميزات يكاد يكون من المستحيل منافسة الجيش اقتصاديا.
في غضون أقل من عام، بدا السيسي خلاله وكأن طموحه الأول تحقيق المقولة: «مصر ليست دولة لها جيش، ولكنها جيش له دولة». ومع ذلك، واصل السيسي مطالباته بتنازلات ضخمة ومساهمات كبيرة من قبل رجال الأعمال الأثرياء دون أن يقدم الكثير في المقابل. سياسيا، لم يكن السيسي مصدر ثقة تامة من قبل المقربين السابقين من مبارك، بينما لم يستطع هو بناء دائرته السياسية الخاصة. ونتيجة لذلك فقد ظل يؤجل الانتخابات البرلمانية خوفا من هيمنة الفلول عليها وكبح جماح نفوذه المطلق.
من جانبهم، وجد الفلول وجها جديدا في الفريق أحمد شفيق، المرشح الخاسر في الانتخابات الرئاسية عام 2012. وبعد الانتخابات، هرب شفيق إلى دولة الإمارات العربية المتحدة هربا من الاعتقال بتهم الفساد. وحتى بعد أن قام القضاء المسيس بتبرئة كل رجال مبارك وأبنائه ورفاقه بمن فيهم أحمد شفيق، ظل شفيق في المنفى لعلمه أن السيسي كان حريصا على عدم السماح له بلعب أي دور سياسي. وعلى الرغم من ذلك فقد أسس حزبا وتعهد بقيادته نحو تحقيق انتصار برلماني. وعاد التوتر إلى الواجهة مؤخرا حين شكك شفيق في مقابلة تليفزيونية في شرعية السيسي، وتعهد شفيق بالطعن في نتائج انتخابات عام 2012.
وخلال المقابلة أكد شفيق بالقول: «أنا أعلم أكثر مما تعلم المخابرات. من الأفضل أن يحتفظ كل شخص بفمه مغلقا كما أفعل، لا أحد من حقه أن يجبرني على عدم الترشح في البرلمان»، وفي المقابل منع السيسي المقابلة من العرض في مصر، حتى بعد أن تم الترويج لها بشكل كبير. وأعلن السيسي، علاوة على ذلك، خلال زيارته الأخيرة إلى ألمانيا، في رفض واضح لتصريحات شفيق، أنه ما من شك في أن مرسي كان الفائز الفعلي في سباق 2012، لكن الناس تحولت ضده.
وفي وقت لاحق أرسل السيسي رئيس مخابراته إلى الإمارات العربية المتحدة لمناشدة حكامها لكبح جماح شفيق. ويعتقد العديد من المراقبين السياسيين الآن أن أجنحة داخل الدولة متحالفة مع شفيق كانت على الأرجح مصدر التسريبات الصوتية المتكررة التي يتعرض الحكم الفاسد وغير الكفء للسيسي خلال العامين الماضيين.
وفي الوقت نفسه، عانت الصفوف الثورية أيضا من الحقد وتوجيه أصابع الاتهام. المجموعات الشبابية الثورية تتهم جماعة الإخوان بأنها من أدارت ظهرها للثورة بمجرد أن بلغت السلطة السياسية. جماعة الإخوان المسلمين، بدورها، تتهم هذه الجماعات بتسهيل الانقلاب وتبرير استعادة الحكم العسكري وعودة الدولة البوليسية. وتؤكد أيضا أنه حتى لو أنها ارتكبت بعض الأخطاء أثناء وجودها في الحكومة فإن التحالف مع أعداء الثورة لا يمكن أبدا أن يكون مبررا. وتشير دوما إلى حقيقة أنه منذ الانقلاب، فقد رفضت الجماعة بشكل قاطع التوصل إلى حل وسط مع الحكم العسكري وبالتالي كانت الأكثر معاناة على يد الانقلاب مع وجود الآلاف من قادتها، وأعضائها ومؤيديها بين قتيل وجريح ومنفي، سوى مصادرة أصولها ومنع مؤسساتها وجمعياتها الخيرية.
كل فصيل يريد العودة إلى تاريخ معين في الماضي، يرغب الفلول في عودة التاريخ إلى 24 يناير/كانون الثاني 2011 لاستعادة هيمنتهم السياسية والاقتصادية. وتشمل نقاط قوتهم الدعم من شريحة كبيرة من الدولة العميقة، والقطاع الأعظم من ماكينة الفساد السياسي لعصر مبارك فضلا عن العديد من الطبقة الأوليجاركية لرجال الأعمال مع إمبراطوريات وسائل الإعلام الخاصة التي لعبت دورا حاسما في تنفير الجمهور من «مرسي» وجماعة الإخوان المسلمين والتي تبدو على استعداد الآن لانتقاد السيسي تدريجيا. وعلى ما يبدو فإن هذه المجموعة تحظى بالدعم الضمني من قبل دولة الإمارات العربية المتحدة والتي ناشدها السيسي مؤخرًا لإسكات شفيق. وبعدها بأيام قدم شفيق استقالته من رئاسة حزبه الذي أنشأه حديثا، ويدعى حزب الحركة الوطنية المصرية، ولكنه تعهد بالبقاء صاخبا.
