«وجه الله»: الإيمان على يد ملحد
هل الله موجود؟
سؤالٌ حارٌ مُؤلِمٌ، وفي الوقت ذاته رتيبٌ جامدُ، تكرّر كثيرًا على مدار رواية «وجه الله» التي كتبها الروائي الإيراني مصطفى مستور، وترجمها غسان حمدان، وحرّرها عبد الرحمن أبو ذكري، وصدرت ترجمتها العربية عن دار تنوير للنشر والإعلام، وتتكوّن من 20 فصلاً، وتقع في 125 صفحة فقط.
رغم التكثيف الواضح في الرواية، الذي ربما يرجع إلى كون كاتبها بالأساس متمرّسًا على كتابة القصّة القصيرة، إلا أنّ هناك طريقتين لقراءة الرواية: طريقة فلسفية حجاجية رتيبة باردة، وطريقة نفسية حارّةٌ حائرةٌ فائرة.. وبحسب طريقتك التي تختارها يكون تجاوبك الشعوريّ مع الرواية. وأنا أفضّل لكَ الطريقة النفسية، برغم إغراء الفلسفة الكامنة في ثنايا الرواية. الفلسفة ستغلق في وجهك كثيرًا من أبوب المُتعة إن ركّزت في قراءتك للرواية على البحث عنها.
تدور الرواية حول «يونس»، طالب الدكتوراة في الاجتماع الذي تتناول أطروحته حادثة انتحار الدكتور «محسن بارسا»، أستاذ الفيزياء العبقري الشاب، ولم يتبقّ على ميعاد تقديمها النهائي سوى ثلاثة أشهُر، ولم يُنجَز فيها شيءٌ يُذكَر بعد. يذهب يونس لاستقبال زميل دراسته وصديق طفولته «مهرداد» القادم من كاليفورنيا لاستقدام أمّه لتعود معه إلى أمريكا، لأن زوجته الشابة الجميلة «جوليا» مصابة بالسرطان وعلى مشارف الموت. تتلاقى أفكار الصديقين حول تلك الأسئلة الوجودية المقلقة والمؤرقة حول وجود الله،«يونس» من واقع تساؤلاته الداخلية البحتة، و«مهرداد» من واقع أفكار زوجته الأمريكية ومعاناتها المرَضية و«عدم تدخّل الله لحمايتها من المرض والألم».
بعد ليلة أنهكته فيها الحُمّى، يذهب يونس لمقابلة زوجته التي عقد عليها ولم يدخل بها، «سايه» الهادئة المفعَمة باليقين الساذج في الله، التي تتناول أطروحتها للدكتوراة كلام الله مع موسى عليه السلام. شرَط والد سايه على يونس أن يحصل على الدكتوراة أولاً حتى يدخُل بزوجته سايه.
وبينما يقوم مهرداد بإجراءاته، ينطلق يونس في رحلة بحث مُضنية حول حادثة انتحار محسن بارسا، فينشر إعلانا في جريدة برجاء أن يمدّه أحدٌ بأية معلومات تفيده في بحثه الاجتماعي بالأساس، ويلتقي بطلبة الدكتور بارسا، كهم عدا اثنتين، وبقاضي التحقيق في الحادثة، وبوالدة محسن وبطبيبه النفسي. وأثناء كل ذلك يظهر الصديق الثالث «علي رضا» المؤمِن ذي الفلسفة الرائقة الخاصة تجاه الله والخلق والموت والمصير. وتتداخل أفكار وتساؤلات وإجابات الأصدقاء الثلاثة يونس ومهرداد وعلي رضا، خصوصًا بعد حادثة وفاة «منصور» صديق علي رضا متأثرًا بمضاعفات لإصابة قديمة أصيب بها أيام الحرب الإيرانية العراقية.
