أزمة مارس 54: القشة التي قصمت ظهر الديمقراطية في مصر
تبلورت سلطة مجلس الثورة بداية من فبراير/شباط 1953، إلا أن الساحة السياسية كان يشوبها سخط العديد من الطبقات الاجتماعية الرافضة للديكتاتورية المُمارسة من قِبل الضباط الأحرار، بالإضافة إلى الرحكات الوطنية والقوى السياسية القديمة المفككة. فما كان على جمال عبد الناصر إلا التخلص من كل العقابات التي تواجهه للسيطرة على الحكم، فحارب ضد عودة الوفد (بعد قرار حل الأحزاب السياسية عقب ثورة يوليو/تموز 1952) والتنظيمات السياسية الأخرى، صارع للقضاء على تنظيم الأخوان المسلمون، وسارع للتخلص من محمد نجيب.
بالسيطرة على الجيش ومساندة الأزهر -الذي أعلن تأييده لحركة الضباط الأحرار بمجلة «الأزهر» باعتبارها «انقلابًا عظيمًا كرم الله الإنسانية به وأذهب النظام الجاهلي» وموالية أنصار الملك والديكتاتورية؛ من بينهم علي ماهر والسنهوري، ومباركة الدور الصحافية كـ «دار أخبار اليوم»، لم يكن من الصعب أن تخرج المظاهرات بمصر في 28 مارس/آذار 1954 مطالبة بسقوط الديمقراطية والحرية.
لماذا نجيب؟
عُرف بموقفه الرافض لتحية ضابط بريطاني، وتقدم باستقالته احتجاجًا على محاصرة دبابات الاحتلال لقصر عابدين ولكن تم الضغط عليه من قِبل قائده حتى سحب استقالته، هذا بالإضافة إلى شجاعته المعهودة وتميزه في حرب فلسطين 1948 وأصابته بها ثلاث مرات؛ ليكون محمد نجيب الضابط الوحيد على مر العصور الذي حصل على نجمة الشرف العسكرية مرتين.
كانت رتبة نجيب العالية بالجيش وسمعته وأفكاره الثائرة على الاحتلال البريطانى والملك، تمثل حجر الزاوية في اختيار تنظيم الضباط الأحرار -المُشكَّل في 1949- له حتى يكون ممثلًا لهم وقائد الثورة ضد الملك، لضمان كسب التأييد الشعبي ونجاح حركة الضباط الأحرار، خاصة بعدما رفض كل من فؤاد صادق وعزيز المصري الدور الذي قام به نجيب لاحقًا.
دعم التنظيم نجيب حتى فاز برئاسة مجلس إدارة نادي الضباط ضد مرشحي الملك تمهيدًا للتخلص منه. وتسربت الشكوك والمخاوف إلى الملك، فقام بحل نادي الظباط، مما جعل نجيب يُعجِّل من عملية التحرك للثورة على الملك المُقررة في أغسطس/آب 1952 لتكون في 22 يوليو/تموز 1952.
بداية الجمهورية
والمولى أراد كان بالمرصاد وسمع شكوى المظاليم
كان فرجه قريب وسميع ومجيب
والجيش ونجيب عملوا الترتيب
مونولوج عشرين مليون وزيادة لإسماعيل ياسين
تحول النظام السياسي في مصر من الملكية إلى الجمهورية، بعد نجاح ثورة يوليو 1952 بتنازل الملك فاروق عن منصبه. وتولى نجيب الحكم ورئاسة الوزراء في 18 يونيو/حزيران 1953، وتم تعيين زكريا محيي الدين كرئيس للمخابرات المدنية والعسكرية وعبد الحكيم عامر قائد للجيش برتبة لواء، بالرغم من رفض نجيب الشديد.
حيث اهتم عبد الناصر منذ اللحظة الأولى بالسيطرة على مراكز القوة الحقيقية، من خلال تعيين المقربين له. كما تم منح أعضاء مجلس الثورة بعض المناصب الوزارية، وتولى عبد الناصر نيابة رئاسة الوزراء.
وكانت الإصلاحات التي تم اتباعها من قبل مجلس قيادة الثورة (إعادة توزيع الثروة بتقسيم الأراضى الزراعية وإتاحة التعليم المجاني للجميع) لها مردود قوي من الدعم والولاء الشعبي، منصبًا على نجيب حيث ازدادت شعبيته بشكل ملحوظ وبرضاء -في البداية- من مجلس قيادة الثورة.
رغب مجلس قيادة الثورة أن يصنع من نجيب دمية سهل التحكم بها، فسعى لخلق حالة من التأييد الشعبي لتحيط بنجيب باعتباره جزءًا من مجلس قيادة الثورة، إلا أن نجيب كشخص تحول في سرعة ملحوظة إلى قائد وأيقونة للشعب، بسبب خطبه الوطنية وسعيه الدائم للتقرب والتودد من الشعب. فبدأت صور نجيب تعلو الصحف العالمية والمحلية، ويتم الإشارة إليه كزعيم شعبي، مما أثار حنقه عبد الناصر؛ العقل المدبر الحقيقي لثورة 1952.
