إنكار الموت: حينما يكشف علم النفس عن حقائق الحياة المرعبة
صدر كتاب «إنكار الموت» The Denial Of Death عام 1973، ليُحدِث انقلابًا مدويًا في أوساط علم النفس الحديث ويحصل بجدارة على جائزة بوليترز بعد وفاة مؤلفه «إرنست بيكر» بشهرين. ويعتبر الكثيرون أن قراءة الكتاب أشبه بالتحديق مباشرةً في الشمس، لما يحتويه من فلسفة قوية ومواجهة مرعبة لحقائق الحياة.
الكاتب «إرنست بيكر» هو عالم أنثروبولوجي أمريكي قضى حياته في دراسة العلاقة بين علم النفس والأنثروبولوجيا ونقد نظريات العلماء الكبار مثل: «سيجموند فرويد»، و«كارل يونج»، و«آلفرد آدلر»، و«نورمان براون»، والفيلسوف الدنماركي «سورين كيركيجارد».
ولذلك قرّر في نهاية حياته تلخيص فلسفة كل هؤلاء العمالقة وتأليف كتابه الأخير الذي بين أيدينا اليوم، كعملية انتحارية، اعتبرها إعادة هيكلة لـ «علم النفس»، لكي يخدم نظريته التي تقول إن: «الدافع الحقيقي خلف سلوك الإنسان هو الخوف من الموت».
آدم وشجرة المعرفة
يبدأ الكاتب باستعراض قصة خروج آدم من الجنة بعدما أكل من شجرة المعرفة، ويقول إن معرفة آدم احتوت على حقيقة الموت، حيث إن قمة معرفة الذات هي إدراك الإنسان لحتمية فنائه، ولحقيقة وقتية الحياة وحتمية زوال كل شيء.
وتلك الحقيقة تضع الإنسان أمام خيارين لا ثالث لهما: القلق والرهبة، أو الإنكار والكذب. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدرك أنه سيموت، وبسبب ذلك الإدراك -عكس بقية الكائنات- تطور الوعي والضمير داخل كل فرد لمراقبة أفعاله ومدى أهميتها حين توضع أمام الموت، ولذلك اضطر الإنسان على مدى الأجيال للتعلم واكتساب الحكمة حتى يتمكن من تجنب الموت والبقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة.
ومن هنا تبدأ أعمق مشكلة في التاريخ الإنساني بالنسبة لبيكر: لماذا أولد وأتعلم وأتألم وأنضج، ثم بعد كل هذا يكون مصيري الموت؟ إذن ما الغرض من كل هذا العناء؟
ولذلك السبب تنشأ عند الإنسان «أزمة التقهقر»، وهي الرغبة في الاستسلام للحياة وترك كل شيء كما هو بدون تغيير. وبالرغم من شيوع تلك التساؤلات فإن حالات التقهقر نادرة، فالناس ما زالت تكافح في حياتها وتعاني في الدراسة وتذهب للعمل وتتزوج وتنجب وكأن الموت خرافة لا يمكن أن يحدث لهم. والسبب في ذلك ليس تقبل الناس للموت أو اتفاقهم على فلسفة معينة، بل نتيجة لحيلة نفسية سمّاها الكاتب بالكبت.
الكبت وأزمة الطفولة
يقول الكاتب إن الطفل منذ ولادته، يبدأ تدريجيًا في اكتشاف ازدواجيته Dualism، فمنذ أيامه الأولى ينشأ عند الطفل انطباع أن الحياة حلوة ووردية وأن كل رغباته تُلبى دون مجهود أو ألم، يبكي فيجد أمه تحتضنه، يصرخ فيسرع أبوه للعب معه، يركل الدمية فتُرضِعه أمه دون مقاومة. وفي تلك الفترة يظن الطفل أن أبويه مَلَكان مُسخران لخدمته، وأنه إله، رغباته مجابة ولا حدود لقدراته. يظل ذلك الاعتقاد في ذهن الطفل حتى تبدأ مرحلة جديدة من مراحل نموه، سمّاها فرويد بالمرحلة الشرجية Anality، في تلك المرحلة يكتشف الطفل أنه يتبرز.