يبدأ عند سايه، القلق المتصاعد من تلك الأفكار والتغيّرات التي طرأت على يونس في الفترات الأخيرة، وتتجنّبه، وفي النهاية تصارحه بعد حوارٍ مكثّف وطويل، بأنّها أمام خيارين: إما أن تضحّي بالله من أجل حبّها ليونس، وإمّا أن تضحّي بحبّها له لأجل الله. وتختار الخيار الثاني، وتفارق يونس بكلّ ألم، في الوقت الذي يتوصّل فيه يونس من خلال لقاءاته بالطالبتين المتبقيتين من طلبة محسن بارسا، «شُهرة» و«مهتاب»، إلى أن حادثة انتحار بارسا لا علاقة لها بعِلم الاجتماع، وليس لها تفسير اجتماعي بالمرّة. فالأمر أبعد وأعمق وأخطر بكثير، توضّحه مذكّرات ورسائل بارسا. وتنتهي الرواية بنهاية مفتوحة، حيث يشارك يونس بعض الأطفال تطيير طائرات ورقية نحو السماء، نحو الله – كما تقول الرواية.
التكثيف الذي طغى على الرواية، لا يُعطيك تأويلاً مقصودًا أو مباشرًا، إلا أنّك تجدُ نفسَك خارجًا منها بحمولة تأويلية (وربّما رمزية) ثريّة ومتنوّعة، تُفرغها في المرّة القادمة التي تعود فيها إلى الرواية، وغالبًا ستفعل، لتصبح مثل زجاجة البيبسي الفارغة التي ملأها مهرداد بدخان سيجارته؛ مختلفةً مَهيبة.
أوّل مقدّمات هذه الحمولة، إطلاق المؤلّف اسم «يونس» على بطل روايته، استمدادًا من النبي يونس عليه السلام؛ فـ «يونس» بطل الرواية ابتلعه حوتُ الشكّ، وبات في ظُلمات الحيرة والألم، يبحث عن فرصة للخروج إلى نور اليقين.
وقصّة «يونس» في الرواية تناظر بشكل كبير قصّة كليم الله موسى عليه السلام، بحسب ما أوردتها الرواية على لسان «ساية». ففي القصّة: أن زوجة «موسى» كانت حُبلى، وكانت تسير معه في ظلام الوادي المقدّس قبل أن يأتيه نداء الله. كانت ساية متحيّرة وتبحث عن دلالة «اخلع نعليك».. ما الذي يرمز إليه خلع النعلين تحديدًا؟ ألقَت السؤال على يونس علّه يساعدها في العثور على إجابة.
بالمثل والنظير، زوجة يونس حُبلى باليقين، وفي فترة كبيرة من الأحداث تصحبه في ظلمات شكّه حول الله.. وواجهَته في حوار انفصالها عنه برؤيا رآها منذ زمن، وحكاها لها، أنه كان يسيرُ في وادٍ ما، وسمع صوت الله، ودار بينهما حوار.. وتأتي نهاية علاقتهما من خلال التأويل الذي اخترعه يونس من عنده لمسألة خلع النعلين؛ لقد قال لها: «القصد من خلع النعلين هو تحرّر موسى عليه السلام من حُبّه لزوجته بشكلٍ خاص، ومن حبّه للدنيا بشكلٍ عام».
هذه الحُمولة التأويلية تُدركها بشكلٍ أكثر بنيوية، في ذلك السِحر الخاص الذي يجعل للكلمات والجُمل والتعبيرات، بل والحجاجات الجدلية، معنىً في سياق الرواية فقط. وإذا انتزعتها من هذا السياق ونظرتَ فيها، فلن تُعجِبَك، بل ربّما لن تفهمها. من ذلك الحوار الرائق بين الطفلة جوان وأبيها مهرداد (ص74) الذي ستراه – خارج سياق الروية- سطحيًا ومَلوكًا، وحوار علي رضا مع مهرداد (ص101) الذي سيُفهَم حتمًا خارج سياق الرواية على أنه حوار تبشيري مدروس، ومثله الهوامش التوضيحية المذكورة.
أما عنوان الرواية «وجه الله»، فهو يمثّل معادلاً إشاريًا واضحًا لـ «فأينما تولّوا وجوهَكم». إذ تأتي الأسئلة التي حفلت بها الرواية في كل وِجهة، وكانت جميعها مُجابًا عنها ولكن الإجابة غير مذكورة في نصّ الرواية أو يسهل معرفتها إذا أرادت الشخصية ذلك، عدا السؤال الأبرز «هل الله موجود؟» الذي ترتبط إجابته بمزيجٍ من روح الرواية وعنوانها.
