وجه العالم يرسمه دونالد ترامب
في 2014، وبعد وقت قليل من غزو روسيا لأوكرانيا وضمها لشبه جزيرة القرم لتدخل ضمن الفيدرالية الروسية، كان ريتشارد شريف «نائب القائد الأعلى لحلف الناتو» قد تنحى عن منصبه مُعترضًا على تقليص الدول الأوروبية لإنفاقها العسكري داخل الناتو ومتخوفًا من أثر ذلك على التوازن العسكري بين أوروبا وروسيا.
لاحقًا أطلق ريتشارد رواية جديدة تحمل اسم «2017: الحرب مع روسيا»؛ والتي تنبأ فيها بسيناريو أحكمت فيه روسيا قبضتها على دول شرق أوروبا وخاصة دول البلطيق مُهددة التحالف العجوز (حلف الناتو). رسم ريتشارد هذا السيناريو لتشجيع الدول الأوروبية على المزيد من الإنفاق العسكري لحماية الاستقرار في شرق أوروبا، ومشددًا على أن الاعتماد الأوروبي المتزايد على الجاهزية الأمريكية لحماية حدودها أمر غير مضمون وأن على أوروبا أن تتولى أمر حماية نفسها بنفسها.
لم يكن السيناريو الذي رسمه ريتشارد شديد الغرابة، فالآن نحن على أعتاب عصر أمريكي جديد يعلن فيه الرئيس الأمريكي عن إعجابه الشديد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وعن سخطه على حلف الناتو وعلى دور أمريكا فيه. فما الذي يمكن أن يحدث للعالم في هذه السنوات؟، وهل ستكون سنوات ترامب هي العصر الذهبي للتنين الصيني والدب الروسي؟، وما أثر السياسات المتوقعة لترامب على توازن القوى في شرق أوروبا وبين إيران والخليج العربي وأخيرًا مُشكلة بحر الصين الجنوبي؟.
حائط أوروبا المائل
أسس حلف شمال الأطلسي عام 1949 بهدف حماية أعضائه من الخطر السوفييتي، وتُعد أمريكا هي الدولة الأهم في حلف شمال الأطلسي من ناحية الإنفاق العسكري. يُفيد الجزء الخامس من اتفاقية حلف شمال الأطلسي بأن الاعتداء المسلح على أي دولة عضو في حلف الناتو بمثابة اعتداء مسلح على دول الحلف كلها بما يسمح لدول الناتو بالرد على المعتدي بأي وسيلة تراها مناسبة بما فيها الرد العسكري.
أصبحت اتفاقية الناتو مؤخرًا هي حائط الصد الوحيد الذي يحمي دول شرق أوروبا من التمدد العسكري الروسي، فبعد غزو أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم تتزايد الأطماع الروسية في دول البلطيق التي كانت جزءًا من الاتحاد السوفييتي.
ولم يأت تزايد النفوذ الروسي من فراغ، ففي السنوات القليلة الماضية قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتطوير الترسانة العسكرية الروسية المتهالكة، حيث تزايد الإنفاق الروسي العسكري من 20 بليون دولار عام 1998م ليصل عام 2014م إلى أكثر من 80 بليون دولار. وإلى جانب تطوير ترسانته التقليدية من مدرعات وطائرات قام بوتين بتحديث الترسانة النووية، وكان آخر ما توصلت إليه روسيا صاورخ باليستي يصل مداه إلى الحدود الشرقية والغربية لأمريكا وبإمكانه أن يزيل فرنسا من على الخريطة بضربة واحدة.
كان من المنتظر أن يكون دونالد ترامب على قدر التطورات الجيو-إستراتيجية في العالم اليومي من توسع في النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وشرق أوروبا، ولكن على العكس من ذلك أتت تصريحات ترامب مخيفة للغاية لحلفائه في الناتو وشرق أوروبا.
