مفهوم الهوية السياسية: ما الذي يبرر انتماءك لهوية ما؟
ما الفرق بين أن تولد في سنة 1985 مثلا في العراق، وبين أن تولد في ذات السنة في السويد أو في فنزويلا؟ لا شك أن الإنسان – من حيث الجوهر – هو ذاته في كل مكان وزمان، ولكن الذي سيختلف حتما هو الظروف والبيئة المحيطة. ستختلف الموروثات سواء البيولوجية (الجينات) أو الثقافية (الميمات). ومن هنا تبدأ “الهويات”. فأن تكون (هنا) يعني أن تكون مختلفًا تماما عن أن تكون (هناك)، يعني: أن تختلف قضاياك وهمومك وكل ظروف معيشتك، ومن هنا تبدأ “الهويات السياسية”.
في أهمية الهويات السياسية
سننطلق في بيان أهمية الهويات السياسية، وأهمية تحديد الإنسان لهويته السياسية، من انتقاد التصورات المثالية والشاعرية، والتي تميل إلى رفض الهويات والانتماءات السياسية، والى القول: «أنا إنسان وفقط!»، أو: «أنا أنتمي إلى الإنسانية فقط» دون أي تفصيل أو تفريع! في الحقيقة إن مثل هذه التصورات، رغم عمق معناها و جمال صورتها و نُبل غايتها، تمثل حالة من الضياع والضبابية، حيث لا يستطيع الشخص معها تحديد موقفه من مشاكل واقعه والقضايا المحيطة به؛ ولذا كثيرا ما تكون مثل هذه التصورات أقرب إلى “سلوك نكوصي” ومحاولة للهروب من الواقع ومن مجابهة تحدياته ومعالجتها.
أما “الهويات السياسية” فهي هويات على مستوى عالٍ من العِلمية والواقعية، وهي هويات أكثر إنسانية؛ وذلك لأنها هي التي تعبر بدقة عن الإنسان، عن طموحه وهواجسه، وعن التحديات والمشاكل التي تواجهه في يومه. وبالتالي فإن تحديد الفرد لهويته السياسية، يعني أن يكون قادرا على التعامل مع واقعه، ومشاكله التي تواجهه في يومه، وبالتالي أن يكون قادرا على تحديد برنامجه ومشروعه السياسي تبعا لذلك، وهنا تحديدا تكمن أهمية الهويات السياسية.
الهويات النخبوية
سنصنف الهويات السياسية إلى نوعين: النخبوية، والعامة. أما الهويات النخبوية، فهي هويات هشّة، يؤمن بها نخب لا يمثلون إلا شريطا دقيقا من المجتمعات؛ وذلك عائد إلى كَوْن الواقع السياسي والاجتماعي لا يؤسس لهذه الهويات ولا يدفع لوجودها وانتشارها، بل هي أقرب ما تكون إلى التَرفيه؛ حيث أنها تحتاج إلى دافع ذاتي لدى المتبني لها، يدفعه إلى التوسع والاستزادة من أجل الاقتناع بها واعتناقها.
ويمكن أن نضرب لها مثالا من مجتمعاتنا بشخص مؤمن بالهوية القومية السورية[1] بينما الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي لا يؤسس لمثل هذه الهوية؛ ذلك أن سوريا الطبيعية مقسمة اليوم بين أربع دول، واحدة منها تحت الاحتلال (فلسطين)، وبالتالي فثمة تباينات في البُنى الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بينها، بحيث لا يمكن تأسيس مشروع على أساس أنها كتلة واحدة. هذا عدا عن الإنسان العادي في الشارع لا يلمس في واقعه ما يقال له: «أنت من سوريا الطبيعية»؛ فالنظام السياسي الذي يخضع له والظروف الاقتصادية التي يتأثر بها، بكونه موجودا في الأردن مثلا، مختلفة تماما عما هو الحال عليه في لبنان. ولذا فإن من يؤمن بمثل هذه الهوية يحتاج إلى أن يترك الواقع اليومي، و يذهب للقراءة والتوسع في التاريخ والثقافة (الخاصة ببلاد الشام في هذه الحالة). وقل مثل ذلك في من هو مؤمن بالقومية العربية، وبالوحدة بين الأقطار العربية.
الهويات العامة
أما الهويات العامة، فهي هويات واسعة الانتشار بين مختلف الطبقات والشرائح؛ وذلك لكونها هويات “واقعية” يفرضها ويمليها الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، على المنتمين لها. ولكي نوضح المقصود بمثل هذه الهويات، نضرب لها مثالا بالهويات التي تظهر في حالة وجود الأقليات ضمن الدول، والتي تكون مواطنتها منقوصة؛ أي أنها تتمتع بحقوق سياسية واقتصادية بدرجة أقل مما هو متاح لسائر مواطني الدولة ممن هم من خارج الأقلية، فينتج عن هذا الواقع تمسك جميع أفراد هذه الأقلية، اضطرارا أو اختيارا، مهما كثر عددهم أو قل، بهويتهم التي يضطهدون وتنتقص حقوقهم بسببها.
ومثل هذه الهويات تكون هويات قوية ومتينة، يصعب محوها ودمجها ضمن هويات أخرى، إلا في حالة تأسيس حالة بمستوى عالٍ من الديموقراطية والمواطنة قائمة على المساواة بين جميع المواطنين، وعدم تمييز فئة على أخرى.
