مفهوم الكولونيالية: كيف تستعبد العالم باسم الحرية؟
الفيلسوف الفرنسي المؤيد للاستعمار «الكولونيالية»، أليكسس دو توكفيل.
فعل الكولونيالية الذي بدأ يكتسب صفته المفهومية وطابعه الاصطلاحي مع بداية التوسع الأوروبي خارج القارة في منتصف القرن السادس عشر ليس فعلا جديدا خاصا بالحضارة الغربية وحدها، إنما مارسه قبلهم الإغريق والرومان والعثمانيون، لكن ما يضفي على الكولونيالية الأوروبية الحديثة هذه الصبغة الفريدة هو تسخيرها للتكنولوجيا الحديثة لصالحها. في ظل وجود سفن سريعة ووسائل مواصلات وجيوش حديثة ونظم إدارية أكثر كفاءة أصبح بإمكان الأوروبيين إرسال مستوطنيهم إلى أراضٍ بعيدة بين حضارات وثقافات مختلفة دون أن يفقدوا اتصالهم بأرضهم الأم، ودون أن تفقد الدولة الأوروبية سيادتها على الأراضي الجديدة مع الوقت.
تكمن الصعوبة النظرية في تعريف مصطلح الكولونيالية أو ما هو متعارف عليه عربيا بالاستعمار في التفريق بينه وبين مفهوم التوسع الإمبريالي. تُفضل موسوعة ستانفورد الرجوع للمصادر اللاتينية لهذين المصطلحين للتفرقة بين معنييهما، يعود أصل كلمة الكولونيالية إلى المصطلح اللاتيني colonus ويعني المزارع، ويذكرنا هذا الأصل بأن مفهوم الكولونيالية ارتبط بفعل انتقال مواطنين من دولة الأمة المحتلة إلى الأرض الواقع عليها الاحتلال، واستعمل المصطلح غالبا لوصف أماكن مثل أمريكا الشمالية ونيوزيلندا وأستراليا والبرازيل والجزائر، حيث انتقلت أعداد كبيرة من المواطنين الأوروبيين، وأنشأوا مستعمرات منفصلة عن أماكن معيشة السكان الأصليين.
بينما تشتق كلمة الإمبريالية من المصطلح اللاتيني imperium ويعني القيادة. لم يكن استخدام هذا المصطلح شائعا في الإنجليزية قبل القرن التاسع عشر، واستُخدم لوصف عملية بسط السيادة السياسية والعسكرية على الأمم المحتلة، حيث فرضت عليها حكومات وإدارات أجنبية دون استيطان ملحوظ من مواطني الدولة المحتلة.
في منتصف القرن التاسع عشر ومع سيادة الخطاب الإليزابيثي الذي روّج لفكرة الإمبراطورية البريطانية لاحظ المفكرون حيدًا في السلوك الإمبراطوري البريطاني عن السلوك الإمبراطوري في العهود القديمة؛ حيث اكتفت بريطانيا بما يمكن أن نطلق عليه السيادة غير المباشرة عن طريق حكومات محلية تدين بالولاء للعاصمة الإمبراطورية. هذا النمط من السيادة كانت تقوده الأغراض الاقتصادية بالأساس، وهو ما دفع لينين ومفكري اليسار إلى اعتبار الكولونيالية والإمبريالية ظاهرة ناشئة عن الرأسمالية وامتدادا لها.
نفس الغرب اللوّامة
أشعل الاحتلال والاستكشافات العسكرية الإسبانية في منتصف القرن السادس عشر جدلا داخليا كان محصورا في الأوساط الدينية واللاهوتية حول مدى شرعية السيطرة على بلاد الآخرين بالقوة العسكرية، وقد اكتسبت الحملات العسكرية والاستكشافية الإسبانية شرعيتها في ذلك الحين من فكرة أن على الحضارة المسيحية أن تسعى لمهمة تبشير الأمم الأخرى بفكرة الخلاص المسيحي وتحريرها بعبارة أخرى؛ فإن المهمة الكولونيالية هي مهمة حضارية بالأساس.
يُمكننا القول: إن الحماسة الدينية التي كانت وراء الحملات الصليبية هي التي زوّدت هذه الحملات الكشفية الجديدة بالروح اللازمة، ولكن بعكس الحملات الصليبية التي كانت تسعى لاسترداد الأرض المسيحية فإن هذه الحملات الجديدة سعَت لسلب الآخرين أراضيهم، وهنا يدخل مفهوم الولاية البطرسية الذي يفترض وجوب امتداد السيادة البابوية لتشمل المؤمنين وغير المؤمنين للقيام بمهمة تحريرهم وتبشيرهم بالخلاص المسيحي.