تُحيلُ الروايةُ الرّاحةَ النفسية والوجدانية على البراءة والفِطرية والشفافية، وأفضل مَن يحمل هذه المواصفات هم الأطفال، وجسّدت الرواية هذا في موضعين، الأول: هو المقتبَس في الفقرة السابقة، والثاني: في خاتمة الرواية. في الموضعين يتبرّع الأطفال بذِكر الله ووجوده وإيمانهم به بكل تلقائية فِطرية.
في المقابل، تجدُ الذين هُم في سِنّ الشباب، وهم أغلب شخصيات الرواية، تعتمل بداخلهم الأسئلة الوجودية، والألم والحيرة، فمِنهم مَن لا زال في حيرته وألمه (يونس ومهرداد)، ومِنهم مَن حسَم أمره بالإيمان واليقين مبكرًا، عن وعيٍ(علي رضا ومنصور)، أو عن سذاجة (سايه)، هذا أو ذاك، ومِنهم من حسَم أمره بالإلحاد مبكرًا (جوليا).
بينما العجَزة الذين وردّ ذكرهم في الرواية (أمّ يونس وأم محسن بارسا وقاضي التحقيق وعجوزا قسم الأمراض النفسية)، لا يعانون معاناة الشباب الوجودية والروحية؛ بل يبدو وكأنّهم لا يكترثون لمثل هذه الأمور.. هل حسَموا أمرهم بالفعل إزاء هذه الإشكالات المُقِضّة؟ أم أنّهم مثل الكثيرين لا يكترثون؟ لم توضّح الرواية هذا.
وحتى مع بطل الرواية، هو لَم يُبدِ استعدادًا للتراجع في لحظةٍ ما، على أمل أن يكون تراجعه فرصةً لرؤية الأمور بشكلٍ أفضل يوصِله لليقين. كان يونس بطل الرواية يلعب دورًا تحكّم فيه مؤلّف الرواية بقبضةٍ من حديد؛ كان يستفزّ الإيمان واليقين والنور في الشخصيات التي تعامَل معها؛ ولهذا أنتَ لا تحصُل – كقارئٍ- على نتيجةٍ مُشبِعة باستقرار اليقين والإيمان في قلب يونس في نهاية الأمر. أنت تحصل على جرعة استقرار الإيمان واليقين من الرواية ذاتها، لا من يونس بطلها، الذي يصرّ المؤلّف حتى السطر الأخير من الرواية على ألا يخرج عن دوره المرسوم، هو فقط وضعه على بداية طريق العودة إلى البراءة والفِطرية بمشاركة الأطفال اللعب بالطائرات الورقية، حتى عندما ورد ذِكرُ الله، كان ذلك على لسانِ طفل، وبعدها وَيكأن يونس كرّر نفس ما يقوله الطفل. لا أكثر.
أمرٌ لافتٌ في رواية فارسية، أن تجدها تسلك مسلَكًا أسلوبيًا نصّ على أصوله إمامٌ من أئمّة البلاغة العربية كالجرجاني، كالمذكور في الاقتباس السابق. فما أكثر ما كان مصطفى مستور يثبّت الشعور أو المعنى أو الفكرة المجرّدة في حوارٍ ما، بصورةٍ تاليةٍ يربطها بها، بل وربّما يطوّر الأسلوب ليُريك أمرًا ما في إطارٍ جديدٍ ومختلف، يغيّر صورتك الذهنية تلقائيًا ومباشرًة، وهي طريقة مثيرة جدًا لأصحاب الذوق الخاص.
