الخريطة السياسية الأوروبية بعد الأزمة المالية العالمية
إثر الأزمة المالية التي عصفت بأميركا في 2007م ــ 2008م “أزمة الرهن العقاريّ” والتي اجتاح أثرها الاقتصاد العالمي، دخلت منطقة اليورو في أزمة ركود اقتصاديّ. الأمر الذي دفع رؤساء هذه الدول وحكوماتها إلى عقد قمّة في باريس في أكتوبر 2008م لدراسة السبل المتاحة لوضع خطة عمل مشتركة مع البنك المركزي الأوروبي، تؤدّي إلى الاستقرار الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي. وبالفعل اتجه المسؤولون الأوروبيون آنذاك لوضع خطة لمواجهة الأزمة المالية، هدفت إلى دعم البنوك الأوروبية لمساعدتها على تجاوز الأزمة. ورغم كل الجهود الأوروبية لمواجهة هذه الأزمة إلا أنها تسربت لكل الدول الأوروبية وأثرت على مراكز القوى الاقتصادية الأوروبية وهو ما يبيَّن هشاشة منطقة اليورو، خاصة عندما برزت أزمة الديون السيادية مطلع 2009 في اليونان، وإسبانيا، والبرتغال، بعدما خفضت وكالات التصنيف الماليّة درجة السيولة في هذه الدول، فأدّى ذلك إلى رفع فائدة الاقتراض فيها. وكانت التداعيات الاقتصادية لجذور أزمة منطقة اليورو على النحو التالي:
أزمة الديون اليونانيّة وهي رباطة الجأش في الأزمة الاقتصادية التي اجتاحت منطقة اليورو، وكانت نتيجة الخوف الذي اعترى الدائنين من عدم استطاعة اليونان الإيفاء بالتزاماتها ودفع فوائد الدين. وما نتج عن ذلك من تضخم بالموازنة العامة مقداره 13% من الناتج القومي، إضافة إلى بعض العوامل الخاصة باليونان، منها استدانة كبيرة بلغت 120% من الناتج القومي. وزاد في عمق الأزمة نقص في الشفافيّة من قِبل الحكومة اليونانيّة في إظهار الدين، والعجز، والتضخّم، ولا سيّما في اقتطاع أموال من خارج الموازنة، وهو ما دفع بالمفوضيّة الأوروبيّة إلى طلب تفسيرات من اليونان حول هذه الأزمة، وهو ما أثار الرأي العام الأوروبي، وبدأ الحديث عن إمكانية الوقوف بجانب اليونان أم سيتم تركها إلى الصندوق الدولي؟الدفعات | التاريخ | منطقة اليورو | صندوق النقد | المجموع |
---|---|---|---|---|
الدفعة الأولى | مايو 2010 | 14.5 | 5.5 | 20.0 |
الدفعة الثانية | سبتمبر 2010 | 6.5 | 2.6 | 9.1 |
الدفعة الثالثة | ديسمبر 2010
ويناير 2011 |
6.5 | 2.5 | 9.0 |
الدفعة الرابعة | مارس 2011 | 10.9 | 4.1 | 15.0 |
الدفعة الخامسة | يوليو 2011 | 8.7 | 3.2 | 11.9 |
الدفعة السادسة | ديسمبر 2011 | 5.8 | 2.2 | 8.0 |
المجموع | ــــــ | 52.9 | 20.1 | 73.0 |
مآسي التقشف والديون الأوروبية
سياسة التقشف التي تتبعها أوروبا حالياً تواصل تأثيرها السلبي على معدل نمو اقتصاديات منطقة اليورو، التي لم تخرج بعد من أزمة الديون التي ضربتها قبل عدة سنوات. ومن المؤشرات الدالة على ذلك، أن نسبة الديون الى الناتج المحلي في اليونان قبل اشتعال أزمة اليورو عام 2011م، كانت 113%. والآن، بعد برنامج الإنقاذ الاقتصادي وكل الإعفاءات التي منحت لليونان، يبلغ حجم ديونها كنسبة من إجمالي حجم الاقتصاد، 174% وهذا بالتأكيد مؤشر خطير يدل على أن اليونان لم تخرج بعد من نفق الإفلاس المظلم. وفي إسبانيا كانت الديون قبل أزمة اليورو 40% من الناتج المحلي، والآن تبلغ 97% وفي إيطاليا، تفوق نسبة الديون إلى الناتج المحلي الـ100%، وكذلك حال الديون الفرنسية التي تتجه لتفوق نسبة الـ100% في العام المقبل، وهذه النسبة المرتفعة من الديون تعني أن كل إجراءات التقشف التي نفذتها دول منطقة اليورو خلال الأعوام الماضية، ومنذ العام 2012م، لم تفلح في خفض مستويات الديون، رغم أنها ضاعفت من المعاناة المعيشية لمواطني دول اليورو.