فسحة أمل
الأمل سر عظيم من أسرار الحياة، ومعنى جميل يُضيء الدروب المظلمة، فتشرق ألوانه المبهجة نشاطًا وحيوية وسعادة. والأمل روح الحياة، وحياة الروح، ولا قيمة لحياة بدون أمل كما أنه لا قيمة لجسد بدون روح.
وهل يتوب العاصي ويرجع إلي ربه، ويعود الفار منه إليه، إلا بالأمل في عفوه والرجاء في عظيم غفرانه؟!، وهل يتناول المريض الدواء، ويطلب الشفاء، إلا بالأمل في العافية؟!، وهل ينهض العاثر، وينجح الراسب، ويتقدم المتأخر إلا بالأمل؟!. ولولا الأمل لما تحققت كل تلك الإنجازات البشرية العظيمة التي أخذت عقودًا من الزمن ومحاولات من النجاح والفشل، ولولا الأمل ما بنى بان، ولا غرس غارس غرسًا لا يطيب إلا بعد شهور وربما سنوات، ولولا الأمل ما ذاكر طالب دروسه ولا اجتهد عامل في مصنعه، ولولا الأمل لما صبر صديقي ثمانية عشر عامًا دون إنجاب، حتى رزقه الله بثلاثة أولاد.
ولولا الأمل في التغيير ما قامت الثورات ولا سقطت كراسي وعروش، ولولا الأمل لضاقت النفوس على رحابتها والدنيا على سعتها. يقول الشاعر العربي الطغراني:
وعاش النبي محمد صلي الله عليه وسلم بالأمل في قومه ثلاث عشرة سنة بمكة، رغم المصاعب والآلام التي مر بها، والمواجهات العنيفة التي واجهها، والحرب الضروس التي دارت بينه وبينهم. ويوم الطائف وقف سفهاؤها وصبيانها يرمونه بالحجارة، ولما خيره ملك الجبال بتدميرهم قال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده»؛ حتى أزهر الأمل رجالاً أمثال عمر وعمرو وخالد، قادوا الدنيا وفتحوا الفتوحات.
والفأل الحسن والبشارة وانتظار الفرج والابتسامة والضحك من علامات الأمل، مما جعل أحد علماء الجزائر الذين شهدوا الاحتلال الفرنسي يقسم بزوال ليل الاحتلال وأعطى ساعته إلى صديق له ليحسب كم بقي من عمر الاحتلال حتى رحل. وما زالا أحياء ويحتفظ صديقه بالساعة حتى اليوم.
ورغم دروب الأمة العربية والإسلامية الحالكة، ودمائها النازفة، وصرخات ثكلاها المفجعة، وخراب ديارها العامرة، وتشريد وحصار أبنائها، ينبغي أن نوقن بنهار مشرق، ومستقبل منير لهذه الأمة. يجب أن نؤمن بذلك، ونعيش على هذا الأمل.
وأملنا في شعوب أمتنا أكبر، فهي عبر تاريخها الحصن الحصين وحائط الصد المنيع ضد كيد الكائدين وإفشال مخططات الأعداء والمعتدين.
إن الأمة في حاجة ماسة إلى هذا الأمل لتحيا على نسماته العليلة، وتستظل بظلاله الوارفة، وتجني ثماره اليانعة. وقد مرت أمتنا بأكثر من ذلك من ظلمات قاسية أليمة، ونزلت بها مصائب شديدة الوطأة؛ حين اجتاحت ديارها همجية التتار والمغول، وجثمت على صدور أوطانها الحملات الصليبية لسنوات، وما صاحبهما من قتل الآلاف وتدمير ونهب وسرقة الحضارات، وتدنيس المقدسات بوحشية لا هوادة فيها.