الجيش بقيادة السيسي والدوائر المقربة منه يحتفي بذكرى 3 يوليو/تموز 2013 يوم الإطاحة بمرسي واعتقاله، وبداية صعود الجيش مرة أخرى إلى السلطة، باعتباره فجرًا جديدًا في مصر. ويحرص السيسي على تذكير الشعب أنه كان عليه الإطاحة بمرسي من أجل منع نشوب حرب أهلية، على الرغم من أنه لا يوجد دليل بأن الرئيس السابق قد أمر بشن أي حملات ضد المعارضة. الحديث عن استبداد الحكم في ظل مرسي يتضاءل كثيرا بالمقارنة مع كل أولئك الذين سبقوه.
كان عدلي منصور، الرئيس المؤقت الذي عينه السيسي لإدارة المرحلة الانتقالية، في الواقع يجمع في يديه السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في آن واحد، حيث كان في وقت واحد يشغل منصب القائم بأعمال رئيس الدولة ورئيس المحكمة الدستورية العليا والذي يحكم البلاد بحكم المرسوم الذي علق به السيسي العمل بالدستور.
وتستند قوة هذه المجموعة بالطبع إلى الدعم الذي تحظى به من قبل الجيش، الذي لا يزال يتمتع بدرجة كبيرة من التبجيل والاحترام من قبل عدد كبير من المصريين. فضلا عن شبح عدم الاستقرار الذي يبدو مسيطرا على الكثيرين حال فشل الجيش في إحكام قبضته على البلاد. ولكن، حتى الآن، فشل السيسي في تشكيل أي رؤية شاملة للبلاد أو في توحيد مواطنيها الذين يعانون استقطابا عميقا.
ولتوطيد أركان حكمه، اعتمد السيسي بشكل كبير على تكتيكات الدولة البوليسية، والإرهاق ونفاذ الصبر اللذين أصابا الشعب المصري بعد 4 سنوات من عدم اليقين وغياب الاستقرار. ومن المشكوك فيه بشدة أن يكون السيسي بمقدوره العودة بمصر من الهاوية، أو النجاح في معالجة الاضطرابات السياسية والتحديات الاقتصادية، والاستقطاب الاجتماعي في مصر.
شهدت جماعة الإخوان المسلمين في مصر أسرع دورة صعود وسقوط لجماعة سياسية في التاريخ الحديث للمنطقة. ولكن يحسب لها أنها رفضت منح الشرعية للانقلاب أو تقديم تنازلات في الموقف المبدئي الرافض للحكم العسكري. وأصرت على أن تقدم للعدالة أولئك الذين ارتكبوا الفظائع ضد الشعب المصري. ومع ذلك فإنها تصر على العودة بعجلة التاريخ إلى يوم 29 يونيو/حزيران 2013 من خلال إصرارها على عودة مرسي باعتباره الرئيس المنتخب شرعيًا، واستعادة دستور 2012 الاستقطابي، والمؤسسات المنتخبة ممثلة في البرلمان، وهو بالطبع ما يرفضه السيسي. أما هدفها المباشر فيتمثل في عكس آثار الانقلاب ونزع الشرعية عن آثار تظاهرات 30 يونيو/حزيران.
وإلى الدرجة التي تسبب خيبة أمل منتقديها فى الصف الثوري، فإنها لا تزال ترفض الاعتراف بسياسة الاستقطاب التي مارستها ضد شركاء الثورة السابقين، والتي مهدت الطريق إلى أحداث 30 يونيو/حزيران والأزمة الحالية. علاوة على ذلك، فإن منتقديها يؤكدون أن خطابها الثوري الحالي يتعارض بشكل مباشر مع مطالبة أنصارها بعودة المسار الدستوري الذي يسعون إليه من خلال الإصرار على مطلب عودة مرسي إلى السلطة وإحياء دستور 2012. المسار الدستوري، كما يزعم هؤلاء لا يسمح بتطهير ثوري للقضاء المسيس ولا للمدعين العامين الفاسدين (النيابة العامة) ولا لوسائل الإعلام المعطوبة، كما أنه أيضا يحصن الجيش ويضفي على كبار ضباطه الحماية إضافة إلى امتيازات أخرى غير مستحقة.
