ملحمة «Dunkirk»: لقد رأينا كل شيء
شاشة سوداء، صور متتابعة من شوارع هيروشيما، مستشفياتها، متاحفها، صوت نسائي يكرر: «لقد رأيت كل شيء في هيروشيما»، نرى أجزاءً من الحديد الذي انصهر، الأحجار التي انهارت، والبشر المشوهين، صوت رجل ياباني يرد: «لا لم تري شيًئا، أي شيء في هيروشيما».
هكذا إذًا يخبرنا المخرج الفرنسي «آلان رينيه» من خلال مشهد البداية في تحفته السينمائية Hiroshima Mon Amour، إنتاج عام 1959، أن من رأى آثار الحرب، من سمع حكاياتها، من زار أطلالها في المتاحف، لن يكون أبدًا كمن عاشها؛ لأنه في الحقيقة لم يرَ شيئًا، أي شيء.
على الجانب الآخر من الحرب، وفي الاتجاه المقابل تمامًا لما انتهى في هيروشيما، تم حصار ما يقرب من نصف مليون جندي على شواطئ «دونكيرك»، الألمان من ورائهم والبحر من أمامهم.
حصار، عدو لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وبشر مذعورون، إنها التيمة المفضلة لمخرج نعرفه جميعًا، فعلها قبل ذلك كثيرًا، مواطنون ومجرمون محاصرون في سفينتين في انتظار الانفجار في The Dark Knight، مجموعة من الأطفال في حافلة محاصرة أثناء محاولتها للهروب من مدينة جوثام التي تنتظر انفجارًا نوويًا في The Dark Knight rises، والآن جنود محاصرون ومذعورون وسط جحيم واحدة من أعنف معارك الحرب العالمية الثانية في Dunkirk، إنه «كريستوفر نولان».
لم يكن من الغريب إذًا أن يختار نولان هذه الحكاية، ولكن المفاجأة كانت فيما شاهدناه –أو قل عشناه- في صالة السينما، لقد جعلنا نولان نرى كل شيء.
لا تخشَ من حرق الأحداث، فهذا فيلم لا يمكن حرق أحداثه، هي تجربة تُعاش. مراجعتنا هي مجرد تحليل لهذه المعايشة.
ينتقل بنا نولان بين ثلاثة تتابعات طويلة متقاطعة تحكي ثلاث حكايات متداخلة عن معركة هي البطل. يبدأ الفيلم بجمل قليلة تخبرنا أن الجنود البريطانيين والفرنسيين محاصرون على شاطئ دانكيرك، العدو وراءهم والبحر أمامهم، الموت يحاصرهم والأمل في الطريق. بعدها مباشرة ومن المشهد الأول يقذفنا نولان كعادته في تتابع سريع لجندي يهرب من نيران العدو، العدو الذي لا نراه، لنجد أنفسنا أخيرًا برفقة 400 ألف جندي على شاطئ القناة الإنجليزية، الموت اعتيادي والحياة هي الاستثناء.
في التتابع الأول نرافق جنودًا على اليابسة يقضون أسبوعًا من اليأس، يظهر من بينهم ثلاثة جنود بشكل خاص هم تومي «فيون وايتهيد» وجيبسون «أنوريه برنارد» وأليكس «هاري ستايلس»، لدينا إذًا وجهان جديدان للغاية ونجم بوب معروف، ولكن نولان لا يعطينا الفرصة للتمييز بين أي من هذه الوجوه. نتابع أيضًا تحركات القائد البحري المسئول عن إخلاء جنود دانكيرك والذي يقوم بدوره بتميز كبير «كينيث براناه».
في التتابع الثاني نصعد على ظهر قارب لعائلة مدنية في البحر تتوجه لإنقاذ جيش كامل في يوم واحد، يقود السفينة مستر دوسن الذي يقوم بدوره الممثل الحائز على الأوسكار «مارك لايرنس» برفقة ولده وصديقه، وجهان جديدان أيضًا هما «توم جلين كارني» و«باري كوجان». وليكن أول من ينقذوه جندي ناجٍ من الغرق «كيلان ميرفي» يعاني بشدة من اضطراب ما بعد الصدمة.
في التتابع الثالث نرافق ثلاثة طيارين يبقى اثنان منهم «جاك لودين» وبطل نولان المفضل «توم هاردي» الذي يمثل مرة أخرى ونصف وجهه مغطى بقناع في مهمة شبه مستحيلة لتأمين سماء دونكيرك لساعة واحدة أمام سلاح الجو الألماني المرعب.