وعلى مثل هذه الهويات يمكن بناء مشاريع سياسية مؤثرة، قد تتمكن من التحول إلى دول وكيانات سياسية لاحقا. وهو ما حدث مع الحركات الانفصالية، القائمة على أساس عرقي، حيث تطالب هذه الحركات (ما نجح منها وما لم ينجح بعد) بانفصال قومية عن الدولة المركزية التي تخضع لها وذلك لوقوع الاضطهاد عليها من قبل الحكم المركزي.
وهناك أمثلة عديدة من التاريخ والواقع على مثل هذه الهويات، ومن أشهر الهويات التي تمكنت من الحفاظ على نفسها طوال قرون متتالية، إلى أن تمكنت من تحقيق مشروعها السياسي: الهوية اليهودية، والتي كان السبب الرئيس في متانتها واستمرارها لقرون متتالية، هو الاضطهاد الذي تعرض له اليهود في أوروبا تحت تأثير الكنيسة في العصور الوسطى، وتحت مسمى “معاداة السامية” في العصور الحديثة.
ومن الأمثلة كذلك على الهويات التي ما زالت تناضل وهي اليوم تقترب من تحقيق ذاتها السياسية (أي قيام دولة باسمها تعبر عنها): الأكراد، وبالطبع فإن العامل الأهم في بقاء مسألتهم مطروحة وبقاء مشروعهم السياسي مطروحا بقوة، هو بقاء هويتهم واستمرارها، نتيجة لعدم اندماجهم في الدول الأربعة: سوريا، والعراق، وإيران، وتركيا[2].
الهوية الفلسطينية
ويمكننا كذلك اعتبار الهوية الفلسطينية كمثال على الهويات العامة المتينة، ومجددا، ذلك عائد إلى عدم اندماج فلسطينيي الشتات في دولهم[3] التي هاجروا إليها واستقروا بها. ففي دولة مثل الأردن يُحظر على صاحب الأصل الفلسطيني دخول المؤسسات الأمنية والعسكرية، كما يتم تطبيق قانون انتخابات لا يأخذ بعين الاعتبار الكثافة السكانية في تحديد عدد المقاعد الممثلة لكل محافظة (وهو ما يؤدي إلى وجود عدد نواب أقل عن المدن التي يتركز فيها الفلسطينيون، والذين يشكلون قرابة الثلثين من مجموع السكان)، والحرمان من الحقوق السياسية للفلسطينيين أكثر وضوحا في حالات أخرى كـ لبنان وسوريا. ومثل هذه الأوضاع هي ما يؤدي إلى تمسك الفلسطيين بهويتهم وبقائهم محافظين عليها.
ولكن لا بد عند الحديث عن الهوية السياسية الفلسطينية الإشارة إلى ما يجعلها مختلفة عن غيرها، وهو كونها هوية نضالية[4] ناشئة عن ومرتبطة بـ مقاومة الفعل الاستعماري[5]. فهي بذلك تختلف عن الهويات السياسية التي تُبنى على أسس عرقية، تتداخل فيها العوامل الثقافية (بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة)، والطبيعية كـ الصفات الجسمية والتراث والملابس والمأكولات واللهجات.
ومعنى وصفها بالهوية النضالية هو ارتباطها بالتضحيات والدماء، واستيعابها لكل من يؤمن بعدالة القضية الفلسطينية ويناضل في سبيل إقامة دولة مستقلة للشعب الفلسطيني، مهما كان توجهه الفكري أو أصله العرقي، حتى لو كان يهوديا.
الوطنية والأممية
ويمكن تقسيم الهويات السياسية أيضا إلى تقسيمات عدة أخرى، أهمها التقسيم إلى: الوطنية، والأممية. وهذه التقسيمات ظاهرة اليوم في الجدالات الدائرة داخل الحركات الإسلامية في العالم العربي بين العمل في الإطارات الوطنية أو الأممية. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى أن الهويات الأممية تبقى أقرب إلى كونها متخيلة وغير عملية، وهو ما يبقيها في إطار الشعارات. أما الهويات الوطنية فهي أكثر قربا من الواقع وأكثر تعاطيا مع تحدياته.
ويمكن اعتبار “حماس” مثالا على الحركات الإسلامية التي تجاوزت المنظور الأممي، وانتقلت إلى دائرة العمل التحرري الوطني، حيث تجاوزت الأفكار الإسلامية الكلاسيكية كـ “الخلافة”، وانتقلت إلى رسم سياسات واضحة تهدف إلى مقاومة المحتل، وتؤكد على عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى.
[1] وهي الإيمان بسوريا الطبيعية، ووحدة شعوبها. وقد عُرف أنطون سعادة بأنه أبرز من دعا لهذه الهوية، و قد أسس الحزب السوري القومي الاجتماعي على أساسها.
[2] ربما باستثناء إيران، التي تمكنت من دمج واستيعاب الأكراد إلى حد بعيد، حتى ارتفع عند غالبيتهم مستوى الولاء لطهران.
[3] يبلغ تعداد الفلسطينيين في الشتات حوالي 12 مليون، مقابل حوالي 5 ملايين داخل أراضي فلسطين التاريخية (الضفة، القدس، غزة، الأراضي المحتلة).
[4] ويشترك معها في ذلك كل المشاريع التحررية كالتي كانت في الجزائر والفيتنام وكوبا وغيرها.
[5] حتى يمكننا القول بأنه لو احتل جنوب لبنان، لكان سكانه فلسطينيين، ولو لم يُحتل النقب لكانه سكانه غير فلسطينيين.