كيف يدير الرئيس السيسي الاقتصاد المصري؟
إيملي كرين لين
28 يناير 2016 | فورين بوليسي
بعد عام ونصف على توليه الرئاسة، يظل الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، متمتعًا بشعبية واسعة بفضل سياسته غير المتسامحة مع الإسلام السياسي، مشروعاته الوطنية للتنمية، المتسمة بالمبالغة، وقبضته القوية على المجال العام. ولكن الدعم الشعبي متقلب المزاج، وعلى خلاف سابقه في الاستبداد، حسني مبارك، لا يتمتع السيسي بحزب سياسي مهيمن ليحشد بالنيابة عنه. وفي الواقع، لا تقف أي مؤسسات سياسية رسمية وراءه؛ فصعوده المفاجئ للسلطة عبر ما يمثل بالأساس انقلابًا عسكريًا مدعومًا شعبيًا، لم يتح له تلك الفرصة أبدًا.
بينما ضم البرلمان المصري الجديد صفوة الرموز الداعمة للسيسي، الذين ترشح معظمهم مستقلين، لم يجتمع هؤلاء بعد ضمن تحالف دائم يمكن الاعتماد عليه، ولا حتى ضمن حزب واحد يضمن له دعمًا سياسيًا كحزب مبارك البائد، الحزب الوطني الديمقراطي. وبينما تزداد الأمور صعوبة، بالكاد يستطيع السيسي الاعتماد على هذا البرلمان لحمل الرأي العام على دعمه. لتبقى مؤسسة واحدة متمتعة بالقوة والإرث اللازم من الدعم الشعبي لحماية منصبه؛ إنها القوات المسلحة المصرية.
«على الصعيد السياسي، يحتاج السيسي إلى الجيش»، وفق أحمد عبد ربه، أستاذ السياسات المقارنة المساعد بجامعة القاهرة. ويتابع: «يفتقد السيسي دعم المؤسسات السياسية. ويعد الجيش مصدره الوحيد للشرعية السياسية، وهو الذي أصبح تنظيمًا سياسيًا قائمًا بذاته». وفي هذه المرحلة، يبدو أن الجيش المصري بالفعل قد وجد ضالته. حيث ضمن الجيش مكانته كأكبر مصدر دعم للسيسي. وفي مقابل ولائه، جعل مطالبه واضحة، وهي؛ الهيمنة على الاقتصاد المصري، والتحرر من القوانين التي تحكم المدنيين. وبالفعل، سارع السيسي إلى تحقيق مطلبي الجيش.
ضمن 263 مرسوم رئاسي أصدره السيسي منذ توليه الرئاسة، تعلق 32 مرسومًا منهم بشكل مباشر بالجيش وقطاع الأمن، وفق تقرير تقفي التشريعات الصادر عن معهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط. حيث أعلنت تلك المراسيم زيادة المعاشات العسكرية بنسبة 10 بالمئة، وتوسيع سلطات المحاكم العسكرية لتحاكم المدنيين، والسماح لوزارة الدفاع بتأسيس شركات أمنية ربحية. الأمر أشبه بتربح الجيش الأمريكي من شركة كـ«بلاك واتر».
إلا أنه تم تسليط القليل من الضوء على مراسيم السيسي الإدارية والاقتصادية الأكثر سرية،كإعلانه في نوفمبر بشأن «جهاز مشروعات أراضي القوات المسلحة». أنشئت تلك الشركة القابضة المملوكة للجيش عام 1981 لتختص ببيع العقارات التي لا تحتاجها المؤسسة العسكرية للقطاع الخاص. إلا أن مرسوم السيسي أباح لها سلطة إنشاء أعمالها التجارية الخاصة وتنمية أصولها بهدف التربح.