لم يكن نجيب بالنسبة لعبد الناصر إلا وسيلة للوصول إلى الحكم، ولم يكن الحكم بالنسبة له إلا الإافراد بكل السلطات والسيطرة على كل المساحات السياسية والاجتماعية في البلاد، بدون تهديد من أحد. فحال نجيب دون سيطرة عبد الناصر على البلاد، كما تشارك مع نجيب في هذا الدور الأحزاب السياسية وجماعة الإخوان المسلمون والصحافة، مما استوجب عملية تطهير شاملة ذات أهداف مخبأة.
من يضحك أولًا
انقسمت الآراء بمجلس قيادة الثورة، حيث نادى نجيب بدولة ديمقراطية أساسها دستور يُستفتى عليه الشعب، وأيده في ذلك «سلاح الفرسان» بقيادة خالد محيي الدين، لإيمانه بالتصور الأول الذي خرجت به ثورة 1952؛ حيث التطهير وعودة الجيش إلى ثكناته وترك الحكم للمدنيين.
مما أغضب عبد الناصر ومؤيديه بالمجلس، فسعوا في التحرك بالمساحات المختلفة للتضييق على سلطة نجيب سعيًا للتخلص منه ومن شعبيته الرائجة. وأخذ المجلس ينبذ نجيب في الاجتماعات المختلفة وعمل صلاح سالم -وزير الإرشاد القومى (الإعلام)- على التقليل من صور نجيب بالصحف، ونشر صور عبد الناصر في المقابل. هذا بالإضافة إلى قرارات المجلس التعسفية ضد المعارضة، حيث حل جماعة الإخوان المسلمون في يناير/كانون الثانى 1954 وتحديد إقامة مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد، مما أزعج محمد نجيب من طبيعة سياسات المجلس الاستبدادية ضد المعارضة.
فقدم نجيب استقالته في 23 فبراير/شباط 1954، اعتراضًا على تلك السياسات التي ترسخ لحكم عسكرى استبدادي. لتكون بداية ما يُعرف بـ «أزمة مارس».
واجتمع جمال عبد الناصر بالضباط الأحرار في غياب نجيب بعد أن أرسل الأخير سيكرتيره الخاص بثمانِ مطالب، من بينها تحقيق الديمقراطية، إجراء انتخابات برلمانية ووجود حكومة غير عسركية، ولكن رفض المجلس حسبما يوضح عبد الرحمن نجيب. وتم تنحية اللواء محمد نجيب في يوم 25 فبراير/شباط.
كان نجيب مُحصنًا بالتأييد الشعبي -وهو الأمر الذي أغفله عبد الناصر- فخرجت المظاهرات الداعمة لنجيب لثلاثة أيام متواصلة وشارك فيها الإخوان والوفدييون والشيوعيون وتنظيم مصر الفتاة (الاشتراكيون)، حتى تم إعادة نجيب للحكم في 27 فبراير/شباط 1954. وأصدر المجلس بيوم 5 مارس/آذار قرارات بعقد جمعية لإقرار دستور جديد وإلغاء الرقابة على الصحف والأحكام العرفية، بالإضافة إلى الإفراج عن المعتقلين السياسيين.
لم تكن إعادة نجيب للسلطة قرارًا متفقًا عليه من قبل مجلس قيادة الثورة، بل انتاب المجلس حالة انقسام حادة. فيروي وحيد رأفت في كتابه «فصول من ثورة 23 يوليو» واقعة وقوف عبد الناصر على المكتب بأحد الاجتماعات مهددا بالانتحار لتهدئة الوضع، حسبما يوضح رأفت. بالإضافة إلى رواية حسن إبراهيم، عضو مجلس قيادة الثورة، لواقعة تكتيفه لعبد الحكيم عامر وعبد الناصر حتى يقبلا استقالة نجيب.
وبالرغم من القبض على نجيب وقادة سلاح الفرسان المناصر له -من قِبل الضباط الموالين لعبد الناصر- وسيطرة الجيش على الوضع إلا أن عبد الناصر وعى خطورة معاداة الشعب والوصول إلى الحكم بانقلاب آخر. فتم إعادة نجيب إلى الحكم، فخرجت المظاهرات مرة أخرى احتفالًا بعودته.
حملت المظاهرات الاحتفالية في طياتها كرهًا للضباط الأحرار، فواجهتها الشرطة مما أدى إلى سقوط جرحى، إلا أن المتظاهرين تمكنوا من الوصول إلى قصر عابدين، وطالبوا بسجن عبد الناصر وصلاح سالم. وحينها أدرك عبد الناصر ضرورة التخلص من نجيب والمعارضة المدنية.