قد يبدو اكتشافًا ساذجًا وطبيعيًا، لكنه بالنسبة للطفل يُعد انهيارًا لجنة عدن التي كان يعيش فيها وتخدمه الملائكة، فتتصادم الحقيقتان في نظر الطفل، حقيقة أنه إله وحقيقة أنه يتبرز، كيف لإله أن يتبرز؟
ومن هنا تبدأ كراهية الطفل لجسده أو غرامه به، فجسده هو العائق الذي يمنعه من أن يكون إلهًا. في البداية يحاول مقاومة تلك الحقيقة، فيُبلِّل فراشه أو يحاول السيطرة على عمليات الإخراج كمحاولة منه لإعلان رفضه لحقيقة أنه ليس إلهًا، وذلك الرفض يتم ترجمته عن طريق احتقار الطفل للجسد، لأن جسده يجعله محدودًا، يُدنسه برغباته، يجعله تحت سيطرة احتياجاته، وذلك يدمر كل السلطة التي حلم بها الطفل من بداية مولده، لأنه أخيرًا يدرك أنه مثله مثل كل شيء في الوجود، سيفنى.
فالطفل يرى الأشياء حوله تختفي، يلاحظ الزرعَ يذبل ويجف، الأجواء تتغير وفصول السنة تتقلب، والديه يشيخان، وحيواناته الأليفة تموت، فبمجرد أن يكتشف أنه يملك جسدًا مثلهم، فذلك في حد ذاته اكتشاف للموت، لفنائه هو شخصيًا.
ولأن تلك الاكتشافات أكبر من أن يستوعبها عقل الطفل، بل أكبر من أن يستوعبها عقل الإنسان، فلا يجد الطفل أمامه حلًا سوى الكبت، الإنكار، إخفاء حقائق جسده وفنائه في أعماق نفسيته والتعامل معها كأنها غير موجودة، كأنها خرافات، ولا يكتفي بذلك فقط، بل يقوم باختراع كذبة جديدة تمكنه من التعايش وتشتت انتباهه عن حقيقة أن الساعة الرملية لا تتوقف وأن موته حتمي.
الموت كدافع غير واعٍ لسلوك الإنسان
لذلك تُرعِبنا سيرة الموت، يُفزِعنا حدوثه، كما تمنعنا الرهبة من الحديث عنه، لأن الموت يلمس تلك المنطقة العميقة التي نحاول تجاهلها بكل ما أوتينا من قوة، وذلك ما دفع فرويد في كتابه Three Essays on the Theory of Sexuality إلى التعامل مع كل مشاكل الإنسان النفسية على أساس أنها مشاكل جنسية عميقة نشأت من رفض الإنسان لجسده وكبته لرغباته الحقيقية. طوّر بيكر تلك النظرية ليقول إن كل ذلك عبارة عن محاولات مستترة لإنكار حقيقة الموت.
تتطور حالات الإنكار وتتسع لتشمل كل شيء، لأن الكبت لا يفلح بدون أكاذيب تشتت انتباه الفرد عن الحقائق التي ينكرها وتغذي بداخله التعالي عن جسده وحيوانيته، فيضطر الإنسان لاختراع أكاذيب أكثر وأكثر مثل كذبة المجتمع وإعطاء نفسه اسمًا ومهنة ووظيفة، وإشغال وقته بمسميات مادية وأنشطة مثل الزواج وتكوين عائلة والعيش على أمجاد وهمية. كل ذلك حتى لا يكون الفرد حيوانًا أمام نفسه، ويكون بدلًا من ذلك الدكتور فلان الفلاني زوج المهندسة الفلانية وأبًا وأخًا وابنًا يمتلك مؤهلات علمية وشهادات… إلخ.
قد تبدو تلك الكذبات عشوائية، لكنها في الأصل تخدم كل حقيقة يحاول الإنسان كبتها: فالمجتمع يعطي لوجود الإنسان معنى وقيمة، والاسم يُجرِّد الإنسان من حيوانيته، والوظيفة تُنسيه جسده وتعطيه أهدافًا غير إشباع احتياجاته الأولية، والزواج يجعله ينتمي لشيء خارج جسده، والأولاد يكتبون له الخلود حيث يعيش جزءٌ من الإنسان بعد وفاته مُتحديًا الموت.