نقضي ساعة وخمس وأربعين دقيقة وسط المعركة، ينقلنا نولان بين سردية بصرية وأخرى، تمر مشاهد كاملة دون كلمة واحدة، لا يتحدث الناس في الحرب، ليس هناك مجال بالطبع لتقسيم الحكاية لثلاثة فصول، فلا يمكن بأي حال أن تقدم الشخصيات خلفياتها وتاريخها وسط كل هذا الهلع، ولا مكان بالطبع لنقطة صراع أو تحول لأننا داخل صراع مستمر بالفعل، ولا نهاية يمكن توقعها والموت يحوم حول الجميع.
نحن مشغولون باللحظة التي نعيشها وفقط، نشاهد شبابًا مشغولين بمحاولة النجاة وفقط، في السماء طائرات تتفادى السقوط، نرى هنا واحدة من أفضل معارك الطائرات المصورة سينمائيًا، على الأرض جنود يتعرضون لقصف متواصل على الشاطئ، نشعر بأن الطلقات تمر بجوار رؤوسنا، وفي البحر سفن تشتعل ورجال يهربون من الغرق، نكتم أنفاسنا برفقتهم.
رمى نولان إذًا كل الكليشيهات الحربية المفتعلة في مياه القناة الإنجليزية وقرر أن يسرد حكاية شاطئ دانكيرك بالطريقة الأكثر واقعية، فعاب عليه عشاق الكليشيهات غياب الأحاديث المسرحية، ثم اتهموه عقب ذلك بعدم وجود قصة نتيجة غياب الشكل الكليشيهي للحكاية!.
تنتهي حكاية نولان الواقعية محكمة الصنع والسرد بالتقاء التتابعات، بتجمع الخيوطـ، وبتساؤلات متتالية عن ما يفعله البشر في لحظات الذعر، هل تنتصر الفردانية في لحظات البحث عن نجاة؟.
لتظهر لحظة محاولة إنقاذ المدنيين لجنودهم كلحظة وحيدة مشرقة وسط جحيم دونكيرك، ولا غريب أن هذه اللحظة قد حازت على اهتمام معظم المشاهدين والنقاد الغربيين، تلك اللحظة التى عُرفت تاريخيًا بروح دانكيرك Dunkirk Spirit.
يري كثيرون أن هذه اللحظة تجسد البطولة الحقيقية التي تستحق التمجيد، لحظة تدخل المدنيين لإنقاذ جنودهم، لحظة عدم تخلي الإنجليز عن أوروبا، لحظة رفض الإنجليز، شعبًا وليس حكومةً وجيشًا، أن يتركوا أوروبا لشر دموي وعنصري يكتسح الجميع. تكتسب تلك اللحظة قيمة مضافة كونها تأتي في زمن البريكست، وهو الاستفتاء الذي انتهى بقرار الإنجليز في التخلي عن كل ما عادوا من أجله في دانكيرك.
لا يمنحنا نولان مساحة للتفكير أو تفكيك تتابعاته، هي فقط مشاركة شعورية، أنت في وسط المعركة. يخبرني صديقي أنه شاهد الحرب في أكثر صورها صدقًا في رعب طفل صغير يُسمى إيفان في فيلم Ivan’s Childhood للمخرج السوفييتي الكبير «أندريه تاركوفيسكي»، فأجيبه أنه يمكنه أن يعتبر Dunkirk ببساطة فيلمًا عن مجموعة من الأطفال المذعورين وما تفعله الحرب بهم.
كين ستيردي، 97 عامًا، المحارب الذي خدم في البحرية الملكية وشارك في إنقاذ الجنود في دانكيرك حينما كان يبلغ 20 عامًا فقط، عاش كل هذه السنين بذاكرة عشرات الأآاف من الأرواح التي زُهقت في هذه المعركة، خرج من الفيلم باكيًا،عبر عن ما شاهد بجملة واحدة «لقد شعرت أنني هناك مرة أخرى!».
بين تتابعات لا تنقطع، ومعركة هي البطل، سرد بصري يغنينا عن آلاف الكلمات بمشاركة متميزة من مدير التصوير «هويتي فان هويتما»، وأداء تمثيلي متميز من الجميع -نصفهم لا أحفظ أسماءهم-، مونتاج متوازٍ من المونتير الكبير «لي سميث»، وموسيقى «هانز زيمر» التي تشعرنا بنوبات فزع، يقدم لنا نولان فيلمه الحربي الذي ربما قدم إجابة لمن تساءلوا كثيرًا عن قدرته على صنع محتوى فني إنساني، صادق وغير مُدّعٍ، يوازي حرفته التقنية.
هذا المحتوى ربما كان تائهًا في بعض أفلامه السابقة ولكنه كان حاضرًا وبقوة في هذا الفيلم، الذي يمكن ببساطة أن نضعه في قائمة الكلاسيكيات الحربية دون ذرة شك.