الدولة المصرية وهوس السيطرة والشيزوفرينيا
هناك أمر أصيل في بنية الدولة المصرية يحول دون خلق حالة ديمقراطية، ممثلة في ومن خلال، مجال عام قوي، وهو الطابع الاستعماري في رؤية «السكان المحليين» كهمج أدنى من مستوى النقاش وغير مستحقين للديمقراطية. وهو أمر تشكل في خطاب السلطة بوضوح عبر محطات عديدة سواء أثناء حقبة الاستعمار نفسه وقبله أيضا وحتى بعد مرحلة الاستقلال الوطني.
يتمثل الطابع الاستعماري في أن المصريين في وضع لا يسمح لهم بالحرية في تقرير المصير لأنهم ذوات غير راشدة، وغير عقلانية، وغير مسئولة، وتحتاج للقمع لترشيد سلوكها، ومن ثم تبرير كل السلطويات والدفاع عنها من قبل المثقفين والأكاديميين قبل أبواق الدولة ومسئوليها. وظلت هذه الرؤية مهيمنة على الحكم ومتجلية في خطاب السلطة، سواء على لسان اللورد كرومر أو النخب الثقافية، فكثير من الأحزاب السياسية أدانت ثورة 1919، خوفا من الدهماء والغوغاء.
كانت أعظم تجليات هذا الشكل من حكم السكان «المحلين» تتمثل في عمليات التحديث القسري، التي اتسمت بقدر كبير من الدموية والعبودية للشعب المصري مثل: بدايات التجنيد الإجباري في عهد محمد علي، أو حفر وعمل ما يعرف في بعض محافظات الدلتا والصعيد بطراد النيل، والذي كان يتم عبر السخرة واستنزاف أجساد الفلاحين. فمن كان منهم يقضي نحبه كان يدفن في أرض العمل ذاتها. إلا أن هذه الفترات أيضا شهدت محاولات تحديث واسعة وتطوير للبنية التحتية للبلاد والبنية التحتية للحكم من مؤسسات وأجهزة الدولة.
وبدأت محاولات جادة في بناء شكل معين من منظومة للعدالة لها إجراءات واضحة للجميع ويمكن للأفراد التعامل داخلها. ففي عهد الخديوي سعيد، مثلما يشير «خالد فهمي»، تطورت الإجراءات الشرطية وتعقدت إجراءات المنظومة من الناحية البيروقراطية وبدأت تنتهج الشكل الحداثي في التفتيش والإجراءات. الأهم هو وجود محاولة جادة لبناء منظومة قوية ومنضبطة. ومع ذلك المشكلة المركزية في اعتقادي والتي ترسخت بعد الاستعمار هي التعامل مع السكان من منطلق عسكري وأمني؛ أي أن الغرض المركزي من الحكم ظل استقرار السلطة السياسة وإخضاع السكان ومحاصرتهم.
ومن هنا ظل هدف الدولة والحكم هو السيطرة على مصر من منطق الاحتلال؛ إخضاع الأقاليم المختلفة للسلطة المركز والسيطرة على الحركة في البلاد من أجساد وبضائع بشكل بوليسي. المشكلة المركزية في هذا الشكل والهدف من الحكم هو رؤية السكان كخطر محتمل، أو كعبء يجب السيطرة عليه أو الخلوص منه وإزاحته. فمثلًا على الرغم من تطور الطب داخل مصر في عهد الاستعمار؛ لم يهتم الإنجليز بشكل جاد باجتياح الكوليرا لمصر إلا بعدما بدأت في إصابة الإنجليز نفسهم أو أدواتهم في الحكم. الأمر لا يتعلق بأن الإنجليز لم يكونوا يحبون المصريين، أو بصراع حضاري وديني أو شيء من هذا القبيل.
الموضوع هو نفسه سواء كانوا إنجليزًا أو مصريين هو عدم رؤية السكان كقوة خلاقة ومنتجة. ومع ذلك وبسبب تشكل الطبقات الجديدة في أواخر عهد محمد علي وظهور الوطنية المصرية وتشكلها أثناء وبعد الثورة العرابية، أخذ المجال العام في التشكل في مصر، بفضل أمرين: ظهور الصراع بين هذه الطبقات والدولة والاستعمار وبعضها البعض، والصراع هنا هو صلب ما يعرف بالسياسة. ثانيا، وجود البنية التحتية للدخول في شكل من أشكال الديمقراطية ولو ضعيفة مثل انتشار الطباعة ودور النشر والمقاهي وتشكل المدينة الحديثة. إلا أن الأمر كان يجهد بسبب مركزية الإدارة والحكم الأمني وعدم إشراك السكان في عملية إنتاجية واسعة أو حتى تجارية تستحوذ على عدد ضخم منهم. وظل بقية السكان خاضعين للإدارة البوليسية.