درجة الوحشية التي مارسها نظام السيسي ضد جماعة الإخوان المسلمين تجاوزت كل التجارب السابقة مع القمع الحكومي الذي تعرضت له الجماعة منذ الأربعينيات. لقد هز القمع أعضاءها حتى النخاع، ولكنه أثبت أيضا أن المنظمة قادرة على الاحتفاظ بقدر كبير من قوتها على الرغم من المستويات غير المسبوقة من المعاناة وسوء المعاملة. بعد فترة من الصمود الذي أنهي علنا مع العديد من المجازر في شهري يوليو/تموز و أغسطس/آب 2013، كان العديد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين قادرين على الهروب من الأجهزة الأمنية ومغادرة البلاد التي عجت في جدال داخلي عنيف.
وبحلول شهر إبريل/نيسان من العام 2014، أفرزت عملية إعادة التقييم عن قيادة جديدة والتي، وفقا لأكبر المسؤولين في جماعة الإخوان خارج مصر، تضم 65 – 70% من جيل الشباب تحت 45 عامًا. الديناميات (التفاعلات) الداخلية للجماعة صارت تتخذ صورا أكثر علانية عندما قام أحد أفراد الحرس القديم بإصدار بيان رفض من خلاله استخدام العنف وشكك في القيادة الجديدة. في غضون ساعات رفضت القيادة الجديدة تأكيداته وجددت دعوتها لهبة ثورية من شأنها أن تستمر حتى سقوط السيسي ونظامه القمعي. وسرعان ما تبعتها القيادة الداخلية للشباب في مصر ب دعوة أخرى أيدت خلالها النهج الثوري الذي لا يتزعزع.
وفي الوقت ذاته، لا تزال المجموعات الشبابية الثورية تتجادل حول البدايات الأولى للمسار الثوري البحت خلال أيام الثورة الأولى لعام 2011. وهم يجادلون بأن ثورتهم قد تم إحباطها، ويجب أن تستأنف كما لو كنا لا نزال في 12 فبراير/ شباط عام 2011. ويكمن الخطأ الأكبر من وجهة نظرهم في أن الثوار قد قرروا العودة إلى منازلهم قبل الأوان والقبول بحكم المجلس العسكري. وتشمل أبرز هذه المجموعات حركة 6 إبريل، والتي سجنت قياداتها مثل أحمد ماهر و محمد عادل و أحمد دومة من قبل نظام السيسي، إضافة إلى الاشتراكيين الثوريين مع قيادات أخرى مثل علاء عبد الفتاح الذي يقضي حكما بالسجن خمس سنوات لتحديه النظام العسكري.
الانتقادات الموجهة، وبخاصة من معسكر الإسلاميين، تدعي أن معظم هذه المجموعات الثورية تبرع فقط على المستوى الخطابي ولكنها تفتقر إلى الموضوعية والإقناع والتأييد الشعبي.
وعلاوة على ذلك، فإن العديد من الشباب الذين لعبوا أدوارا أساسية في اللحظات الأولى للثورة بقوة تم نفيهم أو أصيبوا بالإحباط و بقوا صامتين مثل وائل غنيم. وهو واحد من الشخصيات الشبابية الأبرز التي أشعلت ثورة عام 2011، وعلاوة على ذلك، فقد لعبت روابط ألتراس كرة القدم أيضا دورا هاما في معارضة الإجراءات القمعية للنظام الحالي. بل أن مشاركتها في المستقبل ستكون حاسمة، لأنها أظهرت شجاعة وعزيمة، وتنظيما، وثلاثتها هي العناصر اللازمة من أجل التغيير الثوري الحقيقي.
الطريق إلى الأمام
التاريخ نادرا ما يعيد نفسه ولكن الحكمة دوما أن نتعلم من دروسه. كانت الانتفاضة المصرية عام 2011 حدثا رائعا أظهر العديد من السمات الإيجابية للشباب المصري وتطلعاتهم المستقبلية.
ولكن تحطم صفوف شركاء الثورة في غضون أيام قليلة من الإطاحة بمبارك لم يدع فرصة في المضي قدما نحو تغيير حقيقي. تم اختطاف الحلم بسهولة. أولئك الذين كانوا يتبنون الدعوة إلى التغيير التدريجي، وجدول الأعمال الإصلاحي قد وضعوا ثقتهم وأخضعوا جدول أعمالهم لنفس أولئك الأشخاص الذين استفادوا من الفساد والقمع في عهد مبارك. لا يعني الطريق الثوري بالضرورة اللجوء إلى العنف أو الفوضى. ولكنه يعني في جوهره قطيعة تامة مع النظام السابق والمؤسسات المعطوبة، والشخصيات الفاسدة، وبناء دولة جديدة من الألف إلى الياء. هذه مهمة هائلة بالطبع، ولكن الدولة المصرية تبدو عميقة بما يكفي وضاربة بجذورها في القمع والفساد إلى تلك الدرجة التي يصبح معها أقل شيء دون تفكيكها بشكل كلي عديم الجدوى ولن يثمر تغييرا ذا معنى.