كما أنها فشلت في خفض معدلات البطالة، حيث تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن بعض دول منطقة اليورو، وهي اليونان وإسبانيا والبرتغال وقبرص، تعاني من ارتفاع معدلات البطالة وتواجه احتمالات الاضطرابات والفوضى السياسية تحت وطأة الضغوط المعيشية وانحسار دولة الرفاه والمعاناة واليأس، فالبطالة في إسبانيا بلغت 24%، وفي البرتغال 13.4%، وفي ايطاليا 13.2%، واليونان 25.9%. ولكن يلاحظ أن البطالة وسط الشباب تحت الـ25 عاماً، في هذه الدول أعلى بكثير من هذه النسب، وتقدّر في المتوسط بنحو 23.2%، وحسب تقديرات المحلل الاقتصادي “لاري إيدلسون”، فإن هنالك نحو 28 مليون عاطل من العمل في دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 28 دولة. وتعد دول منطقة اليورو، البالغ عددها 18 دولة، الأسوأ من حيث معدل البطالة.
وقد عانت أوروبا من انخفاض معدلات التضخم فيما يسمى بهاجس التضخم عند الأوروبيين، وهو ما يعني أن الطلب على شراء السلع منخفض جداً وأن معدل النمو الاقتصادي يقترب من التوقف، فالمستهلك، في هذه الحالة، يؤجل مشترياته الحالية إلى المستقبل، ووفقًا لإحصائيات “يوروستات” فإن معدل التضخم في دول الاتحاد الأوروبي يقل عن 0.4% وهو ما يؤجج المشاكل الاقتصادية في دول الاتحاد الأوروبي عامًة ودول منطقة اليورو خاصًة.كما أشار إيمانويل مونتانيي مساعد مدير جمعية المؤسسات الاقتصادية الفرنسية “ميداف” للشؤون الدولية إلى المصاعب التي تواجه الشركات والمؤسسات التجارية جراء أزمة ديون منطقة اليورو والمتعلقة بصعوبة حصولها على التمويل جراء إجراءات التقشف التي تطبقها بعض الدول الاوروبية كحل لأزماتها المالية والتي انعكست على القطاع المصرفي وتقييد فرص الإقراض، وهو ما يشير إلى تراجع الاستثمارات المحلية.معضلة دولة الرفاه
يجب الأخذ في الاعتبار أن دول الاتحاد الأوروبي تتبنى جميعها نظام الرفاه الاجتماعي الذي يحتوي على نظام الضمان الاجتماعي، ووفقاً لنظام الضمان الاجتماعي، فإن المواطن العاطل من العمل يحصل على مرتب شهري وعلاج مجاني وكثير من الامتيازات الأخرى التي تمنع تدهور مستوى معيشته من الهبوط إلى مستوى الفقر. وبالتالي يلاحظ كلما ارتفع معدل البطالة في دول الاتحاد الأوروبي، ارتفع تلقائياً حجم الإنفاق الحكومي وقل تبعاً لذلك الدخل الحكومي المتحصّل من الضرائب. من هذا المنطلق، فإن ارتفاع معدل البطالة في أوروبا يعني تلقائياً زيادة عجز الميزانيات الأوروبية وارتفاع معدلات الدين. ويلاحظ أن هذه الدائرة الخطرة هي التي تهدد مستقبل أوروبا منذ الأزمة المالية العالمية حتى الأن، ولا تزال غير قادرة على الخروج من هذه الدائرة الخطرة التي يتوقع اقتصاديون أن تعيدها إلى الإفلاس مجدداً وربما الفوضى.التداعيات السياسية لجذور الأزمة