ولا تخلو كتب الرحالة أو الكتب التي تؤرخ للتاريخ الاجتماعي والثقافي أو المدينة في مصر من إشارات واضحة لحجم الإذلال والانتهاك التي كان يتعرض له السكان من قبل الداخلية المصرية. وحتى شكل المدينة التي يتباهى بها البعض من حيث النظافة والجمال والتخطيط ظلت منقسمة على نفسها بشكل أقرب ما يكون لعالم فرانز فانون الثنائي: السكان المحلين وعالمهم الهش والرث في مقابل المستعمر وأعوانه من البرجوازية الداخلية الذي يتسم بالتحضر والنظافة. ساعد هذا الوضع على مزيد من ضرورة العمل الشرطي لضبط السكان المحلين والفصل بين السكان بشكل أقرب للطابع العسكري.
واستمر القلم السياسي في محاصرة السياسيين والتضيق عليهم. ولم يكن عبد الناصر هو صاحب الفضل الأكبر في بناء بنية تحتية قوية للقمع كما يشاع؛ فعبد الناصر ورث هذه البنية التحتية؛ فبحلول الخمسينيات وصل عدد المعتقلين إلى 25000 معتقل، وكانت سجون الهيك ستيب والطور وسجن الواحات الشهير تم تشييدهم بالفعل. والأخطر كان استقلال الحقل الأمني عن السياسي والقضائي في مصر. وبالتالي لم يكن هناك مساحة حقيقة وحرية تسمح ببناء ديمقراطية راسخة وقادرة على تمثيل السكان وحفظهم من انتهاكات الدول ورجال الحكم.
ما بعد الاستقلال
لم تخل خطب عبد الناصر من الإشارة إلى أن الشعب المصري في حاجة ملحة للدولة الوطنية لتحديثه والارتقاء به، لأنه على الرغم من عظمته، وأنه هو المعلم -الكلمة التي كانت تحلو لعبد الناصر تكرارها في المحافل المختلفة- هو أيضا كان سبب الاستعمار وبزوغ القوى الرجعية والإقطاعية حليفة الاستعمار والقصر، والتي نصبت كعدو للدولة في عهده (يونس، 2012). ومنذ هذا الوقت خلقت مشكلة كبيرة في اللغة وحركة مزدوجة ومتناقضة في الدال والمدلول. بمعنى أن الشعب من زاوية، هو مقدس، وتأتي العديد من المفردات اللغوية للتعبير ولوصفه بهذا مثل: الشعب العظيم، الشعب المعلم، الشعب القائد، وما إلى ذلك. وفي نفس الوقت، وفي نفس منظومة الخطاب تأتي لغة أخرى لتصف ضعف الشعب وجهله وفقره واحتياجه للزعيم الملهم، والجيش المغوار والدولة الحامية (يونس، 2012).
وهي حالة وحركة تخلق وضعا مليئا بالشيزوفرينيا عند المجتمع والسلطة. وهي حالة لو امتدت على استقامتها في ظل وجود حزب فاشي أو سلطة دولة قوية وفعالة لتحولت إلى فاشية خالصة ووطنية بدائية بتعبير «جورج أورويل»؛ حيث يكون هناك زعيم ملهم ودولة يجب الالتفاف حولها بحيث يصبح نقدها بمثابة خيانة محققة للوطن، أما الجمهور فلا يقع على مسئوليته نقاش ودراسة وتغيير ما هو عام في شأنه، وليس منوطا باتخاذ القرار أو التأثير فيه، ولكن منوط فقط بالاحتشاد خلف الدولة في صورة من الدعم غير المشروط والإذعان الكامل لها.
وحاولت الدولة بشكلها في عهد محمد علي أو حتى في العهد الناصري بطرح نفسها كسيد على التاريخ والمجتمع. فالدولة لم تكن تطرح نفسها كمحتكر لأدوات العنف كما يشير التعبير الفيبري، وإنما طرحت نفسها كسيد على القرار، فهي محتكرة القرار وأدوات الإنتاج، وهي المانح والمعطي، وبالتالي ففي البدء كانت الدولة وهي الهدف في التمليك الأخير.