لكن الأمر لم يمر دون اعتراضات، فقد لاحظ المفكرون والمراقبون أن الغزو الإسباني ارتبط بالأساس بإبادة السكان الأصليين واسترقاقهم، وسلب ممتلكاتهم، مما أدّى إلى موجة من التشكيك والنقد ضد «المهمة الحضارية الإسبانية» قادها بارتولومي دي لاس كازاس وفرانشيسكو دي فيتوريا. يرى فيتوريا في سلسلة محاضرات مبنية على نظرية القانون الطبيعي التي أصّلها القس توماس الإكويني أنه ليس من حق البابا فرض سلطته على غير المسيحيين، وليس من حق الإسبان مصادرة ممتلكاتهم وفرض سيادتهم؛ لأن قيام المواطنين الأصليين بأعمال تنبع من ثقافتهم، وتشريعهم ليس خرقًا للقانون الطبيعي كما كان يدّعي البابا. لكن حتى فيتوريا رُغم نقده الحادّ الموجّه ضد الكولونيالية الإسبانية فإنه أجاز الاحتلال الإسباني في حال تعدي هؤلاء السكان الأصليين على ما يُدعى قانون الأمم، وهو قانون يؤصل باختصار شديد لحرية السفر والتجارة.
لم يكن النقد الثيولوجي لاعبا وحيدا في ساحة نقد الممارسات الكولونيالية، فقد انضم إليه النقد الليبرالي التنويري في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عبر فلاسفة ألمان وإنجليز وفرنسيين أبرزهم فيلسوف التنوير الألماني إيمانويل كانط والمفكر الاقتصادي والفيلسوف الأسكتلندي آدم سميث والكاتب والفيلسوف الموسوعي الفرنسي دنيس ديدرو.
انتقد هؤلاء الفلاسفة العنوان الكبير الذي اندرجت تحته الممارسات الكولونيالية وهو «مهمة فرض الحضارة على باقي سكان العالم». قد تبدو مهمة هؤلاء الفلاسفة سهلة باعتبار أن التنوير يدعو إلى الاحترام الكوني لحقوق الإنسان، ولقدرته على اختيار مصيره، وحكم نفسه، لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة. لكي يحوز النقد التنويري على الكفاءة اللازمة كان واجبا عليه أن يعترف بالتعددية الثقافية، وأن كونية حقوق الإنسان والعقل الإنساني لا تنفي أن المجتمعات الإنسانية المختلفة قد تنتج مؤسسات وعادات ثقافية ونظم حكم مختلفة ومتنوعة قد تختلف عن تلك التي أنتجتها العقلانية الأوروبية والتي اعتاد الأوروبيون على وصفها بالهمجية واللاتحضر.
ديدرو كان أكثر منتقدي الكولونيالية حدة، وكان يرى أن الغزو الغربي هو الوحشي والهمجي لا العكس، وذلك بسبب بُعد المستعمرين الأوروبيين عن مؤسسات الضبط والكبح في بلادهم، وانعزالهم عن ثقافات المجتمعات الجديدة بما فيها من نُظم اجتماعية، وهو ما أدى إلى عودتهم للحالة البدائية الوحشية، حيث مارسوا القتل والاستعباد والنهب. من جهته انتقد آدم سميث الكولونيالية نقدا اقتصاديا من وجه أن سيطرة المركز الأوروبي على الهامش تقوّض حرية السوق، كما أن تكاليف التوسّع والسيطرة العسكرية ستثقل على الدوام كواهل دافعي الضرائب بالأعباء غير النافعة.
«الكولونيالية» بين اليمين واليسار
تحت مظلة التنوير انقسم المفكرون والفلاسفة الأوروبيون إلى مدرستين، أولاهما هي المدرسة الليبرالية التي تولى زمامها الفلاسفة الأسكتلنديون والبريطانيون. أقامت هذه المدرسة دعمها للكولونيالية على عمودين أساسيينِ هما نظرية كونية العقلانية الإنسانية والتطور الحتمي للتاريخ.
يرى جون ستيوارت ميل الفيلسوف الأسكتلندي أن كل إنسان قادر على تقدير مصلحته، وكل أمة قادرة على الحكم الذاتي لكن هذه القدرة لا تتحقّق إلا في مرحلة معينة من مراحل الحضارة؛ لهذا فإن المهمة النبيلة التي يحققها الاستعمار الغربي هي إيصال الحضارة لمجتمعات الهامش التي تعاني من التخلف والهمجية، يُضيف ميل أن هذه المجتمعات تعاني من حب مفرط للحرية، وهو ما يجعلها غير قادرة على الوصول للعقلانية التي تفترض التنازل المشترك للوصول للحوكمة الصالحة.
لكن رغم هذا التأييد فإن لميل أربعة مآخذ على الاستعمار الغربي:
الأول: أن الحكومات الأجنبية لا تمتلك المعرفة والدراية اللازمة بالمجتمعات المحلية التي تؤهلها لحل المشاكل المحلية بكفاءة.
ثانيا: نظرا للاختلافات الثقافية واللغوية والدينية بين المستعمِرين والمستعمَرين فليس من المرجح أن يتعاطف المستعمِرون مع السكان المحليين، وهو ما سيدفعهم للاستبداد.
ثالثا: حتى لو حاول المستعمِرون التعاطف مع السكان المحليين فإن ميلهم الطبيعي للوقوف في صف المتفقين معهم ثقافيا ودينيا ولغويا ستدفعهم للتحيز غير العادل في حالات الصدام.