حيث صرح ترامب أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تدافع عن دول حلف الناتو إذا هاجمتها روسيا في حالة أن هذه الدول قد أوفت بالتزاماتها تجاه الحلف، وما يعنيه ترامب هنا هو جزء من اتفاقية الحلف تلزم الدول الأعضاء بدفع 2% من إجمالي ناتجها العام لميزانية الحلف الدفاعية. ومن ضمن 28 دولة عضو في حلف الناتو هناك 5 دول فقط تدخل تحت هذه المظلة التي تحدث عنها ترامب منها بريطانيا و لاتفيا وأمريكا. وفي مقابلة أخرى مع نيويورك تايمز رفض دونالد ترامب إعطاء ضمانات تخص التزامات الولايات المتحدة الأمريكية تجاه حلف الناتو، حيث وصف هذه الالتزامات بأنها (بائدة). أثارت هذه التصريحات موجة من الفزع لدى دول شرق أوروبا بالطبع وخاصة في ظل التوحش الروسي الحالي، حيث وصفها رئيس لجنة الشئون الخارجية في برلمان لاتفيا بأنها تصريحات (خطيرة وغير مسؤولة).
هل يمكن لترامب استعادة العلاقات مع روسيا؟
من الناحية النظرية، نعم، حيث تزايدت الشكوك طيلة فترة الحملة الانتخابية عن الدعم الروسي لدونالد ترامب وعن سعيه لإصلاح العلاقات الروسية الأمريكية، حيث صرح ترامب أنه سيكون من السهل عليه التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وأن على أمريكا وروسيا أن تنسيا قرونًا من المواجهة وتنتقلا إلى محاولة بناء الاستقرار والسلام. ويبدو أن لدى ترامب ما يستطيع فعلًا تقديمه لروسيا، حيث حملت إحدى تصريحاته استعداده بالاعتراف بضم شبه جزيرة القرم.
لكن من الناحية السياسية ما يريده الكرملين أكبر بكثير مما يستطيع ترامب وحده تقديمه، حيث يريد الكرملين رفع العقوبات عن روسيا والاعتراف الأمريكي بضم شبه جزيرة القرم والقبول بالتدخل الروسي في أوكرانيا وسوريا، كما يريد الكرملين من الناتو أن يعيد حائط الصواريخ إلى ما كان عليه أثناء الحرب الباردة؛ أي أن لا يشمل دول البلطيق وشرق أوروبا. فهل تستطيع المؤسسة الأمريكية تحمل كل هذه التنازلات؟.
مآل الصفقة النووية والحرب السورية
لم يكن الدعم الخليجي لهيلاري كلينتون أمرًا سريًا، فمؤخرًا فقد وصلت التبرعات الخليجية لحملة كلينتون الرئاسية إلى ملايين الدولارات. لم يكن الخليج أبدًا يفضل دونالد ترامب لأسباب عديدة، ويبدو أن انتخابه سوف يكون بمثابة كارثة على توازن القوى في الشرق الأوسط.
ففيما يخص الصفقة النووية مع إيران والتي اعتبرها أوباما إنجازًا تاريخيًا لحكومته، حيث تضمن بها أمريكا أن لا تصل إيران إلى امتلاك سلاح نووي في مقابل رفع العقوبات الاقتصادية عنها، هذه الصفقة التي عارضها الجمهوريون، انتهى بها المآل كاتفاق سياسي وليست كمعاهدة معتمدة من قبل صناع القانون؛ ما يعني أن بإمكان ترامب أن يلغيها إذا ما اختلف مع تفاصيلها، وهو ما يبدو جليًا حين وصفها في إحدى لقاءاته بـ«الكارثة» وفقًا لتعبيره «وأسوا صفقة على الإطلاق». وفي لقاء له مع الأيباك قال ترامب بإن أولويته الأولى ستكون «تفكيك الصفقة الكارثية مع إيران»، ولكن في المقابل فقد صرح أيضًا بأنه لن يتمكن من إلغاء صفقة وقعت بمعرفة الأمم المتحدة لكنه سيسعى لتشديد سياساتها وشروطها.
أما بخصوص موقفه من الحرب في سوريا فيؤيد ترامب تدخلًا أمريكيًا لفرض منطقة حظر طيران فوق الأراضي السورية، لكن بالطبع لن تقوم أمريكا بالإنفاق على هذه العملية، بل ستكون دول الخليج هي الممول الرئيسي لها.
