يُولِّد فيلم «فارس الظلام» The Dark Knight الصادر عام 2018، عددًا من الأسئلة الأخلاقية المثيرة للاهتمام، والتي تُحفِّز الإنسان على البحث عن المعاني الأخلاقية التي تقع خلف أفعالنا، ومن هذا الباب انطلق المخرج والكاتب «كريستوفر نولان» في رحلته السينمائية التي ناقشت موضوعات أخلاقية مثل: التعايش مع الشر، ومبدأ ميكيافيلي الشهير «الغاية تبرر الوسيلة»، وتجسده في الذات إن تعلق الأمر بالصلاح والنزاهة، وكل ذلك في إطار فيلم يندرج تحت فئة الكوميكس.

ولعل هذا أول عمل لنولان يتناول فيه مجموعةً من المسائل الأخلاقية بطريقة تغلُب على أي نمط آخر تبعته أفلامه في العادة، مثل هوسه الطاغي بالتلاعب في الخط الزمني للأحداث، وتسليط الضوء على رواية الأحداث بشكل بصري، عوضًا عن بنائها على نحو درامي.

هنا في «فارس الظلام» نجد نمطًا مختلفًا كليًّا عن نولان المعتاد، هنا لا نجد اهتمامًا كبيرًا بالصورة، ولا نجد أي نوع من التلاعب الزمني، بل أصبحت الأخلاق هي جوهر الجزء الثاني من ثلاثية باتمان، بجميع أحداثه وشخصياته ونقاط تحوله، والأهم من ذلك كله نهايته، التي أظهرت حجم الإبداع النصي الذي خلفه الأخوان كريستوفر وجوناثان نولان في حياكة المحاور الأخلاقية بأذكى طريقة ممكنة.

كيف تعايشت شخصيات الفيلم مع شر «غوثام»؟

إن أهم مسألة أخلاقية يتطرق لها الفيلم ويحاول أن يمهِّد لها عبر مشاهده الأولى هي التعايش مع الشر، ويصوِّر لنا الأخوان نولان مدينة غوثام باعتبار أن الشر فيها هو الأصل والخير هو العارض، وكيف أن هذا العالم الدستوبي استشرى في جسده الشر وصار مرتعًا لأي فعل منافٍ لفطرة البشر في حكم الطبيعة.

يظهر ذلك بوضوح في العبارة الشهيرة التي قالها «هارفي دينت»، والتي باتت جملة سينمائية متداولة: «إمَّا أن تموت بطلًا أو تعيش لترى نفسك قد تحولت شريرًا»، في دلالة واضحة على أن التعايش مع هذا العالم لا يمكن أن ينتج عنه سوى الشر، وأن الإنسان مهما بلغ من العفة والنزاهة، فلا يمكنه أن يكون سوى دمية من دمى الشر التي تلعب في هذا المشهد الكبير جدًّا، والذي يقوده مجنون يشعر أن غوثام، هذه المدينة الغنية بالشرور، تستحق مجرمًا أفضل، هو من لا تسري عليه أي ثوابت أو قوانين، هو الذي يُدعى بـ «الجوكر».

الصراع الأخلاقي الأول في الفيلم هو جانب الخير المتمثل في هارفي دينت، رمز النزاهة الأول في المدينة، في مواجهة الجريمة. وعلى الضفة الأخرى لدينا الجوكر الذي يمثل العبث والفوضى، والذي يتماشى مع الفطرة الدستوبية للمدينة، فيحاول مكافأتها بمجرم أفضل.

وانتصارًا لغاية الفيلم، تتمثل الأحداث في نصف الفيلم الثاني بمثل رغبة الجوكر، الذي نجح في إفساد هارفي دينت كليًّا، وبعدما انتهى من تحويله إلى نسخة متسقة مع طبيعة المدينة، يتحوَّل دينت إلى شخص تُحرِّكه بوصلة الانتقام، بينما مُفوِّض الشرطة الأول «غوردن»، حامي حمى المدينة، يعيش تحت مظلة اليأس، وتنتهي كل آماله في أن تخطو غوثام خطوة في مساحة الخير. وبانتصار الجوكر تبدد أحلام سكان غوثام في أن يعيشوا أخيرًا تحت سقف سلطة شرعية بالكامل عندما يرون أمام أعينهم كيف أن هارفي دينت، ممثل وجه السلطة ضد الإجرام، قد سقط في فخ النظام الذي كان يحاربه.

أين باتمان من هذا كله؟

باتمان لا يزال موجودًا ولكنه لن يستطيع أن ينقذ الوضع مثل المعتاد، فالمشهد يفرض عليه أن يسلك مسلكًا مغايرًا، فإن الموقف الذي يتعاطى معه باتمان وغوردن هو (انتصار الجوكر، وهزيمة هارفي دينت)، لذلك فإن الاحتمال هو واحد لا غير، وهو أن ينقذنا باتمان من جديد ولكن سيُوضع هذا الإنقاذ في قالب كذبة يخترعانها، باتمان وغوردن؛ وهي أن يكون باتمان هو الذي قتل دينت وهو الذي تلبَّسته شهوة دينت التدميرية، من أجل أن تظل صورة دينت السابقة خالدة في أذهان سكان المدينة، وحتى لا تتشوه صورة القانون والنظام المكافِح للجريمة.