رابعا: الحكومات الاستعمارية والتجار يتوجهون للدول المستعمَرة بغرض الربح؛ لذا فمن المرجح أنهم سيقومون بنهب وتخريب هذه الدول بدلا من نشر رسالة الحضارة فيها.
من أقصى اليميني الليبرالي إلى أقصى اليسار الماركسي يكتسب تبرير الاستعمار لهجة مختلفة، حيث اعتبر ماركس أن الاستعمار هو الطريقة الوحيدة لنقل المجتمع الهندي من البدائية للتطور بسبب سيادة ما سماه بـ الاستبداد الشرقي الذي يمنع وصول المجتمع إلى المرحلة الليبرالية، ويرى ماركس أنه برغم الألم والظلم الناتج عن هذا الاستعمار فإن البقاء في الطور البدائي للمجتمع ينطوي على أشكال أكثر قسوة وألما من الاستغلال والاستبداد. على العكس من ذلك يرى لينين أن الاستعمار هو محاولة من البرجوازية الغربية لتصدير الأزمة الاقتصادية للخارج وإلقائها على كاهل الشعوب المستعمرة بدلا من مواجهة ثورة بروليتارية حتمية في الداخل.
الإمبراطورية تُفكّك نفسها
لم يكن مفهوم الكولونيالية ليفقد مناصريه والمدافعين عنه باسم الحضارة لولا ظهور تيار داخلي معارض ولّدته «الكولونيالية» نفسها، فساهمَ بدوره في تفكيكها وهو مفهوم القومية، فقد ساهمَ انتشار مفهوم القومية في نزع الغطاء الرسالي عن المشروع الاستعماري الغربي، ومع تصاعد النزاعات والصراعات القومية داخل أوروبا نفسها وخارجها لم يعد هناك مكان في الخطاب الاستعماري لرسالة الحضارة، إنما محاولة لكسب السباق والتنافس القومي، وهو ما عبر عنه بفجاجة الفيلسوف الفرنسي المؤيد للاستعمار الفرنسي في الجزائر أليكسس دو توكفيل حين قال: «نحن نقاتل الآن بوحشية أكثر من العرب أنفسهم، بإمكان المرء أن يلتقي الحضارة على جانبهم لا على جانبنا». لكن على الرغم من ذلك كتب توكفيل خطابات ومقالات عديدة يحث فيها على استعمار الجزائر من باب النفعية البراجماتية البحتة التي تخلو حتى من القيمة الشكلية.
في كتابه «الجماعات المتخيلة» يرى بندكت أندرسون أن فكرة القومية تعزّزت بالأساس في المستعمرات قبل أن تنتقل إلى المتروبول، وذلك في تحليله لنشوء القومية في دول أمريكا الجنوبية التي يرى أنها كانت سابقة على القومية الإنجليزية. يفسر أندرسون هذا الأمر بأن الأجيال اللاحقة من أبناء المستعمرين الذين انقطعت صلتهم بـ المتروبول هم من ساهموا في إنضاج القومية في هذه الدول عبر رحلة الحج نحو عواصم الأقاليم الإدارية التي بدأت تكتسب ديمومة جغرافية لأسباب عديدة.
رحلة الحج هذه هي رحلة المحامين والعسكريين والكتاب والموظفين من الطبقة الوسطى الذين لم يعد يربطهم شيء بالمركز الاستعماري ويكافحون لتحسين مراكزهم وأوضاعهم الاقتصادية في وجه ملاك الأراضي وبقايا سيطرة الاستعمار الإسباني. لا يكون بإمكان رحلة الحج هذه بالقيام بمهمتها في إنضاج الوعي القومي الجديد دون وجود عوامل التخيل مثل اللغة والمصير المشترك وفقدان الروابط السلالية والعائلات الممتدة، بمعنى آخر فإن القومية الحديثة نشأت تلبية لرغبة الطبقة البرجوازية الحديثة الصاعدة بتصفية صراعها مع طبقة النبلاء وملاك الأراضي القديمة، ولكن هذه النزعة القومية بالذات هي التي أدت في نهاية المطاف لتفكك المشاريع الإمبريالية والكولونيالية الغربية.
لكن على الجانب الآخر وفرت هذه النزعة القومية فرصة وعائقا في وجه الأمم الساعية للتحرير، فهي من ناحية تعزز من روح الاستقلال لدى هذه الشعوب باعتبارها كيانا متمايزا عن المركز الأوروبي وذاتا مقابلة، وفي المقابل فإن نشأة هذه الكيانات القومية الجديدة في أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا على أساس التقسيمات الإدارية الكولونيالية التي أنشئت لأغراض اقتصادية رأسمالية أو تنافسية بحتة دون اعتبار للثقافة أو اللغة أو العرق أدى لخلق أزمات على مستوى الهوية والدولة لدى هذه القوميات الجديدة وسمح باستمرار الاستعمار الغربي في أشكال أخرى عبر ما يسميه إيمانويل والرشتاين بنظام العالم الذي ينقسم إلى دول المركز والهامش التي ترتبط فيما بينها بعلاقات صممت خصيصا لإفادة دول المركز ونقل الموارد والمنافع الاقتصادية إليها من دول الهامش.