رواية «قبل النكسة بيوم»: ديمقراطية الحكي وازدواجية المكان
«قبل النكسة بيوم»، لا يمكن أبداً إنكار صدامية العنوان لكثير من القراء، بخاصة لأولئك الممتنين للعهد الناصري –من أمثالي- العهد الذي تآمرت عليه أقلام كثيرة لحصره في نهايته التراجيدية (النكسة)، تلك الهزيمة التي حملت نهاية التجربة الناصرية بكل الشعارات والمبادئ التقدمية التي حملتها في وجه الاستعمار القديم والجديد، وفي وجه الرجعية الداخلية والإقليمية.
اختار الكاتب «إيمان يحيى» المواجهة منذ اللحظة الأولى باختياره مشهداً من رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ؛ مشهد اعتراف «منصور باهي» المثقف الماركسي الثوري، بقتل «سرحان البحيري» عضو الاتحاد الاشتراكي «الفاسد» الذي تلاعب بـ«زهرة» بطلة الرواية.
اختيار الكاتب لهذا المشهد تحديداً لم يكن عبثياً، بل كان بمثابة إعلان عن موقفه الأيديولوجي– كماركسي- المتعارض مع «التجربة الناصرية» وما حملته من تناقضات على مستوى الفعل والتنظير، وهو ما انتهى بها إلى توريث الحكم لنظام «ديكتاتوري» جديد بعيد كل البعد عن الشعارات والمبادئ التي قامت عليها شرعية «يوليو»؛ نستطيع أن نستدل على ذلك من «النقد السياسي» الذي ضمّنته الرواية في شكل وضع أجزاء من مقالات للكاتب الكبير «صلاح عيسى» ضمن طيات الرواية، وهي مقالات كتبها عيسى نقداً للعهد الناصري في فترة الستينيات، ونشرها في مجلة «الحرية» بلبنان.
في هذا الصدد نشير إلى أن «إيمان يحيى» قد اعتمد التوثيق كتقنية سردية في كتابة روايته، فتراه قد وضع «فاتورة مصاريف بالأسعار» لأسرة مصرية في الستينيات، أو ذكر تفاصيل حادثة أو موقف ما حدث بالفعل في تلك الفترة، وغيرها كثير من «الفواصل» الكاشفة عن المشهد الاجتماعي والسياسي لحقبة الستينيات. ويُحسب للكاتب مهارته الشديدة في توظيف تلك الفواصل داخل الرواية، إلى الحد الذي لا يمكن معه فصلها عن أحداث الرواية وتصاعد خطها الدرامي.
ديمقراطية الحكي
تنتمي الرواية إلى ما يُعرف برواية «الأصوات»، التي تعتمد على تعدد الرواة لسرد أحداث الرواية، وبالتالي تقديم أكثر من وجهة نظر لتلك الأحداث، خلافاً لرواية «الصوت الواحد» أو «الراوي العليم» التي تُقدِّم وجهة نظر واحدة تجاه أحداث وصراع الرواية.
فقد انحاز «يحيى» للديمقراطية موضوعاً وشكلاً لروايته، وهو ما نراه بالحوارات الداخلية لأبطال لرواية داخل المشهد الواحد، فمشاعر كريمة (بطلة الرواية) تجاه حمزة أثناء نهاية علاقتهما العاطفية، في آخر الرواية، مُغايرة تماماً للحالة الشعورية لحمزة أثناء تلك اللحظة، وقد انعكست رؤية كل منهما على الآخر بل وعلى رؤيتهما للعالم وتفاصيله وللرمز المتجسد في صورة عبد الناصر، الأب الروحي لثورة يوليو.