يكفي الأمة أن تتكون فيها قلة واعية تكون ركيزة الأمل، والدليل والحادي، ومفتاح لكل أقفال الآلام والظلمات. تمتلئ نفوسهم بالثقة في شعوبهم ومستقبلهم؛ لأن الشعوب تمرض ولا تموت، وتحتاج لمن يهتم بها ويبث الأمل في نفوسها رغم الألم الذي يعتصر قلوبها، وينفخ فيها من روحه المتيقنة بالغد الأفضل، والقادم المزهر.
وأن تعطي هذه النفخة – نفخة الحياة- ما تستحق من جهد ورعاية، ويكونوا أمناء على هذه الشعوب لتقف خلفهم على أرض التغيير الصلبة، ويعلوا صوت نشيدهم:
وكلما كانت هذه (القلة الواعية) ثابتة على معاني الأمل في شعوبها، وحب الخير لها، كلما زاد إشراقها وفطنتها، وقوتها وصلابتها.
يستطيع الأمل أن يجمع القوة المبعثرة، وأن يُخرج العملاق المصفد من قمقمه ليستوي على قدميه، ويفتح كل قفل صعب مقفول.
وما لم تنجح هذه القلة في أن تكون مثلاً صادقًا لما تدعو إليه، وأملاً مرموقًا للحيارى في كل وطن، ثم في أن تقيم لنفسها حصنًا آمنًا تأوي إليه، وشاطئًا موطأ تنشر شراعها من عنده فإن هذه الآمال ستظل أماني لا تُجدي، وليس الإيمان بالتمني!.
لقد أصبح من الظلم البين أن نحكم على شعوبنا حكمًا سهلاً بالتفريط، أو أن نيأس منها يأسًا نقرنه حينًا باللعنة على معاني الضعف والعبث فيها، وحينًا آخر بالاستهتار لكل بارقة أمل تحملها انتفاضة مفاجئة أو حركة نامية!، لا، وأقول (لا)، ليس هناك أمة أو شعب عاش عمره جادًا من غير عبث، بل ليس منها من خلا طريقه من فترة تردّى فيها إلى درك لم ندركه.
ثم إنه ليس منها من أنهضه من كبوته فكرة فيلسوف، أو منطق حكم الكبير والصغير؛ إنما هي العاطفة المشبوبة تبعثها دائمًا قلة واعية، فتطلق بها المواهب المكبلة، وتحبب بها الواجب الثقيل، وتهون بها العقبة الصعبة، وتندفع بها في غير منطق أحيانًا!. إن الأمل الذي نعنيه ليس النزوة الطائرة التي تزينها الحماسة، ولكنه الشعور النابض الذي تبعثه العقيدة، وشتان بين هذا وذاك. ومهما كانت قوى أعداء الأمة قوية إلا أن الله أقوى، ومهما كان تفريطها فيما سلف إلا أن الله غفور. إننا بذلك نبعث أملاً جياشًا عميق الجذور، ونطلق موجة عاتية تخشاها القوى كل خشية. وليس من حقنا أن نقول: «لن يؤمن إلا من قد آمن». [مجلة المسلمون]
يقول حسن البنا: أرأيتم إلى قاطرة السكة الحديد حين يُراد تحويلها من قضيب إلى قضيب، أرأيتم عامل التحويل يحاول أن يرفعها من أحدهما إلى الآخر؟، لا، ولكنه يحرك لسان القضيب بعصا حديدية في يده، أو بآلة موصولة بلسان القضيب، كذلك الأمم لا تُحمل حملاً من طريق إلى طريق. إن عصا التحويل هو الإيمان، وإن لسان القضيب هو قلوب الناس، ولن تلبث حركة اللسان أن توجه القضيب، وأن تُحول الأمة من حال إلى حال. لذلك فشل الزعماء الذين حاولوا الإصلاح بمعالجة ظواهر الأمور، بينما نجح الأنبياء في تحويل حياة أممهم تحويلاً حقيقيًا حول النفوس والرؤوس، والوضع دائمًا لهذين تبع!، فحيّ على الأمل، قبل حيّ على الكفاح والعمل.