«ابنة الحظ»: الفرق بين الكتابة عن المرأة والكتابة لها
عندما نقرأ رواية تتحدث عن حب ضائع وطريق طويل وخذلانات عديدة من الرجال ورحلات طويلة في إثر المجهول، خاصة إذا كانت كاتبتها امرأة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن تلك المرأة تصنف كمناصرة للنسوية، فنحن نتوقع أن تستل تلك المرأة سيفها وتطير رقاب كل الرجال في الأرض، أن تلعن الحب وتقدس الحرية من أول صفحة في الرواية إلى آخر صفحة، نتوقع أن تسود الصفحات بشعارات غليظة عن لماذا يجب أن نقيم محرقة جماعية للرجال على الكوكب ونتخلص منهم دفعة واحدة.
في الحقيقة لم يحدث هذا، كانت «إيزابيل الليندي» ذكية ومتمكنة بالقدر الكافي الذي جعلها توازن بين مناصرتها للمرأة التي تدور حولها كتاباتها بشكل عام، وبين الحديث عن الحب في تلك الرواية بالتحديد، فجاءت روايتها «ابنة الحظ» رواية مختلفة، مختلفة عن الشكل السائد للرواية الرومانسية العاطفية، وعن شكل الكتابة النسائية، وعن شكل الكتابة الثورية التي تتضمن الحديث عن التاريخ والوطن والمشكلات الحقيقية للمجتمع، كانت «ابنة الحظ» خليطاً متقناً من كل شيء، ولهذا استحقت أن تنضم لتاريخ الليندي الحافل وتحتل مكانة رفيعة بين كتبها.
الحب وحده لا يكفي
صدرت رواية «ابنة الحظ» منذ تسعة عشر عامًا ولا زالت تترجم حتى الآن في طبعات جديدة، تعتبر الرواية ككل كتابات «الليندي» مندرجة تحت تصنيف الواقعية السحرية، رغم أن الكاتبة معروفة بمناصرتها للنسوية وقضايا المرأة، تصنف هذه الرواية كرواية رومانسية، فخطها الأساسي يقوم على تتبع حياة «إلزا سومرز» التي تخرج من «تشيلي» مختبئة في بطن سفينة لشهور طويلة حتى تصل «كاليفورنيا» من أجل البحث عن حبيبها «خواكين أنديتا» الذي ذهب ليبحث عن الذهب، تمتد أحداث الرواية لعشر سنوات بين عامي 1843 و1853 حيث العالم لم يكن يستوعب كيف يمكن أن يحدث ما حدث للبطلة.
في الرواية الكثير من قصص الحب المبتورة، الكثير من الخذلان، والكثير من النساء اللاتي كسرت قلوبهن على أيدي رجال، فبطلة الرواية «إلزا سومرز» لقيطة أصلاً، ربتها «روز سومرز» العزباء التي تعيش مع أخيها «جيريمي» في منزل أنيق، ثم بتتابع الأحداث نعرف لماذا تعزف «روز» عن الزواج، ونعرف قصتها مع مطرب الأوبرا الذي دخلت معه في علاقة قصيرة رسمت خط حياتها الباقية للنهاية، ثم هناك أيضًا أم حبيبها «خواكين» التي ربته بمفردها لأنها هي الأخرى امرأة مخذولة من رجل ما.
الجميل في الرواية أنها لم تستخدم كل تلك القصص المريرة لصنع شيء مأساوي، بل رغم كل تلك النساء اللاتي خسرن حيواتهن -تقريبًا- بسبب الحب، إلا أن الرواية تقدسه وتمجده وتصنع أشكالاً أخرى له، وتفتح طرقًا توصل البطلة للحرية دون أن تهمل الحب، الكاتبة لم تقلل من شأن الحب والرومانسية ولم تعطهم أكثر مما يستحقون، نعم الحب وحده لا يكفي ولكن أيضًا ليس من الحكمة أبدًا أن نستثنيه من الحياة تمامًا.