ازدواجية المكان
يقول الفيلسوف «محمود العالم»:
يلعب عنصر المكان دوراً محورياً في روايتنا، ويمكن رصد أكثر من مستوى للمكان أو للفضاء في الرواية؛ المستوى الأول للمكان في الرواية هو «المكان الإطار» أو «المكان المرجع»، إننا في الرواية نتحرك داخل مدينة القاهرة، وتحديداً داخل الأماكن التي شهدت أحداثاً تاريخية كبرى أو تلك التي لعبت دوراً في تاريخ الحركة الفكرية والسياسية المصرية كميدان التحرير ومنطقة وسط البلد، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، في دلالة واضحة على أهمية الدور الأمريكي في صياغة وتقرير الحياة السياسية المصرية خلال نصف القرن الماضي.
المستوى الثاني للمكان فهو جزء من المستوى الأول، وهي أماكن إقامة أبطال الرواية التي تُعبِّر عن حالتهم الاجتماعية والخلفية الطبقية لمواقفهم الفكرية، وكذلك أماكن: كمقرات الاتحاد الإشتراكي ومعسكرات التثقيف لمنظمة الشباب وأروقة الجامعة، بل وحتى شكل الشوارع والمحال التجارية والأزياء وأماكن التنزه إلى غيرها من الأماكن التي ترسم شكل الحياة السياسية والاجتماعية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وتعطينا صورة حية عن حياة المصريين وأوضاعهم الاقتصادية في تلك الفترة.
الزمان في الرواية
تدور أحداث الرواية في حقبتين زمنيتين، الأولى الحقبة الناصرية، والثانية في نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة قبيل وأثناء ثورة يناير 2011.
تنقسم الرواية إلى فصول بحسب صوت الراوي وكذلك بحسب الحقبة الزمنية التي يحكي عنها، فجاءت الرواية على شكل وثبات زمنية للأمام وللخلف، كذلك لم يكن الإطار الخارجي الزمني مجرد إطار مُفرغ، أي ليس مجرد توقيت لوقوع الأحداث بالرواية، بل جاء الزمن بالرواية كإطار زمني ذي دلالة وطنية واجتماعية، حيث أنه أشار إلى مرحلة التحولات السياسية الكبرى داخل البلاد، والانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، ومرحلة ضرب الرأسمالية الكبيرة ورفع شعارات التحرر الوطني والاشتراكية والقومية العربية، وكذلك الصدام مع الرجعية العربية، التي كانت حرب اليمن أكبر تعبيراً عنها في الستينيات.
كذلك تمت الإشارة إلى تخلف الواقع الاجتماعي في مرحلة المد الناصري عن الشعارات التقدمية الطموحة التي رفعها النظام الناصري ونخبته الثقافية، وهو ما ولّد تناقضات فكرية واجتماعية كبرى ظهرت في حوارات شخصيات الرواية عند حديثهم عن قضايا كتهجير النوبيين لبناء السد العالي، وكذلك معارضة قطاع شعبي كبير لحرب اليمن وما ألقته من أعباء على كاهل الاقتصاد المصري حينئذ، والحديث عن ظهور طبقة رأسمالية جديدة تشكّلت من كبار رجال الدولة وقيادات البيروقراطية بالقطاع العام، ومُلّاك شركات المقاولات وتجار الجملة وكبار القيادات العسكرية بالجيش.
كذلك تم تناول حقبة يناير 2011، وما حملته من قيم رفض الاستبداد السياسي والمطالبة بحرية الرأي والتعبير والسعي إلى حلم العدالة الاجتماعية الضائع منذ الحقبة الناصرية، وهو الحلم الذي لم يتبلور في شكل مشروع «ثوري» له ملامح محددة أو حتى توجهات عامة لدى منْ تصدّروا المشهد من شباب ثورة يناير، على عكس مرحلة المد الناصري الذي اتخذ من الاشتراكية طريق لإقامة العدل الاجتماعي وتذويب الفوارق بين الطبقات، وعبّر عنها صراحة في الميثاق الوطني بمطلع الستينيات ومرحلة التأميمات الكبرى.