ففي اللحظة التي يُريكَ فيها وضعية الشوكة في زاوية الصحن، يحدّثك في السطر التالي عن الفلك وفيزياء الكون (ص16)، لتصبح صورة الكون في ذهنك في وضوح صحن الطعام. وفي الموضع الذي تكتنف فيه يونس الأفكار الإلحادية وتفاجئه ساية بإجابة عكس هذا السياق حول رسالتها عن كلام الله مع موسى، يصف المؤلّف شَعرةً في حاجب ساية عكس اتجاه الشعر تلتقطها ساية بملقاطها (ص27).نفس المسلَك يتكرّر حينما تسأل ساية يونس عن تجلّي الله على الجبل المقدّس، يُتبعه مستور بوصف انطفاء أحد مصابيح البناية المقابلة لبناية يونس (ص29). أيضًا، بعدما أشار إلى ذكر حالة يونس، استدعى صورة خارجية متمثلة في انطفاء جميع نوافذ البناية لترسيخ صورة حالته النفسية (ص30). ويشبهه جدًا سؤال بائع السجائر له: «هل فقدت شيئًا يا سيّدي؟»، الذي نفهم الإجابة عنه بطول الصفحة المقابلة من خواطر يونس حول يقين وإيمان سايه (ص40، 41). يتجلّى هذا المسلك الأسلوبي أيضًا في حوار السائق في المطعم مع علي رضا عن مساعدته للمرأة وشعوره أن شخصًا ما على وشك الموت في مكان ما يحتاج للمساعدة، وبعدها مباشرة يجد صرصورًا في حفرة وينقذه! (ص95). وأوضحها: قراءته وهو في الحديقة لنصّ رسالة مهتاب إلى بارسا، وإتباعه لذلك بوصف انقطاع خيط طائرة أحد الأطفال وتقوقع الطفل في زاويةٍ وقد تملّكه حزنٌ شديد (ص122).
الكلام عن الحشرات في الرواية لا يمرّ مرور الكرام أو يُؤخذ على عواهنه، وإنما له رمزيته.. ولذا يعِزّ عليّ أن أنهِي المقال دون أن أتطرّق إلى بعض عناصِر الحمولة الرمزية التي شكّلت حضورًا متكرّرًا، نافَس حضور بعض شخصيات الرواية، دون تفسير رمزيتها. من هذه العناصر:
– الموت: فقد حضَر الموتُ منذ الفصل الأول وحتى الأخير، متربصًا بجوليا زوجة مهرداد، ومتربصًا بيونس في تلك الليلة التي داهمته فيها الحُمّى، وحاضرًا في النعي والعزاء في الصحيفة، وفي حادثة انتحار محسن باسا المستمرة معنا على مدار الرواية كموضوع لأطروحة يونس للدكتوراة، وفي موت منصور في سيارة يونس وهم في طريقهم لإسعافه.
– السطوع: في تجلّي الله لموسى على الجبل، ومناقشته من خلال أطروحة سايه للدكتوراة، وفي سطوع نور قوي في عينيه وهو في السيارة بلا وضوح لمصدره (ص62)، وفي سطوع ضوء الشمس في عينيه مبشارة، ليُنزل واقيةالسيارة، التي تلتصق بظهرها صورة سايه تحجب عنه الشمس (ص86)، وفي رسالة علي رضا ليونس مفسّرًا له سرّ انتحار محسن بارسا (ص122).
– الغرق: في حوار مهتاب الرمزي جدًا مع يونس عبر الهاتف – وهو لا يعرفها – عن سقوط حبيبها في ماء المسبح وغرقه (ص78)، وفي حديث علي رضا إلى يونس ومهرداد عن السقوط في مستنقع الخيارات الطالحة والغرق فيه بالكامل (ص98)، وفي وصف مهتاب لحالة محسن بارسا (كانت فرصُه تتناقص وهو يذرع طريه المظلم المسدود جيئة وذهابًا. يروح فيغوص، يجيء فيغوص أكثر…. فغاص إلى الأعماق). (ص113)، وفي رسالة محسن بارسا إلى مهتاب قبيل انتحاره أنه غارقٌ في صوتِها وصورتها (ص121).
– «الفوق»: متمثلاً في سقف شقّة يونس والشرخ الضارب فيه، وفي الكلام عن ارتقاء بارسا لـ «الفَوق»، وفي طيران الطائرة الورقية لأعلى.
وأخيرًا، الحشرات: وخاصةً الصراصير، ويمكنك أن تتبّع رمزيتها المُلفِتة حسب مواضعها في الصفحات (43، و60، و95).
ونصيحة أخيرة: لا تفتح الرواية قبل أن تقرأ جيدًا النبذة التي كتبها الناشر على ظهر غلافها. ستُدرِك قيمة هذه الخطوة بعد أن تنُهي الرواية وأنت تراقب مشاعرك وأفكارك.