رواية «اليوم ما قبل السعادة»: الحرب والعالم بعيني طفل
ماذا يحدث لمن ينتظر؟ أتذكّر مقولة قرأتها في «ذاكرة التيه» لعزة رشاد: «في الانتظار لا نموت ولا نحيا»، ونحن في هذه الرواية منذ السطر الأول نعرف أننا مع بطل الرواية في «اليوم ما قبل السعادة»، هذا الرصد الدقيق لحالةٍ سابقة، والترقب والتحفز الشديد للوصول إلى الحالة التالية، هو ما تضعنا فيه رواية الروائي الإيطالي دي لوكا ببساطةٍ واقتدار.
هنا نحن مع مذكرات ذلك الطفل الذي يسرد فقرات من حياته السابقة، كيف تشكّل وعيه بالعالم، وكيف وجد مبتغاه عند رجلٍ أكبر منه سنًا اتخذه رفيق حياته حتى يوصله إلى شط الأمان، إنه «دون غايتانو» العجوز البسيط الذي يلقي على أذن بطل الرواية مجهول الاسم والنسب بحكاياته وخبرة حياته، وطرفًا من حكاية المدينة الإيطالية الجميلة «نابولي» في فترة عصيبة من تاريخها أثناء الحرب العالمية الثانية، وكيف استطاع البسطاء مواجهة جيوش الألمان حتى تمكنوا من التغلب عليهم واستعادوا مدينتهم.
طفلٌ ورجلٌ عجوز وحكاية حبٍ معلّقة ينسج من خلالهم دي لوكا نسيج روايته، ويدور بهم حول مدينته الأثيرة، مستعرضًا تاريخها من خلال حكايات بسيطة وعابرة، ليرسم لوحة بانورماية متكاملة لإيطاليا أثناء الحرب، وللبسطاء هناك وكيف واجهوا ويلات الحروب بشجاعة وبساطة في الوقت نفسه، بين هذا وذاك تبرز قصة الحب الغريبة لتلك الفتاة التي تلفت نظر الطفل منذ صغر سنه ويتعلق بها قلبه حينما يراها بعد مرور السنوات!
يصوّر دي لوكا الحياة في مدينته بدرجةٍ كبيرةٍ من الشاعرية، وبقدرة خاصة على التقاط عدد من التفاصيل الذكية في المواقف والعلاقات بين أبطال الرواية، أو حتى الشخصيات الهامشية العارضة التي تأتي في حكايات «غاتيانو» من هؤلاء اليهودي الذي تركه مخبأً عنده كي لا يقتله جنود النازي الألمان. كما كان ملحوظًا في الرواية قدرته على الانتقال بالزمن من خلال الحكايات من ماضٍ إلى الحاضر، إذ نجد أن الزمن ينساب في الرواية فلا يشعر القارئ بمروره لنجد أنفسنا أمام الطفل وقد غدا شابًا كبيرًا يواجه حبيبته رغم علمه أنه لن يحظى بها في النهاية.
بين حكايات الرواية الخاصة، وبين أبطالها يعرض لوكا ما يبدو أنه فلسفته ورؤيته الخاصة للعالم والحرب والثورة، وما تفعله في الشعوب من تغيرات وتكشف لهم من حقائق، وكيف أنها في النهاية تجعلهم أصلب عودًا مهما كانت تضحياتهم فيها كبيرة، كما أنها لا شك ستنهي في يوم من الأيام ما يجدونه من قهر وطغيان.
ومثلما بدأت الرواية ببحث أبطالها عن السعادة، وكيف أن طريقة بحثنا وانتظارنا لها ربما يكون فيه في حد ذاته السعادة كاملة، وكيف أن توقعاتنا لما ننتظره قد لا يكون صائبًا على الدوام، وإن كنّا لن نمل من هذا الانتظار على أملٍ أن نحصل بعده على السعادة. تأتي نهاية الرواية لتفتح للبطل الشاب فصلاً جديدًا في حياته، ومغامرة جديدة لا شك سيخوضها بحثًا عن السعادة هناك.
استطاع المترجم معاوية عبد المجيد أن ينقل عالم الرواية ومفرداتها ببراعة، وكان على وعيٍ شديد بالجو الشاعري الذي يصبغ النص في أصله الإيطالي، فنقله بطريقة شاعرية إلى اللغة العربية، بدا ذلك في أكثر من جملة وعبارة جاء بناؤها شاعريًا بشكلٍ جميل ومتسق تمامًا مع العربية، كما اجتهد في البحث عن أصول بعض الكلمات والمفردات الإيطالية التي تعكس بيئة المجتمع وخصوصيتها، مما جعل القارئ العربي على دراية بكل أبعاد الرواية وطبيعتها، كما أضاف فقرة خاصة يوضح فيها نفسية بطل الرواية وطريقة استعراضه لتاريخ إيطاليا وأضاء بعض الجوانب التاريخية الخاصة التي ربما يكون القارئ غير ملم بها.
إري دي لوكا، شاعر وروائي إيطالي معاصر عُرف برواياته القصيرة المكثفة وقدرته العالية على استعراض تاريخ إيطاليا من خلال رواياته بأقل قدرٍ ممكن من الكلمات، كما عرف بلغته الشاعرية، ترجمت له للعربية عدد من الروايات أشهرها «اليوم ما قبل السعادة»، و«جبل الرب»، و«ثلاثة جياد» الصادرة عن منشورات الجمل. عُرف لوكا بانتمائه للأحزاب اليسارية منذ فترة مبكرة من حياته واشتراكه في عدد من المظاهرات الشعبية ومناصراته لقضايا البسطاء والمشردين والفقراء في العالم كله، كما كتب في روايته الأخيرة «الطبيعة المكشوفة» عن مشكلة اللاجئين في البلاد الأوروبية.
الرواية ترجمها المترجم السوري «معاوية عبد المجيد» الحاصل على جائزة «جيراردو دا كريمونا» الدولية للترجمة في حوض المتوسط لهذا العام 2018، استطاع في فترة قصيرة أن يبزر اسمه كمترجم محترف للأدب الإيطالي بشكلٍ خاص، قدّم للمكتبة العربية روايات هامة نالت استحسان الكثير من القراء، من أشهرها ترجمته لرباعية نابولي «صديقتي المذهلة» لإيلينا فيرانتي، كما ترجم لأنطونيو تابوكي «تريستانو يحتضر» وغيرها من الروايات.