علم النفس الجديد والأمراض النفسية
وطبقًا لذلك المبدأ، يصبح علم النفس ما هو إلا وسيلة لإدراك كذبات الفرد ومدى نجاحها أو فشلها في إدارة حياته والهرب من حقيقة فنائه. فأي نوع من أنواع الأمراض النفسية مثل القلق الدائم أو الخوف المرضي أو التروما، ما هي إلا نتيجة لفشل الكبت وكذبات الإنسان المتلاحقة، نتج عن ذلك الفشل إدراك زائد عن الحد لحقيقة الفناء وحتمية الموت.
فالمريض النفسي هو فرد عادي تعرّض لظروف وعوامل خارجية جعلته يُدرك فناءه ويرى حقيقته بوضوح، فشلت الكذبات في الحفاظ على الكبت فأصبح المريض بلا حول ولا قوة حينما أدرك ضعفه وهشاشته أمام معاناة الحياة، حينما أدرك أن كل شيء حوله خطر ويمكنه بسهولة أن يودي بحياته.
فالاكتئاب هو رفض للحقيقة ناتج عن فشل الكذبة التي اخترعها الإنسان للهرب من موته، حيث فشل المجتمع في أن يجعل المريض يشعر بالانتماء، وفشلت الوظيفة في إلهائه وتوفير معنى وهدف لحياته، كما فشل نموذج العائلة والعلاقات الاجتماعية في إمداده بالشعور بالأمان تجاه الحقيقة.
وعلى الجانب الآخر، فالاكتئاب يعكس مدى خوف الفرد من اكتشاف حقيقته، من معرفة ذاته، من إدراك نفسه الفانية وحتمية موته. ولذلك يلجأ المريض لاختراع كذبات جديدة وأعذار وهمية ومبررات لاكتئابه، ونتيجة لذلك يبدأ الفرد المكتئب في الشعور بأحاسيس متصاعدة من احتقار الذات والعار، ومن الممكن أن يصل إلى مرحلة إيذاء نفسه معنويًا وجسديًا، وما كل ذلك سوى حيل نفسية لكي يهرب من السبب الرئيسي لمرضه النفسي وفشل الكذبات في خدمته.
ماذا نفعل عندما تفشل كذباتنا في حمايتنا؟
يستشهد الكاتب بفيلسوفه المفضل «كيركيجارد»، ويقول إن الإنسان أمام حقيقة الموت ينقسم إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول
هو الإنسان المُغيَّب الذي يقبل بأكاذيب المجتمع، ويعيش في رتابة بين العمل والانشغال بهموم الحياة، يأكل ويشرب وينام ويذهب للكنيسة يوم الأحد أو للمسجد يوم الجمعة دون أن يراعي أي حقيقة في الحياة أو يهتم بما هو صواب وما هو خطأ. يستخدم الروتين كسلاح يُلهيه عن كل ما يمكن أن يُقلقه، في حين أن مشكلته الحقيقة تبدأ حين ينكسر الروتين وتعم حياته الفوضى.
حين يُطرد من عمله، حين يتم تشخصيه بمرض فتاك، حينها يتجرّد الفرد العادي من روتينه الذي اختبأ فيه لسنوات، ليقف لأول مرة أمام العالم الحقيقي عاريًا، مُدرِكًا لحقيقة ضعفه وهشاشة الأسس التي بنى عليها حياته، وحينها يصبح ذلك الفرد ضحية سهلة أمام كل أنواع الأمراض النفسية التي تنتج عن فشل الكذبة في حماية صاحبها من حقيقة الموت والفناء.
النوع الثاني
هو الإنسان المتمرد الإجرامي، الذي يميل للعنف كحل لمشكلة الوجود، يحاول الهرب من ضعفه بادعاء القوة والسعي خلف السلطة أينما كانت ومهما اختلفت الوسيلة، يرى أن العالم مثل الغابة، إمّا أن يكون الفرد بها فريسة وإمّا أن يكون مُفترِسًا، فيعيش الإنسان المتمرد وفق مبدأ: «إذا كنا لا نملك قوة الإله، فعلى الأقل يمكننا تدمير العالم مثل الآلهة».