ومع ذلك فإن نجاح المسار الثوري يواجه معضلة كبرى. لا يمكن أن تنجح الثورة دون الإخوان المسلمين بسبب انضباطهم وقدرتهم على تعبئة قطاعات واسعة من المجتمع. كما أنها كذلك لا يمكن أن تنجح بهم وحدهم. إعادة تلك اللحظة من الوحدة التي تم إظهارها في ميدان التحرير، والتي نجحت في هزيمة نظام مبارك، وكسرت جهازه الأمني هو الخطوة الأولى نحو إنهاء نظام «المباركيين الجدد» للسيسي. لكن ينبغي على كلا الجانبين الاتفاق على الأهداف الإستراتيجية لهذه الشراكة المتجددة، وتوفير تدابير حقيقية لبناء الثقة.
يجب أن تركز هذه الإستراتيجية على مسار الثورة الذي يدعو إليه الجميع من أجل تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية واضحة:
أولا: إنهاء دور الجيش المصري في السياسة نهائيا، والتقاعد الإلزامي لكبار الضباط وإعادة هيكلة مؤسسات الجيش للتركيز فقط على الدفاع عن البلاد ضد التهديدات الخارجية، إلى جانب تفكيك كامل للإمبراطورية الاقتصادية للجيش.
ثانيا: تفكيك الدولة العميقة في جميع جوانبها من الشرطة والأجهزة الأمنية، وأجهزة المخابرات، والقضاء الفاسد، ومجموعات الأعمال الفاسدة، والإمبراطوريات الإعلامية.
ثالثا: تأسيس دولة المستقبل على أساس بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية مع كفالة الحقوق والحريات وحماية الأقليات فضلا عن تعهد من جميع الشركاء بعدم فرض أي أجندة اجتماعية أو انتهاج سياسات تنافسية حتى يتم تفكيك الدولة العميقة وإحلال المؤسسات الديموقراطية محلها وعملها بشكل صحيح.
بمجرد الاتفاق على خطة العمل هذه، يجب وضع تدابير للشروع في بناء الثقة، تظهر مسألة عودة مرسي إلى السلطة لتكون نقطة الجدل المثيرة للخلاف. من جهة تقول جماعة الإخوان المسلمين أنه من المهم الوقوف على الشرعية واحترام إرادة الشعب، ورفض المغتصب للسلطة وكل ما يترتب على النظام الانقلابي، وخصوصا على الصعيد الاقتصادي. من ناحية أخرى، يؤكد الشباب الثوري أنهم لن يكونوا على استعداد للتمرد ضد السيسي لاستعادة سلطة مرسي الذي كان قد ثار ضده عدد كبير منهم أيضا خلال عام 2013.
كلا المجموعتين له وجاهة في نقطة ما، ويجب أن تحل هذه الأزمة عبر اعتراف الشباب الثوري بأن مرسي كان رئيسا شرعيا تم انتخابه ديموقراطيا لرئاسة البلاد من قبل غالبية المواطنين المصريين. وعلاوة على ذلك، طالما أن الثورة لا تزال في طور الإعداد بينما لا يزال السيسي مسيطرا، يجب على جميع الجماعات الثورية أن يعترفوا بحقيقة احترامهم لإرادة الناخبين، وبالتالي يقبل مرسي كرئيس منتخب مختطف لمصر بحكم الأمر الواقع حتى الآن. إذا كانت هناك طريقة ما لاستعادة مرسي السلطة بأي وسيلة أخرى سوى الثورة، فإنه سيكون بإمكانه استئناف رئاسته. ومع ذلك، إذا سقط السيسي ونظامه من خلال مسار ثوري جديد، فإن جميع الأطراف بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين يجب أن تعترف بالواقع الجديد من ثورة ناجحة جددت المسار، والهيكل، والدستور الذي سيخرج دون أي التفات إلى الماضي.
الثورات هي أمر نادر جدا في التاريخ بسبب العديد من العوامل والشروط التي يجب أن تتعايش بشكل ديناميكي في وقت واحد. كلما نجح شركاء الثورة في تصفية خلافاتهم والعمل معا بشكل عاجل لخلق هذه الظروف، كلما كان بإمكانهم التعجيل بتخلص مصر من نير القهر واستعادة الشرف والكرامة لشعبها فضلا عن الشهداء والأسرى الفلسطينيين الذين أهينوا في محاكمها.
تم نشر النسخة الانجليزية من هذا التحليل في 20 يونيو 2015 في ميدل آيست أي