أصبحت الشركة القابضة الصغيرة، المؤسسة لتتخلص تدريجيًا من أصول الجيش، الآن قادرة على النمو، مع إعفائها من الضرائب أو أي إشراف مدني. كما تمثل شركةً واحدةً فقط ضمن شركات أخرى قابضة تابعة للجيش. هناك أيضًا الشركة الضخمة “القابضة للنقل البحري“، التي أنشئت في عهد مبارك ثم سُلمت إلى الجيش. تزاحم تلك الشركات الآن القطاع الخاص في اقتصاد بحاجة ماسة للنمو.
يصعب تقدير نطاق سيطرة الجيش المصري على الاقتصاد، فالشركات التابعة للجيش غير ملزمة بالكشف عن أرباحها، بينما تتنوع تقديرات الخبراء على نطاق واسع جدًا بين 5 و60 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي.
يصعب تقدير نطاق سيطرة الجيش المصري على الاقتصاد. فالشركات التابعة للجيش غير ملزمة بالكشف عن أرباحها، بينما تتنوع تقديرات الخبراء على نطاق واسع جدًا بين 5 و60 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي. إلا أن اتساع وتنوع نطاق الامبراطورية الاقتصادية للجيش لا يخفيان على أحد. حيث يصنع جهاز مشروعات الخدمة الوطنية كل شيءٍ ويبيعه، بدءًا بالأسمنت والوقود حتى المعكرونة والمياه المعبئة، بينما تصنع الهيئة العربية للتصنيع سيارات “جيب” الفارهة، الأجهزة اللوحية الذكية، والألواح الشمسية، وتوجه تلك الشركات جميع منتجاتها إلى الأسواق المدنية. كما تمتلك شركات الجيش القابضة مجموعة واسعة من الأصول؛ مساحات شاسعة من الأراضي المثمرة، خطوط نقل مدنية، منشآت تخزين وسفن شحن، ضمن أصول أخرى.
أثناء عهد مبارك، بدأت تلك الشركات استخدام أصولها، بدلًا من بيعها، لتستحوذ على العقود الحكومية والأجنبية في مجالات الشحن، الأعمال اللوجيستية، الهندسة والبناء، ومجالات أخرى. واستخدمت المجندين إجباريًا كعمالة غير مدفوعة الأجر، ما مكنها من تقديم منتجاتها بأسعارٍ أقل من أسعار السوق. ناسب ذلك الرئيس، حيث وجد أن منح تلك العقود لضباط الجيش كان طريقة مناسبة لضمان ولائهم.
ولكن مبارك لم يعتمد بشكل حصري على حسن نية هؤلاء الضباط ليضمن بقائه في الحكم؛ بل ضمن أيضًا رعاية الحزب الوطني الديمقراطي له. كما خلق نظامًا يفضل الجيش – ولكن فقط إلى الدرجة التي تضمن ولاء الجنرالات له أثناء الانتخابات. “كان مبارك ذكيًا للغاية فيما يتعلق بالجيش”، وفق عبد ربه، “لقد تمتع بمكانة خاصة جدًا، ولكنه لم يمثل لاعبًا سياسيًا مُحركًا. بل تمتع بإمبراطوريته الاقتصادية خلف الكواليس. وظل الحزب الوطني الديمقراطي اللاعب السياسي المهيمن”.
إلا أن كل ذلك تغير بتنحي مبارك منذ حوالي خمسة أعوام. حيث تدخل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وسط ابتهاج شعبي، للإشراف على الانتقال السياسي، ولأول مرة منذ عام 1952، تمتع الجيش بالسلطة الكاملة على قوانين وسياسات البلاد. ويظل الجيش حتى اليوم محتفظًا بتلك السلطة من خلال رئيس مدين له بكامل الفضل.
تحت حكم السيسي، توسع دور شركات الجيش على نحو سريع. فبدلًا من منحه العقود ببساطة، أصبح يتولى إدارة مشروعات كاملة. نظريًا، يهدف ذلك إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي، حيث يبشر بإجراءات أبسط أمام المستثمرين. ولكن ذلك ليس إلا محض شعارات، وفق شانا مارشال، المديرة المساعدة والمشرفة على الأبحاث بمعهد دراسات الشرق الأوسط التابع لجامعة جورج واشنطن.