تبدو هذه المحاولة بالطبع أمرًا صعبًا وفق آخر التطورات في سوريا ومع ما يبدو أنها علاقة مميزة تتشكل بين دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إلا أن الضباب يغلف بشكل كبير سياسة ترامب تجاه الشرق الأوسط.
الصين: معضلة ترامب
هناك ثلاثة أسباب تجعل الصين هي التحدي القادم لدونالد ترامب؛ أكثرها حداثة هو التحول الغريب والمفاجئ الذي طرأ على علاقة الفلبين بالولايات المتحدة الأمريكية والتي طالما كانت الحليف الموثوق لأمريكا في بحر الصين الجنوبي، ففي زيارة الرئيس الفلبيني الأخيرة إلى الصين صرح بأنه «يريد الانفصال عن الولايات المتحدة الأمريكية عسكريًا واقتصاديًا من أجل السعي لعلاقات أوثق مع الصين»، تبدو هذه الخطوة انقلابًا إستراتيجيًا في موازين القوة في بحر الصين الجنوبي ويجب أن تكون الأولوية الأولى لترامب في هذه المنطقة.
وثانيها؛ بحر الصين الجنوبي إذ يسبب الوجود العسكري الصيني قلقًا متزايدًا للدول الأخرى مثل الفلبين وتايوان وغيرها، كما يشكل تحديًا هامًا لحلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين في المنطقة مثل اليابان وكوريا الجنوبية، وصداعًا حيث تستمر الصين في تعزيز وجودها العسكري والسيطرة على المزيد من الجزر أو إنشاء جزر حديثة وسط البحر تمدد بها نفوذها. ولا يُعد بحر الصين الجنوبي مُهمًا فقط للتجارة العالمية، ولكن لما يحتويه من البترول والغاز بكميات كبيرة وتزداد الخطورة بصفة يومية حيث تصبح القوات الصينية والأمريكية على مرمى حجر من الآخر في مواجهة تنذر بالاشتعال في أي لحظة.
وثالثها؛ الاقتصاد الصيني: كرجل أعمال بالأساس فإن جُل تفكير ترامب منحصر في هذا العالم بالتحديد، ورغم العدوانية الشديدة التي أبداها دونالد ترامب تجاه توسع الصين العسكري والتقني فإن أكثر ما يخيفه هو الاقتصاد الصيني، حيث صرح ترامب بأنه سوف يوقف اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادي (TPP)، كما وصم ترامب الصين مرة تلو مرة بأنها تتلاعب بقيمة عملتها السوقية حيث تسعى الصين لخفض قيمة عملتها بما يساعد في زيادة صادراتها وجعلها أكثر جاذبية، كما يعدد ترامب بفرض إجراءات حماية ضد الاستيراد من الصين والمكسيك محاولاً إعادة تشغيل المصانع الأمريكية المتوقفة نتيجة زيادة التكلفة؛ ما سيؤدي إلى كارثة لنظرية التجارة الحرة حول العالم.
ورابعها؛ الهجمات الإلكترونية التي تزايدت مؤخرًا على القطاعين الخاص والحكومي في دول مثل الفلبين وتايوان والولايات المتحدة الأمريكية، والتي تحمل كلها بصمة صينية وأتت في مناسبات مختلفة متعلقة بالنزاع حول بحر الصين الجنوبي.
في المجمل تبدو تصريحات ترامب ونواياه بمثابة انقلاب على ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية لعقود؛ لذا يأتي السؤال الأهم: هل سيتمكن ترامب من القيام بهذه التحولات الجذرية، أم سيكون لصناع السياسات داخل أروقة المؤسسات الأمريكية رأي آخر؟.
- What If Russia Invaded the Baltics—and Donald Trump Was President?
- A President Trump Would Have Limited South China Sea Options
- Trump's challenge: Can he stop conflict in the South China Sea?
- How A Trump White House Could Devastate Asia's Trade (And America's)
- TRUMP SAYS GULF STATES WILL PAY FOR SYRIAN WAR
- Trump's challenge: Can he stop conflict in the South China Sea?
- Trump’s NATO Skepticism Raises Alarm for Allies Near Russia