كثير من المنولوجات والحوارات التي وردت في هذا الجزء على ألسنة أبطال الرواية، تستشعر بزمان اجتماعي قوامه الاستبداد ومقاومة الاستبداد، ومرحلة الأحلام الثورية وتكسرها على صخرة واقع من المؤامرات الداخلية والخارجية لقوى الثورة المضادة. حيث يبرز أكثر من ازدواج في بنية الزمن ودلالته في الرواية، فهناك الازدواج بين الزمان الأفقي للأحداث للأمام وللخلف، وكذلك ازدواج بين الزمان الأفقي والزمان العمودي للشخصيات وتاريخها.
اللغة في الرواية
بصفة عامة تتسم اللغة بالرواية بالسلاسة والوضوح، مبتعدة عن التكلف والفصاحة «المقعرة» دون الوقوع في فخ التسطح والركاكة. أمّا على مستوى البنية، فتتكون البنية اللغوية في الرواية من مستويين:
- المستوى الأول: لغة السرد التقريري المباشر، وذلك لسرد الأحداث وتتابعها ووصف الأماكن وحركة وانفعالات الشخصيات، وذلك لرسم صورة متكاملة للمشهد أو الحدث في ذهن القارئ الذي يجد نفسه متورطاً في الأحداث وكأنه عاصرها وعايش تفاصيلها.
- المستوى الثاني: لغة التأمل واسترجاع الماضي، وهي لغة يغلب عليها الطابع الانفعالي في وصف المشاعر والمواقف العاطفية، أو في شكل تأملات يغلب عليها الطابع العقلي حين تتصل بمواقف وأحداث سياسية أثرت على أبطال الرواية وغيرت من مصائرهم.
كلمة أخيرة
راوية «قبل النكسة بيوم» تعبر بكل صدق عن توجه كاتبها الفكري، وشهادته على العهد الناصري، حتى وإن لم تكن سيرة ذاتية له شخصياً، فربما كانت سيرة ذاتية لأشخاص تقاطعت مصائرهم مع مصير الكاتب؛ فالدكتور «إيمان يحيى» أحد أبرز قيادات الحركة الطلابية بجامعة المنصورة في سبعينيات القرن الماضي، وأحد أعضاء جماعة الصحافة في تلك الفترة، وشارك في إصدار جريدة جامعة المنصورة، وكذلك أنشطة نادي السينما وفعاليات النادي الوطني الديمقراطي الذي كان بمثابة الذراع الطلابية لليسار التقدمي داخل الجامعة. وكذلك شارك يحيى في تأسيس حزب التجمع، وكان أحد الفاعلين الأساسيين في انتفاضة الخبز في عام 1977 بالمنصورة، وتم اعتقاله على إثرها.
ولم يتوقف طريق النضال بكاتبنا عند ذلك الحد، بل سافر يحيى إلى لبنان في عام 1982 للمشاركة في القتال ضد الجيش الاسرائيلي الذي اجتاح لبنان في ذلك الوقت، وذلك قبل سفره إلى الاتحاد السوفييتي للحصول على درجة الدكتوراه في الطب، ليعود بعدها أستاذاً بالجامعة ويشارك في تأسيس حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، وصولاً للانضمام لحركة «كفاية» ومشاركته في فعاليات صالون النديم بنقابة الصحفيين وكذلك مشاركته في مظاهرات ثورة يناير 2011.
في هذا الإطار يخرج علينا «إيمان يحيى» بروايته، لتكون شهادة فكرية منه على الحقبة الناصرية، والشعارات التي رفعتها، والانحراف التي شهدته عند الممارسة العملية.
الرواية بصفة عامة تُعبِّر عن وجهة النظر الماركسية النقدية لثورة يوليو وما آلت إليه، فتحكي عن زمن «الأحلام الهائمة» لأبطال الرواية في السنوات الثلاث السابقة على نكسة 1967، وانكسارهم بانكسار المشروع الناصري ذاته. ومع هذا لا يمكن ظلم الرواية بحصرها في مجرد تعبير عن رؤية نقدية للعهد الناصري أو حتى الواقع الحالي بعد يناير 2011، فالرواية نجحت باقتدار في أن تصبح عملاً روائياً فنياً، له ذاتيته الخاصة المتميزة.