يوم ماتت السحابة – قصة قصيرة
وجدت بيت جدتها غريباً، وكأنها تزوره للمرة الأولى، وقد غاصت حجراته الأربع الكبيرة بأجساد نسوية متلاحمة تصنع في اكتظاظها أصواتاً صاخبة ترتفع في الهواء، ثم سرعان ما تنخفض وتتلاشى، يخضن في حكايات كثيرة وتتحمس كل واحدة منهن لتحدث صاحبتها. بحثت في الوجوه وتقاسيم الملامح عن أي علامة من علامات الحزن، أو يطرأ لسمعها أي صوت أنين يشق هذه الثرثرة الصاخبة، لتُصدِّق ما يحدث حولها.
إنهن يتناولن حوارات كثيرة باهتمام ينطق على نظرة الأعين المحدقة والمدفوعة بشيء من التأهب والانطلاق، لكن ما الداعي لكل هذا الكلام وحدّة الألسن التي لا يسعها الصمت لدقائق، ووثب بصرها نحو أمها وهي تركن إلى جانب من جوانب الحجرة عن بعد، معتصرٌ وجهها بدم يُغيِّر ملامحها ويرتفع منها صوت بكاء كالنحيب، سرعان ما تتبعه دموع حارة تحاول بجهد التقاطها بمنديلها قبل أن تسقط على وجهها، فلا ينتبه لها أحد أو ينشغل نحوها شاغل، وكلما حان إلى سمعها عبارة من أحاديث القاعدين، ذاكرين اسم جدتها بالرحمة، يعقبه تأثر يُلمَح لوقع العبارة ثم يختفي حتى لا تكاد تدرك منه شيئاً.
إنها تجلس في البيت الذي لطالما أحبت الحضور فيه، إعجاباً بجماله واتساعه وفخامة هندسته المتقنة، التي تشمل منظره الخارجي وما به من تفاصيل بارعة يروق للعين تأملها، من هندسة بلاطه الأزرق المزخرف ولون جدرانه والثريا الزجاجية وحتى الأثاث الراقي بذوقه الرفيع في كل حجرة منه، وتفاصيل اللوحات المعلقة التي تحمل كل واحدة فناً بديعاً يعكس ذوقاً عالياً، على رغم ضيق حرية تصرفها فيه خوفاً من أي أحد هناك، فلا تشعر بالحرج الذي يكتنف شخصاً غريباً، وهي بين يدي جدتها تجاوب على أسئلتها وتقابلها بابتسام نابع من محبة عميقة، كيف يمكن أن يحدث هذا فجأة؟
كيف يختفي ذلك الوجه الناعم وتغادر تلك الرائحة الشذية التي تلتصق بكل جزء من المكان تاركةً أثرها، فتلتصق بالجدران والأركان دون أن تزول. مهما طال الأمد بها فلا بد أنها حاضرة هنا في مكان ما، تجول البيت بخطواتها المتمهلة التي لا يسمع لها صوت وكأنها لا تضع قدميها على الأرض، إنما تحلق مرتفعة في الهواء لخفتها كما تنتقل الفراشة من زهرة لأخرى.
لقد غادرت بسرعة تماماً كالسحابة البيضاء الرقيقة التي يهطل مطرها ثم تنسحب برفق من أفق السماء، لقد دققت فيها النظر في آخر مرة زارتهم فيها كأنها تحاول بإيحاء داخلي أن تحفظ وتشبع من ملامحها الناعمة ببشرتها البيضاء ونظرتها الوديعة وضفائرها الكثيفة التي تُحكِم ربطها وهي تديرها على رأسها بشكل يُضفي عليها جمالاً، كيف تختفي تلك النعومة الساحرة من هذا البيت الجميل الذي تُعد هي ركيزته الأساسية وأنفاسها التي تشبه نسائم الربيع التي تبث أنحاءه روح الحياة، فلا يقوم شيء دون وجودها.
إنها تُعنى به برعاية عينها الحريصة وخفة جسدها الرشيق الذي يهتم بكل جزء منه شغلاً وإتقاناً وحباً من يدها المباركة، لماذا يباغت الزمن ويسرق جمال الأشياء ويحيل الذكريات الحية إلى تماثيل جامدة، إن هذا المكان الذي تتجمع فيه هؤلاء النسوة يتبدّى لونه شاحباً حزيناً وكأنه ليس هو نفسه البيت الذي تحبه وترنو إليه بعين العجب والمحبة، وكأنه يعلم أنها جنازة جدتها.
