كيف يُردد الحاسوب أصداء القرن الثامن عشر
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
متى بدأ عصر المعلومات؟، قد يشير البعض إلى العام 1943م، حين استخدم المهندسون البريطانيون أول جهاز كمبيوتر قابل للبرمجة بغرض فك الشيفرات النازية خلال الحرب العالمية الثانية. كان الجهاز بالكاد تسعه الغرفة التي وضع فيها لذا سموه «Colossus» أي العملاق.
ربما يفضل البعض العام 1946م، حين كشف الجيش الأمريكي عن جهاز أكثر سرعة ومرونة قادر على إجراء العمليات الرياضية المعقدة، في جامعة بنسلفانيا.
هنا قد يعترض محبو تاريخ العلوم قائلين إن علينا العودة إلى أبعد من ذلك، إلى القرن التاسع عشر وشخصيات مثل شارلز باباج و آدا لوفلايس رائدي علوم الآلات الحسابية القابلة للبرمجة في إنجلترا الفكتورية.
الحقيقة كما يصفها دان فالك، الصحفي المتخصّص في تاريخ العلوم، وذلك في تقريره المنشور على موقع «slate»، هي أنه يجب علينا العودة أبعد من ذلك؛ إلى أعمال أحد الأعلام الذين كثيرًا ما عانت سيرتهم من التهميش، وهو جوتفريد فيلهلم لايبنتز، الفيلسوف والموسوعي الألماني الذي مات منذ ما يقارب الـ 300 عام مضت في الرابع عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني 1716م.
أين خط البداية تحديدًا؟
حسنًا، ربما لم تسمع عن الرجل من قبل، وربما قد مر بك في دراستك لتاريخ الفلسفة مثلاً، أو تاريخ الرياضيات، لكن فالك يبرهن في مقاله أنه الرجل الذي وضع التصورات الأولى للأنظمة والآلات التي ستفجر ثورة الديجيتال والمعلومات فيما بعد.
في سن الثامنة بدأ الطفل المعجزة القراءة في مكتبة أبيه الذي كان أستاذًا للفلسفة في جامعة ليبزيج، تعلم الطفل الكلاسيكيات بسهولة، تفاخر مرة أنه يحفظ القصيدة اللاتينية «انيد» عن ظهر قلب. في المدرسة برع الفتى في علم المنطق وناقش رسالته للماجستير في سن السابعة عشر، وحصل على أول درجة الدكتوراه بعد ذلك بثلاثة أعوام. عمل لايبنيتز كمؤرخ ومستشار قانوني ودبلوماسي ومكتبي، وكتب في البيولوجيا والطب وعلم الأساطير وعلم النفس واللغويات وبالطبع الفلسفة، قال عنه فريدريك العظيم ملك بروسيا «إنه كان أكاديمية كاملة وحده».
ينوّه فالك في تقريره بالمعركة العلمية التي اشتهر بها لايبنيتز ضد إسحاق نيوتن في قضية اختراع علم التفاضل والتكامل، يعتقد المؤرخون أن كلاً من الرجلين اكتشف هذا العلم مستقلاً بمعزل عن الآخر، وللمفارقة فنظام العلامات والترقيم المستخدم في هذا العلم حتى الآن هو نسخة لايبنتز الأكثر أناقة وإحكامًا، عوضًا عن نسخة نيوتن ثقيلة الظل على حد وصف التقرير.
ميلاد الحاسوب بين تمثيلات الأرقام
بالطبع لم يكن هناك «علوم حاسب» في عصر لايبنتز، لكنه باختراعه لنظام الترقيم الثنائي حيث يتم تمثيل الأرقام العشرية باستخدام (الصفر والواحد) أصبح الأب الروحي لكل علوم البرمجة، كما يصفه فالك.
اعتقد لايبنتز أن الآلات -وليس البشر- هي التي يجب أن تقوم بالعمليات الحسابية توفيرًا للوقت والمجهود، لذلك بذل الكثير من الوقت والجهد في تصميم نماذج أولية لآلات باستطاعتها الجمع والطرح والضرب والقسمة، قام بتعديل وتنقيح التصميم عبر السنين وأدخل عليه الكثير من التحسينات، حيث قام بتمثيل الأرقام بأجسام دائرية صغيرة تتدحرج عبر ممرات لتفتح أو تغلق البوابات التي تمثل النظام «الثنائي binary».