وهذا النوع يكون مصيره أسوأ من النوع الأول، بل ونهايته أسرع، لأن السلطة التي يكتسبها لا تدوم، وسرعان ما يتلاشى سلطانه ويبقى وحده مدركًا لحدود جسده ومعوقات خلوده، يصطدم بحقيقة ضعفه وعجزه عن معاملة جسده بنفس المبدأ، وبذلك تزداد الفجوة بين الجسد والنفس فتتضاعف المعاناة، والتي لا تنتهي سوى بنهايتين: الانتحار أو الجنون.
النوع الثالث
هو الإنسان المؤمن، وهو فرد تقبل الحقيقة وتتبع القلق حتى أوصله إلى الإيمان، ألقى بضعفه وعجزه إلى خالقه وتقبّل حدود حريته، سلاحه ضد الحقيقة هو الإيمان، أي نوع من أنواع الإيمان. وقد رأى فرويد أن الإيمان بالإله هو أيضًا نوع من أنواع الكذبات الأساسية عند الإنسان، والتي دائمًا ما تنجح مؤقتًا بسبب حيلة نفسية شهيرة تسمى «الطرح» Transference.
و«الطرح» عمومًا هو انجذاب وتعلق شديد بفرد يحمل صورة نتمنى لو كنا مثلها (صورة تشابه الأنا العليا) Super Ego، نطرح عليه مخاوفنا وننقل له مسئولية حمايتنا، وبالتسليم له نُلبِّي رغبتنا في العودة للطفولة ونحن على ثقة بأبينا المُنقِذ الذي يعلم الخير لنا ويمكنه حمايتنا من كل شيء في الحياة، وذلك ما يجعلنا نتبعه معصوبي الأعين على اعتبار أنه سيتحمل مسئولية كل أفعالنا بدلًا منّا. ولا يقتصر الطرح في الحدوث بين شخصين متحابين، بل يشيع بين المريض النفسي ومُعالِجه، بل أحيانًا يمتد للعلاقة بين شعب وحاكمه مثلما حدث بين هتلر وأتباعه النازيين في ألمانيا.
يُعلِّل فرويد عداءه نحو الإيمان بأنه نتيجة انعدام شجاعة تحمّل المسئولية، فيشرع المؤمن في تسليم حياته لمن/ما يؤمن به، فلا فارق بالنسبة لفرويد بين الإيمان بإله وبين الإيمان بصنم أو بقوى الطبيعة، فهو تكرار لممارسة الطرح في حياة الفرد.
وقد استمر عداء علم النفس لنموذج الإيمان لأنه ليس علميًا، حتى جاء «كارل يونج» بنموذجه الخاص بالإيمان، ليرى أن الإيمان هو وعد غير مضمون تحقيقه، فلا يوجد يقين حقيقي ولا أدلة على نجاحه، كما أن الطرح غالبًا لا يكون كافيًا، لأن الإيمان الحقيقي يتطلب أن يتقبل الإنسان حقيقة موته ويتصالح مع حيوانيته، وكما قلنا فذلك التصالح أصعب بكثير مما يبدو، فيتطلب قدرًا كبيرًا من الشجاعة والصحة النفسية، ولذلك نرى فشل نموذج الإيمان مع معظم المتدينين الذين نراهم حولنا.
وبدلًا من الإيمان يقترح الكاتب نموذجين لمواجهة الموت، الأول هو «نموذج براون» الذي يقترح أن نقضي على المشكلة من جذورها، نقضي على الكبت نفسه، نعطي الفرصة لرغبات الجسد واحتياجاته، نلبيها بأي طريقة ممكنة ونشبعها، فإذا كانت حقيقة الإنسان حيوانية فليتعامل مع نفسه كالحيوان، وبالطبع لم ينتبه براون لسذاجة ما يقول، واستحالة الإشباع الكامل للرغبات، فطريق معاملة الإنسان كالحيوان يشبه الجحيم الذي صوّره دانتي بأنه: «حفرة بلا قاع».