إن أشياء كثيرة تحدث وتكتظ فوق قلبها فلا تدرك شيئاً مما يحدث، إن أمها تبكي وحيدة وتتلقى كلمات التعازي بلسان متمتم، وزوجة خالها تعدو في مكتمل حماستها، هي نفسها بطباعها القوية التي تتجلى في نظرة العينين الحادتين، تفتعل علامات للحزن فتبكي بصوت يخفت شيئاً فشيئاً دون أن تصحبه دمعة واحدة، أي جنون في أن يفرح قلب لموت أحد ولو كان لا يعني له شيئاً، وأحست بداخلها وجعاً شديداً يأبى أن يعترف بنفسه، فلم يظهر عليها شيء من دموع وقد اكتفى قلبها بأن يطوي على نفسه بلوعة صامتة لا يدركها أحد، مكتفياً ببكاء لا يُسمع له صوت.
ولكن الموت يمتلك قوة تُصدِّع القلب الأصم وتحيل منه حطاماً فيستجيب لجبروته بالخوف والألم، فلا يملك غير أن يكتفي بالحزن والبكاء. واكتسبت شجاعة من المفاجأة الصادمة التي أتت لتداهمها فلم تستطع أن تصدق ما يحدث وكأنه حلم تنتظر منه أن يخلص وتصحى منه، كما هو شأن الأحلام المزعجة التي ينتظر صاحبها ضوء النهار فيصحو.
فنهضت من مكانها وبحثت لها وسط الأجساد الآدمية عن موضع فارغ لتعبر خارجة من الحجرة، فتبحث عن جدتها بإحساس صادق من قلب لا يكذبها بيقين ما، فبحثت عنها في وجه كل امرأة تقابلها وأحست برائحتها التي تجول في كل مكان، فتتبعتها وحاولت أن تتحسّس صوتاً رقيقاً يخرج عباراته متمهلة كنغمات الموسيقى.
الأريكة الصفراء تتوسط الحجرة الكبيرة وينعكس عليها ضوء الشمس من الشرفة التي تصطف على حافتها أصص النباتات المغروسة التي تحبها. الخزانة الكبيرة مغلقة، تسبح في هالة من الوحدة فلا يد تعانقها لتفتح أبوابها، إنها نفسها التي كانت تقعد جدتها قبالتها وهي تخزن بها الحلويات التي تجيد في صنعها بيديها وتصنع لأجلها صنوفاً منوعة من الحلوى التي تحبها وتتذكر رائحتها.
ومضت تعبر على طول الردهة الطويلة حتى وصلت إلى الحوش الكبير، حيث الجنينة بسياجها المُطرز، منغلقة على نفسها بأشجارها الطويلة وخضرة النعناع الكثيف المخضر، تنتظر اليد التي تحنو على أوراقها وتسقي ترابها، فتبدو وكأن الدهشة قد غلبت على حيويتها فأربكت حسن خضرتها.
كانت تستأنس بالجلوس عندها وهي تضع سجاداً على الأرض، تتخذ جانباً من الظل وهي تحدق في جمال المنظر البهيج وتتشمم رائحة النعناع والورود المغروسة بها، إنها تنتظر طويلاً دون أمل، لا وجود لظلها في أي ركن من هذه النواحي، تركت وراءها رائحتها فقط وطيفاً من ذكريات كثيرة سيطاردها الزمن ليمحوها، وتنمو فوقها السنوات التي تتكفل باللحظات الجميلة فتزيلها من الذاكرة، التي ينسرب منها كل شيء مهما كانت بها من قوة كأنها لم تكن يوماً.
لكن القلب أقوى من الذاكرة والزمن والسنين، إنه وحده منْ يحفظ صور الطيبين الذين يختارهم. إن الطيبين لم يُخلقوا للنسيان، فهم يتركون الذكريات محفورة داخل القلب، وهي لا تستطيع نسيانها، لأنها تعيش بداخلها، وسوف تجدها كلما جذبها الحنين إليها بصوتها ولمستها وابتسامتها ووجهها الجميل الذي لا تنسى ملامحه مهما أتى عليها الزمن من سنين.
وعادت إلى مطرحها تكتفي بالتأمل وتضغط على عقلها، الذي يأبى تصديق حاضر لا شيء بقادر على تغييره، وشق سمعها صراخ أمها منتحبة وقد قلب الحزن سحنة وجهها، فلم تستطع مقاومة أن تستمر ببكاءٍ صامت، وانهمرت العينين الواسعتين بدمعات قليلة حارقة، وأحكم الخوف والحنين المفاجئ عليها بقبضة قوية لتحس غصة تعلق في حنجرتها.