ينوه التقرير إلى أن زملاء لايبنتز من العلماء في لندن أعجبوا بالجهاز إعجابًا كبيرًا دفعهم لانتخابه لعضوية الجمعية الملكية للعلوم. قام لاحقًا باختراع جهاز آخر يقوم ببعض العمليات الجبرية وآخر يستطيع فك الأكواد والشيفرات.
يشير فالك في مقاله في هذا السياق إلى المخيلة الواسعة وبعد النظر اللذين تمتع بها لايبنتز حين تنبأ أن هذه الآلات سوف تستخدم في المحاسبة والإدارة والمساحة وعلوم الفلك وفي صناعة الجداول الحسابية وغير ذلك من الفوائد العديدة.
الأعمال السخيفة التي أبقت الإنسان مستيقظًا طوال الليل تحت رحمة الإضاءة الخافتة والمتراقصة التي تبعثها الشموع، هذه الأعمال أصبح بإمكانها أن تصبح آلية بالكامل، ولكن للأسف تكنولوجيا عصره لم تسعفه في التصنيع الدقيق للقطع الميكانيكية والبراغي التي احتاجتها آلته.
توضح إحدى الرسائل التاريخية التي تم الكشف عنها مؤخرًا أن مسألة كـ«إضفاء الواحد المتبقي» «carrying the one»، كانت مستعصية على التطبيق رغم الجهد والوقت والحسابات والنماذج الأولية التي بذلت خلال الخمسة والأربعين عامًا. في الحقيقة آلته الحاسبة لم تعمل بشكل كامل أبدًا.
أن تسبق عصرك بقرون
يصل التقرير بنا إلى نقطة مثيرة، حيث يذكر أنه بالنسبة للايبنتز، فالعمليات الحسابية لم تكن سوى مجرد بداية، لقد اعتقد حقًا أن جميع أنواع المشاكل يمكن تجزئتها وحلها بواسطة الآلات عبر استخدام نفس المنهجية التمثيلية المستخدمة في الرياضيات. لقد تخيل إمكانية تمثيل لغة الفكر البشري باستخدام نظام رموز دقيق يمكن الآلة من اتباعه، لقد قام بتصميم نماذج أولية لهذه الآلات التي سماها «الآلات المفكرة»؛ بهذا يكون هو أول من فكر في ما نسميه اليوم «الذكاء الاصطناعي artificial intelligence».
لقد آمن لايبنتز -على حد وصف فالك- بالإمكانيات المفتوحة التي تبشر بها هذه الأدوات إذا تم إكمالها وصقلها، ستكون بالتأكيد فتحًا أهم من اختراع العدسات المكبرة والميكروسكوب؛ «سنبدأ في اعتبار العقل والمنطق جزءًا من معادلة دقيقة يجب علينا وزنها بدقة». اعتقد أن هذه الآلات يمكنها هدم الأسوار اللغوية بين البشر، وستنشأ لغة كونية جديدة قادرة على تحقيق السلام والازدهار لجميع البشر. ربما يجدر بنا الإشارة هنا إلى أن لايبنتز كان متفائلاً وكان لديه بعض الطموحات فيما يخص مسألة إعادة دمج الكنيستين الكاثوليكية والبروتستانتية.
كان لايبنتز محقًا في تنبؤه بالمدى الذي سيصل إليه اعتمادنا على الأرقام في حياتنا، فحتى قبل قرن من الآن من كان يتخيل أن تتم معالجة الصور وتعديلها وتخزينها باستخدام ترتيبات خاصة للنظام الثنائي الصفر والواحد؟، أو حتى من كان يتوقع الانفجار الرهيب في حجم البيانات الذي اضطر الحكومات والشركات والأفراد لتوسع سياسات وتكنولوجيا التخزين الرقمي؛ للحفاظ على حجم البيانات التي يتم إنتاجها كل يوم.
يختم فالك تقريره بالإشارة إلى أن اسم لايبنتز أصبح علامة فارقة في تاريخ العلوم، على الرغم من أن أفكاره لم تزهر بشكل كامل في عصره، وكان على العلماء والفلاسفة أن يعيدوا اكتشافها لاحقًا في عصورهم مثل الرياضي والفيلسوف الإنجليزي جورج بول الذي طوَّر ونقح فكرة المنطق القائم على نظام الترقيم الثنائي. لكن على كل حال فطريقة التفكير التي ابتدعها لايبنتز واعتقاده أن الآلات يمكنها تجاوز البشر في القيام بالعمليات الحسابية هو ما مهد الطريق لعصر المعلومات الذي أزهر بعد وفاته بـ 250 عامًا.