باتمان هنا لا يعاون الشر، ولا يتطبَّع بأطباع الأشرار، ولكنها على حد قول ميكيافيلي «الغاية تبرر الوسيلة»، فهو يريد إنهاء آثار الجوكر، وبالتحديد تلك التي تُخاطب القناعات والأفكار، ولا علاقة لها بالمال والسلاح، ويعكس ما فعله باتمان تضحيته بمبادئه من أجل محو ذكرى الجوكر نهائيًّا من المدينة، وللمحافظة على الضمير الأخلاقي القويم لدى سكان غوثام، وهذا ما جعله يقول لغوردن قبل أن يرحل في النهاية:

أحيانًا الحقيقة ليست جيدة بما يكفي، وإيمان الناس يستحق أن يُكافأ.

لأي اتجاه ينتصر نولان؟

كانت هذه الشرارة أرضية خصبة لكتابة جزء ثالث وأخير في السلسلة، جزء يُحاكَم فيه غوردن وباتمان على هذه الكذبة، التي مهما بدت نبيلة ولكنها لن تكون كذلك، فهي «الكذبة التي وُلد منها الشر»، بحسب تعبير غوردن نفسه، وهو مشهد أخلاقي بامتياز برع نولان في رسمه، يُلخِّص الأزمة العميقة التي تسبَّب بها الجوكر في نهاية الجزء الثالث، مثلما ذكرت هي ليست أزمة متفجرات، ولا مسدسات، ولا أي عناصر حركية، بل هي أزمة قلب مفاهيم وتحوير الأفعال التي تنطوي على حسن وقبح إلى معانٍ متضادة تمامًا، نظير كل معنى أخلاقي نعرفه، هذه هي أزمة الجوكر في «فارس الظلام».

نولان بهذا التوجه، وبمحاكمة غوردن وباتمان في الجزء الثالث، ينتصر لأصحاب نظرية ميتافيزيقية الأخلاق، وهم الذين يؤمنون بإطلاق الأخلاق وتجاوز الأخلاق النسبية، نولان هنا ينتصر لفكرة القيم الأخلاقية المطلقة التي لا تخضع في أي حال للظروف الزمنية، أو المكتسبات البراغماتية، فالصدق حسن في جميع الأوقات ومُختَلف الظروف والأزمنة، والكذب شر في جميع الأوقات ومُختَلف الظروف والأزمنة، ولا يمكن لأي نوع من أنواع الكذب أن يُحقق غرضًا خيِّرًا، وحتى لو بدت أوجه الخير تظهر منه، فإنه وبتعبير غوردن سيولِّد الشر حتمًا في ثناياه.

أكثر من ثلاثية وأكثر من بطل

منذ أن فكَّر كريستوفر نولان في المشروع كان يأمل أن يخرج منه بثلاثية، تحتوي في كل جزء منها نسقًا معينًا يختلف عن الآخر، وهذا ما يبرِّر الهُوية والتفرُّد في كل جزء من السلسلة؛ فالأول يمثل «الرعب» المتمثل في جسد وعقل «بروس واين»، إثر سقوطه في البئر وملاقاة مجموعة من الخفافيش (مصدر خوفه الرئيسي)، ثم اختياره لمسار الرجل الوطواط الذي جعله في واقع محتوم ونمط حياة قسري لا بد أن يلتزم به.

بعد ذلك فاجأنا نولان بجزء ثانٍ لاقى استحسانًا نقديًّا واسعًا، كانت ثيمته الصارخة هي «الفوضى»، ليس فقط في بنائه القصصي وطبيعة أحداثه، بل حتى موسيقى «هانز زيمر» التي تعطي أي مستمع ذلك الشعور بالانزعاج اللذيذ عندما تسمعها، وهي المستندة كعادتها على تقنية الشيبارد التصاعدية The Shepard Tone. ثم بعد أربعة أعوام من الجزء الثاني كُشف الستار عن الفصل الأخير في هذه الملحمة، بثيمة «النهوض»، أي نهوض «بروس واين» أخيرًا، وتخلصه من شبح الوطواط إلى الأبد.

والمُتتبِّع لهذه الرحلة الطويلة، بدءًا من «رعب» بروس واين، ومرورًا بـ «فوضى» الجزء الثاني، ووصولًا إلى «نهوض» بروس من جديد وتخلصه من شبح نفسه، سيُدرك حتمًا أن حلقة الارتكاز الرئيسية في هذه الملحمة تتمثل في الجزء الثاني، وهو ما يعطي هذا الفيلم مكانة خاصة في موازين صناعة السينما الحديثة. فهذا الجزء على الرغم من أن موضوعه شخصية مجلات مُصوَّرة خيالية، ولكن مرتكزه الأول يقوم على مفارقة التعايش مع الشرور الأخلاقية، والذي أصبح لاحقًا دافعًا لبروس حتى يخرج من سجن الجحيم الذي أودعه إياه «باين».

ثلاثية باتمان كافأت هذه الشخصية بما تستحق، بعيدًا عن كون هذا البطل المُقنَّع مجرد وسيلة لتخليص المدينة من الإجرام. باتمان شخصية مثقلة بركام نفسي كبير ومرهق، وكل شخصية شر من شخصياتها تملك بناءها الدرامي المزدحم بالتفاصيل الثرية، ولهذا فإن عالم DC لا يستحق عملًا سينمائيًّا يعكسه إلا إذا كان كثلاثية كريستوفر نولان.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.