ساهمت هذه التحولات الاجتماعية والاقتصادية في إعطاء مصداقية لخطاب الحركات والأحزاب اليمينية المتطرفة، وأصبحت أوروبا بصدد تحول سياسي هو الخطير من نوع خاصة ومع تزايد الاحتجاجات في الداخل الأوروبي رفضًا لسياسات التقشف والإصلاح الاقتصادي وعدم فاعليتها، وانتقاد استمرار تحكم المؤسسات الأوروبية في مجريات الدول الأعضاء والاقتناع التام بفقد السيادة لقيادات الدولة على مجريات الأمور في الداخل وكذلك انتقاد النخبة السياسية القائمة وتأكيد فشلها في سنوات ما قبل الأزمة المالية وتأكيد إفلاسها عمومًا والتأكيد على فساد النخبة القائمة والحاجة لبديل فعال يتسم بالنزاهة ولم يكن أمام الرأي العام سوى اليمين المتطرف، وكانت أهم ملامح الصعود لليمين المتطرف بأوروبا:حققت الأحزاب والقوى اليمينية في السنوات القليلة الماضية تزايد واضح في شعبيتها، ما جعلها تحرز مكاسب انتخابية غير مسبوقة سواء على المستوى الوطني أو الأوروبي، ومن أبرز الأمثلة على التفوق الانتخابي لليمين الأوروبي ما حققه حزب الجبهة الوطنية في فرنسا في الانتخابات المحلية التي أجريت العام الماضي ليحكم سيطرته على 11 مجلس محلي، ويشغل مقعدين في مجلس الشورى الفرنسي، كما أحرز 25% من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي في مايو الماضي، متفوقًا على باقي الأحزاب الفرنسية. ورغم الهجوم الشديد الذي تعرض له من اليمين واليسار الفرنسي في أعقاب أحداث باريس، فقد نجح في تحقيق المركز الثاني في الانتخابات المحلية التي عقدت في شهر مارس 2015م، حيث حصل على حوالي 25% من الأصوات، مخيبًا توقعات استطلاعات الرأي بحصوله على 30% من الأصوات.ورغم محاولات تضيق الخناق على اليمين المتطرف إلا أن الفشل الاقتصادي للحكومات المتعاقبة يوجه الرأي العام لليمين المتطرف ففي أكتوبر2010م مثلت زعيمة اليمين المتطرف في فرنسا مارين لوبان أمام محكمة مدينة ليون بتهمة الكراهية العنصرية، لتشبيهها صلاة المسلمين في الشوارع بالاحتلال النازي إلا أن النيابة دعت إلى تبرأتها بدعوى حرية التعبير وقد نبه الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، الفرنسيين إلى عدم المخاطرة بدعم اليمين المتطرف، عندما بدأ حزب لوبان يستقطب المزيد من الأنصار، وقال في حديث للإذاعة الفرنسية: «لا تلجأوا إلى هذه الطريقة الانتخابية، لتبليغ رسائلكم، لمجرد أنكم غير راضين أو غاضبون، فهناك تبعات لهذا الفعل على الاستثمار، وعلى التجارة الخارجية، وعلى فرص العمل والنمو».وفي بريطانيا، حقق حزب الاستقلال المعارض لاستمرار بلاده في عضوية الاتحاد الأوروبي، انتصارات مشابهة بتفوقه محليًا في الانتخابات المحلية الأخيرة ودخوله مجلس العموم لأول مرة، وتقدمه في القائمة البريطانية بانتخابات البرلمان الأوروبي. حتى وصل الأمر إلى وصول نسبة المؤيدين للخروج من الاتحاد الأوروبي إلى 50% وهو مؤشر خطير على الوحدة الأوروبية.وقد حقق الحزب الديمقراطي في السويد بأجندته المعادية للهجرة، تفوقًا في الانتخابات التي أجريت في سبتمبر 2014 بإحرازه 13% من الأصوات، ما أعطاه وجودًا مؤثرًا في البرلمان وقدرة على عرقلة أعمال الحكومة، فيما يتعلق بتمرير الميزانية مثلًا.كما تقدم حزب الشعب في الدنمارك قائمة الأحزاب السياسية في انتخابات البرلمان الأوروبي مايو الماضي.