الموعد — قصة قصيرة
رائحة أثرية تتسرّب من أثر الزمن القديم، تفوح كلما فُتح الدكان وكأنه جُمع فيه أرواحًا سحرية من أزمان الماضي، وحُبس من كل عهد قطعة أثرية، حتى اتحدت كلها مجتمعةً في مكان واحد. الأنتريه المهترئ الذي بقي محافظًا على هيكله، والراديو صغير الحجم الذي كان على عهده أعجوبة كالمعجزة، وماكينة الخياطة القديمة والفونوغراف بصفرته الغامقة والسجاجيد البديعة بتطريزها وألوانها.
كان «عبد الكريم» يتخذ مقعده مباشرةً إلى كرسيه وسط هذه القطع الفنية التي يقف متطلعًا إليها كالمتأمل، مُستنشقًا من رائحتها التي لا تذوب مهما عبر عليها الزمن، فيجد نفسه داخلها، يحتسي من فنجان القهوة الساخن، فيما يسقط بصره -من تحت النظارة المُحطَّم زجاجها- على ما كُتب في الجريدة، بعينين حريصتين لا تفوّتان أي خبر مهم يمكن أن يعثر عليه، فيُركِّز بعناية، لا يهمه من الصفحات غير تلك الصفحة التي تحوي أخبارًا عن بيع الأغراض المستعملة والقديمة ليبيع أو يشتري، فيتطلع من خلال صنعته المُحببة إلى قلبه، إلى أن يحظى بما يطمع من المال الذي من شأنه أن يغير حياته، فيتطلع إلى الحياة الرفيعة التي تستهويه وتُغيِّر من حاله.
الدكان يجب أن يكون أكبر من هذا حجمًا، البيت الذي يسكنه قديم، هو نفسه يكاد يكون تحفة أثرية من القدم، والبدلة التي يرتديها قد رثت تمامًا. الأمل قائم ويتجدد مع كل طلعة شمس رغم ما يخوض من نزاع أقرب إلى الخصام مع جاره كل صباح، صاحب المقهى المقابل الذي يناشده أن يبيع له الدكان ليضمه إلى قهوته، يُقبل بابتسامة وعلى يده فنجان القهوة ويردد طلبه بغير إعياء ولا ملل، فيجلي العجوز النظارة على طرف أنفه الرقيق، وتتحد ملامحه في صنع النظرة الواثقة، ويقول بتحدي: «لا…».
ويبقى الصراع بينهما بالنظرات المتبادلة من بعيد، لكن يبقى كلاهما مستفيدًا من الآخر، يمده صاحب القهوة بفنجان القهوة الساخن، فيما يهبه الآخر جرنالًا قديمًا لا يحتاجه في شيء، ويستمر كلاهما في الحلم.
في الصباح فتح دكانه وهو يتأبط جورناله بنشوة الحماس المتجددة التي لا تنطفئ، وكأنها تشتعل من جديد كل مرة، وراح يُقلِّب الصفحات التي لا تعنيه في شيء مهما كان للخبر من أهمية، وعلى إحدى الصفحات انتبه فيما كُتب فأخذ يقرأ بتوأدة وتركيز:
مزاد علني لبيع أغلى الساعات التاريخية.
قرأ الخبر بطريقة مقتضبة أول الأمر، ثم رفع حاجبيه الكثيفين ليعيد التمعن في الخبر ويقرأه بصوت مسموع. جذبته الفكرة وألهبت خياله المتحفز، واعتراه النشاط الذي دبّ بسرعة كهربائية أنحاء جسده، ونهض من مكانه واقفًا، وجال ببصره أنحاء الدكان يبحث عن شيء ما وسط تلك التّحف ثم عاد إلى مكانه، وقال مُحدِّثًا نفسه إن أمرًا كهذا لا بد له من الكثير من البحث، فليس من السهل أن يعثر على ساعة أثرية نادرة تستحق الوجود في مزاد علني.