أزمة مارس، الانتصار للأدهى
لم تكن عودة نجيب للحكم إلا وسيلة المجلس الوحيدة للتخلص منه، ففي 25 مارس/آذار 1954 اجتمع مجلس الثورة بقيادة عبد الناصر لبحث مجريات الأمور، وتم الاتفاق على اقتراحات عبد الناصر في ألا يؤلف مجلس قيادة الثورة حزبًا وحله باعتبار أن الثورة قد انتهت، بالإضافة إلى حرية تكوين الأحزاب، وإجراء انتخاب جمعية تأسيسية لاختيار رئيس الجمهورية.
كانت تلك القرارات هي الستار لرغبة عبد الناصر في إيهام الشعب أن الثورة قد انتهت، وإثارة الخوف في نفوسهم من عودة البلاد إلى ما قبل الثورة وإلغاء قوانين العمل والضمانات الجديدة، بالإضافة إلى عموم الفساد مرة أخرى. كما كان لعبد الناصر رغبة خبيثة في إثارة الغضب بنفوس الضباط، حيث إن تحققت الديمقراطية سيخسرون مناصبهم وامتيازاتهم الجديدة.
فخرج الشعب بتوجيه من «هيئة التحرير» في يوم 28 مارس/آذار رافعين شعار «لا للديمقراطية»، لينجحوا في تنظيم الإضراب والاعتصام الأضخم منذ عام 1919. لتتحول الديمقراطية إلى صفعة على وجه نجيب وأنصارها.
والمثير للاهتمام أن إضرابات واعتصامات العمال -وما لحق بها- كان من تخطيط المخابرات الحربية وعبد الناصر، فكانت المنشورات تطبع بها ويتم توزيعها على مختلف الأفراد، بالإضافة إلى وجود تابعين لعبد الناصر في كل الأماكن للتشجيع على المطالبة ببقاء الثورة وآن أوان الديمقراطية لم يحِن بعض، حسبما أشار عبد الرحمن نجيب.
وما كان على عبد الناصر إلا استغلال الوضع، فاتفق مجلس قيادة الثورة بيوم 29 مارس/آذار على إلغاء قرارات 5 و25 مارس/آذار، كما قرر المجلس في 17 أبريل/نيسان بأن يكون عبد الناصر رئيسا للوزراء بدلًا من نجيب. فكانت تلك المظاهرات هي القشة التي قسمت ظهر فرصة تحقيق المسار الديمقراطي في مصر، حيث أضفت شرعية على أفكار عبد الناصر حتى لا يكون ديكتاتوريا ويفرض على الناس ديمقراطية هم رافضون لها.
استمرار الديكتاتورية
لم تكن سياسات عبد الناصر ومجلس الثورة الديكتاتورية وليدة أزمة مارس، إلا أنها بدأت منذ عزل الملك بحل الأحزاب السياسية بحجة التطهير، وفض اعتصام عمال كفر الدوار بالقوة بعد الثورة بأيام، وإعدام مصطفى خميس ومحمد البقري على إثره. كما امتد الأمر إلى القضاء على دور الطلاب السياسي، من خلال تحول الجامعة إلى أداة للدراسة والرياضة البدنية بعيدًا عن السياسة والمجال العالم، كما تم توجيه المعلمين والمناهج بالمدارس.
هذا بالإضافة إلى حملة الاعتقالات الموسعة التي طالت كل الأطراف السياسية، انتهاءً بحل جماعة الإخوان المسلمون في يناير/كانون الثاني 1954 بتهمة التآمر مع رجال السفارة البريطانية.
وكانت محاولة اغتيال عبد الناصر في أكتوبر/تشرين الأول 1954 بثمان رصاصات أثناء خطبته بالإسكندرية، هي فرصته المنتظرة لسحق الإخوان والتخلص من محمد نجيب نهائيًا -بالرغم من وجود شهادات عديدة تشير إلى أن تلك الحادثة كانت من ترتيب المخابرات- وتم إعدام سبعة أفراد من الجماعة وحبس الآخرين، بالإضافة إلى حظر جماعة الإخوان رسميًا من قبل مجلس قيادة الثورة.
وجُرد محمد نجيب من منصبه في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 من قبل مجلس إدارة الثورة على إثر تلك الواقعة، ووضع قيد الإقامة الجبرية في فيلا بالمرج لزينب الوكيل، زوجة مصطفى النحاس، حتى توفي في 1984.
فما كانت عملية التطهير التي تبناها مجلس الثورة بعقلها المدبر جمال عبد الناصر، إلا وسيلة لسيطرة الملك على رقعة الشطرنج من خلال عساكره المتعددة.