وفي عهد عبد الناصر أصيبت الدولة بولع السيادة حتى النهاية. فالنخبة الحاكمة حاولت الوصول إلى ما يسميه كارل شميت بالوحدة السياسية والسيطرة على عناصرها ودوائرها الثلاث: الدولة والحركة والشعب ( شميت:1992). وهي الحالة التي إذا ما استقرت بالكامل تحت هيمنة الدولة وتمحور حولها خطاب شعبوي، وآليات ذات نزعة نميطية حادة، وأجهزة دولة قوية وفعالة وقادرة على التغلغل داخل المجتمع، صارت الدولة دولة فاشية بالمعنى الكامل للكلمة. وصار كل اختلاف أو انشقاق بمعنى التنوع، ومفارقة الدولة، وأيديولوجيتها، ومحاولة خلق جدل حول القرار خارج إطار الدولة خيانة وتهديد يستوجب القمع والتنكيل والتشهير.
وإذا كانت الطباعة والنشر والصحافة والمقاهي والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والقيادات الطبيعية في المناطق السكانية وهيكلة العمران والأكاديميا هي العناصر المكونة للمجال العام وفاعليته، فالدولة قامت بمحاصرة كل هذه العناصر وتأميمها في عصر عبد الناصر. إلا أن تطورا ملحوظا طرأ على هذا الأمر مع التحولات البنيوية في الاقتصاد المصري منذ عام 2000، وهو ظهور مجموعة من الصحف والمجلات وفتح آفاق جديدة عبر النشر الإلكتروني، وهو ما قام بتوسيع الهامش وإعطائه المزيد من الأدوات لخلق مجال عام وطرح مناقشات عامة على الجمهور بعيدا عن سيطرة الدولة المباشرة.
وكان هذا ناتجا عن ضعف الدولة اقتصاديا وسياسيا، وفقدان لدور الأيديولوجيا بشكل متماسك داخل أجهزتها الأيديولوجية مثل التعليم والثقافة والأزهر والصحف، وهو ما خلق فراغا سمح بمزيد من اختراق الهامش للمركز ومقارعة الأوليجاركية الحاكمة. وبالتالي فانفتاح المجال العام نسبيا لم يكن نتيجة لإرادة الدولة والفاعلين خارجها بقدر ما كان نتيجة لخلل بنيوي أصاب الدولة وضغوط خارجية للسماح بمزيد من الديمقراطية، وهو ما يولد شعورا دفينا لدى النخبة الحاكمة -المتحالفة مع النظم الغربية اقتصاديا وسياسيا وإستراتيجيا وأمنيا- بخيانة المجتمع المدني.
وتتهم الدولة مؤسسات حقوق الإنسان، ومؤسسات المجتمع المدني المنوطة بالحريات والحقوق بشكل عام بأنهم أدوات الغرب والصهيونية لتكدير الصفو العام والسلم الاجتماعي. ولا تتورع الدولة في أن تتساءل لماذا يقوم هذا المجتمع المدني بتفجير القضايا الاجتماعية في العلن، ويتهم بأنه يفضح عورات المجتمع المصري ولا يتستر عليه! والحقيقة أن هذا الأمر على الرغم من غرابته في أي دولة حديثة، إلا أنه متسق تماما مع رؤية الدولة المصرية المحافظة. فمن ناحية، سيتسبب النقاش في مساءلة السلطة، وكشف ما بها من عوار، والتصدي لنمط السلطة الذي تفرضه على المجتمع، ومن ناحية أخرى، فإن طرح المشكلات ومساءلة السلطة سيعني تدخل الجموع في التأثير على عمليات اتخاذ القرار، وهو الأمر الذى تعتبره الدولة مساحة سيادة لا يجوز المساس بها، وتحتكر الحق في الحديث عنه وتحديد مساراته، وأي زعزعة لهيمنتها على تلك المساحة السيادية من وجهة نظرها – هو مساس بهيبة الدولة وسيادتها، وإخلال بأمنها القومي.
لقد ورثنا دولة بوليسية بالمعنى للكلمة. أخذت المراحل المختلفة في تكريسها. وعلى الرغم من كل هذه التحولات الضخمة التي شهدتها مصر كمجتمعات وجهاز الدولة والتي غيرت شكل الحياة بالكلية، ظل حكم مصر كأقاليم وأجساد قائما على الحكم العسكري والبوليسي في فن إدارة السكان ومساحاتهم. بصيغة أخرى ظلت طبعية الحكم في مصر حكم احتلال يتسم بالشيزوفرنيا الوطنية التي تتأرجح بين تقديس المصرين واحتقارهم.