تملَّكته روح العمل والنشاط، وقد لعبت الفكرة في ذهنه، فراح يُخطط لها، ووضع الجورنال الذي كان بيديه فوق طاولة موضوعة هناك، وخرج من الدكان ليعود مساء وبين يديه لافتة خشبية وحفنة المسامير وعلبة من الطلاء.
كُتب على اللافتة بخط جميل:
لجمع الساعات القديمة وشرائها.
ودقّ على حوافها بالمسامير، وتطلّع إليها بنظرة راضية، وراح يُكرِّس حياته بدءًا من هذه اللحظة لاقتناء الساعات وشرائها مهما كان ثمنها غاليًا، فتداول جيران الحي الخبر، وجاء على إثره صاحبه ليقول له:
وبنظرة لا تخلو من معنى قال:
هذه السيدة «نادية»، تقبض بيدها على ساعة فضية بسلسلة طويلة، تفتحها بنظرة تطلعية ثم تُعيدها وهي تُحكِم عليها، لأنها أثمن ما تملك من أثر الماضي، وهي ساعة زوجها الذي مات في ميدان الحرب.
وهذا الرجل يحمل ساعة معصم عتيقة أهداها له أخوه، وقد اشتراها له من محل باريسي قديم.
وهذه أم سعيد قدِمت بساعة تاريخية الطراز غريبة الشكل، خبأتها منذ زمن بعيد، كأنفس ما تملك من إرث جدها الرجل العريق، وقد حان وقت بيعها والاستفادة منها.
استقبل «عبد الكريم» زبائنه بحرارة وبابتسامة مُشرقة، وراح يصفُّ الساعات الواحدة تلو الأخرى ويفسح لها حيزًا كبيرًا من مساحة الدكان الكبيرة. اكتظت الساعات فوق بعضها وامتزجت روائح عطورها صانعة عبقًا ساحرًا وهي تجول تستحضر الذكريات المدفونة بها وتُعيد حكايات قديمة من التاريخ الماضي بسحره وحلاوته وبهجته وحزنه، وراح يحيل بصره الكليل من ساعة لأخرى، ويرى العقارب المتحركة والأرقام الساكنة والقصص العالقة بها.
جاء الموعد المرتقب في الساعة واليوم الذي قيّده على ورقة، وتناول جريدة الصباح وفنجان القهوة، ومرّر من تحت النظارات بصره في عجالة حتى لا يفوِّت الأنباء المهمة، وكرّر رفضه الدائم في بيع الدكان لجاره، وقال ابنه بصوت ناصح:
ورد بخفة الخبير:
رتّب أغراضه وراح يختار الساعة الأكثر قدمًا، والأنفس قيمةً، والأكثر نُدرةً وأصالةً، وذهنه منشغل بالساعات المعدودة التي انتظرها طويلًا، واشتغل من أجلها بجهد غير مُدخَّر. لا شيء يفصل بينه وبين الحلم سوى أن يبيع ساعة نفيسة بمبلغ خيالي يحقق به الحلم الذي طال انتظاره، وقدّم له من الوقت والتفاني الشيء الكثير.
بقي القليل من الدقائق واللحظات، فهبّ مُسرعًا يجمع ما له من ضروريات هذه الخطوة التاريخية في حياته. ارتدى بدلة أنيقة على رغم رثاثتها، ووضع نظارته مُطلِّة على جانب الجيب، وعلى ظهره حقيبة جلدية، وانطلق للموعد في فرحة وأمل، حالمًا في كل خطوة يخطوها على الطريق، مُتمهلًا في ثقة كبيرة والسرور ينتشي بجسده النحيل. وصل أخيرًا، فوجد أناسًا يتوافدون من القاعة الكبيرة خارجًا وهم يتهامسون حتى سمع أحدهم يقول:
وجد المكان فارغًا، وأدرك أن الوقت ضاع قبل أن يصل في موعده، وبيعت أثمن ساعة، واندثر الحلم في الثراء إلى الأبد.