«تقول الفكرة المبتذلة أنه حتى تجذب الاستثمار الأجنبي، عليك أن تقلص الإجراءات البيروقراطية وأن تمركزها بمكان واحد»، وفق مرشال، “يحب البنك الدولي استخدام تلك اللغة. لذلك تتملق مصر فكرة محاربة الانتفاخ البيروقراطي. ولكنها في تلك الحالة تقوم فقط بمركزة الفساد”.
ومع ذلك، لا تعتبر تلك المشروعات تافهة. فعلى سبيل المثال، خضع مشروع «قناة السويس الجديدة»، الذي تكلف 9 مليارات دولار، للإشراف الكامل للقوات المسلحة المصرية. ومع تولى أحد جنرالات البحرية رئاسة هيئة قناة السويس، ضمن الجيش منح عقود الحفر الأولى للشركات الهندسية التابعة له، ثم إلى الشركات المنتمية إلى حلفائه السياسيين. وتعلق مارشال: “تسمح تلك الجهود للجيش بالإبقاء على رقابته المشددة على المشروعات، وأن يمنح العقود للشركات الخليجية، وأن يدير ما يشبه برنامج العمل للمجندين”.
يسعى مشروع السيسي الجديد الضخم إلى استصلاح مليون ونصف فدان من الأراضي الصحراوية. بينما أثار الخبراء شكوكًا حول وجود عمالة كافية مستعدة لترك بيوت عائلاتها على جانبي النيل للعمل في الصحراء الجرداء، ناهيك عن إن كانت الأراضي الجديدة بها القدر الكافي من المياة الجوفية لريها. ولكن يبدو أن نظرة السيسي المستقبلية لا تبلغ ذلك المدى. بل يبقي عينيه على المدى القصير – تحديدًا، على منح مجموعة من العقود للجيش والخليج، وعلى جني الاستثمار الأجنبي.
يفضل السيسي المشروعات الضخمة؛ لأنها تبقي على مصلحة داعميه الرئيسيين، الجيش، والأثرياء.
لذلك يفضل المشروعات الضخمة؛ لأنها تبقي على مصلحة داعميه الرئيسيين، الجيش، والأثرياء. وبجمعهم ضمن طبقة سميكة من الوطنية، أصبح في إمكانه زيادة شعبيته مستقبلًا.
«سيواجه السيسي الاختبار الحقيقي لمهاراته السياسية عندما يجف نبع الأموال»، حسب مرشال. وهو تحديدًا ما يحدث بالفعل. فمع هبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوياتها منذ 10 سنوات، تجد السعودية نفسها مجبرة على إعادة تقييم إنفاقها المحلي، ما أدى بها لزيادة أسعار الوقود المحلي بنسبة 50 بالمئة منذ مطلع يناير.
منذ عام 2013، تلقت مصر مساعدات تزيد قيمتها عن 12 مليار دولار من السعودية، أغلبها في صورة استثمارات، مع وعود بتقديم مليارات أخرى. ولكن مع ازدياد انحسار أرباح النفط السعودي، يصبح مصير تلك الوعود أكثر غموضًا.
وتابعت مارشال: «لا خلاف الآن على تلك القصاصات»، «بل ستظهر التوترات مستقبلًا مع جفاف نبع الدعم الخليجي».
عندما يحين الوقت، سيضطر السيسي لوضع حقيقة أن مشروعاته الضخمة لم تفعل الكثير لحل المشكلات الاقتصادية للمواطن المصري العادي في الحسبان. ومثلما تذكرنا الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير، يظل المواطن المصري العادي قوة يتعين وضعها في الحسبان.
إيملي كرين لين كاتبة وصحفية حرة تغطي شؤون شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وتقيم بالقاهرة.