النموذج الثاني هو «نموذج فيليب»، والذي يقترح أن تقبّل الكبت هو الحل، قبول الحدود البشرية للمرء هو السبيل الوحيد لضمان السلام والسكينة. لكن لا فيليب ولا بيكر حاولا أن يقترحا وسيلة محددة لقبول الحدود البشرية والكبت النفسي، بل تركا الباب على مصراعيه.
نموذج «كارل يونج»: الدين كجواب على كل الأسئلة
هنا توقف الكتاب، وهنا ظهرت الفجوة في فلسفة «إرنست بيكر»، فجوة لا تمتلئ من وجهة نظري سوى باتباع النموذج الذي اقترحه كارل يونج في كتابه Psychology And Religion.
حسب كلام بيكر نفسه، فكل اقتراحاته ونماذجه سوف تفشل، لأنه رغم احتمالية نجاحها في حل جانب واحد من مشكلة الإنسان الأساسية (امتلاكه لجسد وروح Dualism) فتعطي الكذبات للإنسان الإحساس بأنه أكثر من مجرد جسد، أكثر من مجرد حيوان يتبرز، لكنها في نفس الوقت تترك روحه جائعة.
لأن أصل الصراع الداخلي هو التنافس بين حالتين: كون الإنسان إلهًا لا حدود له، وفي نفس الوقت كونه حيوانًا مقيدًا بجسده. ولذلك يتصارع بين رغبتين: رغبة في أن يكون كائنًا مميزًا فائقًا مستقلاً، ورغبته في أن يستسلم لإشباع رغبات جسده واحتياجاته، أن يتخلى عن المسئولية ويعود طفلًا تُلبَى كل رغباته دون أي مجهود يذكر.
وهنا يطرح يونج نظريته أن الدين والإيمان ضروريان لكي يعيش الإنسان حياة صحية وسوية نفسيًا، فيقول إن الدين قفزة بها قدر كبير من المغامرة، وبذلك يتفق مع آدلر الذي وصف الإيمان بأنه حماقة ضرورية. وذلك لأن الدين يُلبي رغبة الإنسان في أن يكون فردًا تحتويه مجتمع أو طائفة، أن ينتمي لكيان أكبر منه. فيلبي الدين لمتبعيه الحاجة للتسليم واتباع رب يرزق عبيده ويحفظهم ويراعي شئونهم حتى لو انعدم المقابل.
وفي نفس الوقت يلبي الدين رغبة الفرد في أن يكون كائنًا فائقًا، في أن يتوسع ويتمدد من الناحية الروحانية ويسمو بنفسه ويقترب من خالقه درجات، ليكون من عباده المخلصين المميزين، وفي هذا فليتنافس المتنافسون.
وبذلك يُجرِّد الدينُ المرءَ من إدراكه المؤلم بأنه حيوان محدود بحدود جسده، بل من خلال الدين يشعر المرء بأنه كائن روحاني خلقه الله لغرض معين ووظيفة تمد حياته بالمعنى وتساعده على تجاوز حقيقة فنائه الموجعة، عن طريق وعد بالأبدية والخلود بعد الموت.
والدين بالنسبة ليونج يُمثِّل العقل الجمعي للبشر، يربط ماضيهم بحاضرهم ويربط الواقع بالميتافيزيقا، ليلبي احتياجات الفرد ذي البطن الممتلئة والروح الفارغة في العالم الحديث. فلو لم يكن هناك إله لاخترع الإنسان إلهه من السلطة أو الجنس أو المنطق ذاته.
ومن وجهة نظر يونج، لا تظهر حاجة الإنسان الشديدة للدين سوى في النصف الثاني من حياته، فالنصف الأول يقوم فيه الفرد بتغذية الأنا لديه والانشغال بتكوين وبناء حياة قائمة على الوظيفة والمنصب والعلاقات والمال، أمّا في النصف الثاني يضطر الإنسان إلى ابتلاع أناه حين تفشل كل تلك الأشياء في ملء الفراغ الإنساني وفجوة الروح، وحينها يكتشف الفرد أن حياته لا تستقيم بدون الدين الذي يُنظِّم نفسيته psych ويوازن بين احتياجات روحه.