الخذلانات المتكررة في الرواية لم تجعل الكاتبة تنتقم لنسائها، على العكس تمامًا، فقد جعلت «روز سومرز» تحتفظ بذكرى حلوة المذاق لقصة غرامها التي أفقدتها مستقبلها، وجعلت «إلزا» تحصل على حياة حقيقية تمشي جنبًا إلى جنب مع الحب ولا يجبّ أي منهما الآخر، هذا هو الانتصار الحقيقي للنساء، ليس بكراهية الحب والحياة تتحقق الحرية، بل بالاغتراف من الدنيا ما استطعن إلى هذا من سبيل.
للحرية أشكال كثيرة
في الزمن الذي تدور فيه الرواية كانت الحرية صعبة المنال بحق، خاصة حرية النساء، أي نعم لم يتحسن الوضع كثيرًا في مناطق كثيرة من العالم منذ ما يقرب على المائتي عام التي تفصلنا الآن عن زمن أحداث الرواية، ولكن وقتها كانت الحرية تتطلب الكثير من المجهود، وقد منحت «الليندي» بطلاتها القوة والقدرة على القيام بهذا المجهود الشاق ليستحقوا حرياتهم بحق.
البطلة مثلاً استلزمها الأمر شهورًا في ظلام قبو سفينة والاقتراب من حافة الموت والحياة في ملابس صبي لسنوات حتى تحصل على حريتها أخيرًا، بينما استلزم الأمر أمها بالتبني الآنسة «روز سومرز» عمرًا كاملاً تعيشه وحيدة حتى تكون روحها حرة تبقي على ذكرى حبها الضائع كيف شاءت، واستلزم الأمر هروبًا ومطاردات من أهل «باولينا رودريجث» لها عقب تصريحها بالحب حتى تتمكن أخيرًا من نيل حريتها في زواجها من «فيليثيانو» الذي حاول أهلها منعها عنه.
أشكال مختلفة للحرية منحتها «الليندي» لبطلاتها عن طيب خاطر، لم تحجر على اختيارات البشر وتحصر الحرية في شكل واحد، بل أعطت لكل امرأة ما تريده، إحداهن كانت حريتها في أن تبقى حبيسة قصة حبها المنتهية، والأخرى حريتها كانت أن تستكمل قصة حبها وتنتصر لها، والثالثة كانت حريتها في اكتشاف العالم بنفسها بعيدًا عن الأفكار المعلبة، كان هذا انتصارًا آخر للمرأة، أن تتمكن من أن تعيش كل أشكال الحياة بالطريقة التي تحلو لها.
الذكاء النسوي الحقيقي
في رواية «ابنة الحظ» استخدمت «إيزابيل الليندي» كل ذكائها المعروف عنها في الكتابة، فهي متمكنة لا جدال، وهي من الأسماء المتوقع دائمًا ترشيحها لجائزة نوبل للأدب، ولكن في تلك الرواية تحديدًا اختلفت عن كل أعمالها، فهي تنتصر للمرأة حقًا حتى إذا لم تكن الرواية تصرح بذلك علانية، وإذا كانت تتبنى خطوطًا إبداعية متعددة بعيدًا عن خط الانتصار للنسوية.
«إيزابيل الليندي» التي بدأت الكتابة في سن الأربعين تعرف جيدًا ما تفعله، فهي بدأت الكتابة في سن النضج بعد أن تشبعت بخبرات الحياة وتشربت كل الثقافات التي مرت عليها كونها تنقلت في البلاد مع أبويها أو بعد أن كبرت ونفيت من وطنها لمعارضتها للنظام، خبرات إيزابيل الليندي الحياتية تؤهلها لكتابة مثل هذه الأيقونات فعلاً، فالمرأة التي تفقد ابنة في عمر الزهور وتطلق مرة وتنفى من وطنها تعرف كيف يمكنها أن تعيش الحياة وتكتبها، و«ابنة الحظ» خير مثال على هذا.