مدن الحضارة في الدولة العثمانية (3): إسطنبول
أصبحت إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية درة المُدن التي ازدهرت بعد الفتح العثماني لها على يد القائد الشاب السلطان «محمد الفاتح» عام 1453 والذي استطاع بعد فتحها أن يُحول الدولة العثمانية من دولة كبيرة إلى دولة عالمية مثّلت أحد أقطاب السياسة الدولية لقرون من الزمن، وقد شهدت المدينة تحولات جذرية في الفترة العثمانية قامت بنقلها من عاصمة للمسيحية الأرثوذكسية الشرقية إلى حاضرة من أكبر حواضر الإسلام في العالم. وفي هذا المقال أقوم بإلقاء أضواء على حضارة إسطنبول أو «إسلامبول» العمرانية والعلمية والثقافية بين القرن الخامس عشر والقرن الثامن عشر لنرى كيف استطاع الحكم الإسلامي الجديد ترسيخ دعائم الثقافة والحضارة الإسلامية في هذه المدينة العريقة.
عمران إسطنبول
بعد فتح القسطنطينية وضع السلطان «محمد الفاتح» خطة لتعمير مدينته الجديدة وتطويرها، فجاءت أولى خطوات التعمير ببناء مُجمَّع (ديني – تعليمي -اجتماعي) ضم «جامع الفاتح» الذي يُعدّ أول جامع كبير تم استحداثه بالمدينة بعد الفتح بالإضافة إلى مستشفى ومجموعة من المدارس المعروفة باسم مدارس «صحن الثمان» تُدرَّس فيها علوم العقائد والفقه والطب وغيرها، وبجانبها مبان أخرى لإقامة الطلاب.
وقد اعتمد السلطان على مجموعة من السياسات لتوسعة عمران المدينة اعتمادًا على شكل معماري من أشكال الوقف عُرف باسم «الكُلّية»، وهي مؤسسة وقفية برزت وتطورت بشكل واضح في العهد العثماني ضمت عدة منشآت بجانب بعضها [جامع، ومستشفى، وحمام، ومدرسة، واستراحة للمسافرين، تكية لإطعام الفقراء أُسست بدافع من عمل الخير، ومنشآت أخرى تدر الدخل على هذه المؤسسات الخدمية مثل: [حمام، سوق، خان، مطحنة]، فقد وفر إنشاء «الكليات» خدمات عامة للمدينة، حيث لعبت دورًا مهمًا في توسيع حجم المدينة وتطوير شكلها وأعطت الشكل المميز للمدينة العثمانية في كل أنحاء الدولة، كما قام الفاتح في عام 1459 بجمع رجالات الدولة وطلب من كل واحد منهم أن يبني «عمارة» في المكان الذي يرغب.
وقد تنافس رجال الدولة في بناء العمارات البديعة حول الجوامع التي وفرت للسكان الخدمات التي يحتاجونها، مما جعلها تستقطب مجموعات جديدة من البشر من كل البقاع التي حولها ليؤسّسوا أعدادًا جديدة من المتاجر والمحلات، مما عمل على زيادة رقعة ومساحة المدينة بشكل كبير.
ويعتبر «السوق المسقوف الكبير» بإسطنبول أحد أعمال الفاتح التجارية المهمة التي ما زالت قائمة إلى الآن، والتي تدخل في سياسات تعمير المدينة التي انتهجها، فقد قام ببنائه بمعدل 800 متجر بداخله، وصلوا إلى 3000 متجر بداية القرن الـ18، وزاد عددهم إلى 4000 بنهاية القرن الـ19. وقد احتوى السوق على مسجد خاص به، وأسبلة، وحمام عام، ومدرسة، ومقاهٍ، ويستطيع الزائر التجول بداخله بواسطة 61 حارة، والدخول إليها عبر 18 بوابة.
ومن ضمن الكُليات التي تم تأسسيها بالمدينة «كُلية السليمانية» أحد مشاريع المهندس الكبير «سنان» والذي استغرق بناؤها من سنة 1550 حتى 1570م في عهد السلطان «سليمان القانوني»، وكانت قمة هذا النوع من العمارة التي يتوسطها جامع «السُليمانية»، فقد ضم بجانبه أنواعًا من المدارس منها مدرسة متخصصة في الحديث، ومدرسة متخصصة في الطب، كما ضم مشفى، ومطعمًا، وصيدلية، وأربع مدارس أخرى.
وإذا انتقلنا من عصر الفاتح وعصر القانوني إلى عصر السلطان مراد الرابع [1623-1640] في القرن السابع عشر، سنجد أن المدينة قد تطورت وزيدت مساحتها وتوسّعت بشكل ضخم ولافت، ففي عام 1638 أصدر السلطان أوامره إلى الصدر الأعظم «بيرم پاشا»، وإلى المفتي «يحيى أفندي»، وإلى قضاة «اسكُدار»، و«أيوب»، و«گلاطة» بإعداد وصف شامل للمدينة يضم كل شيء فيها، فجاء وصفًا شاملًا كاملًا أُعد في ثلاثة أشهر، وشكّل كتابًا جامعًا بعنوان «وصف القسطنطينية» قرأه المؤرخ العثماني الشهير «صولاق زاده»لعدة أيام في حضرة السلطان، وقد ضم إحصائيات ضخمة قدرت بعشرات الآلاف؛ شملت المساجد والجوامع والتكايا والقصور والمدارس والحمامات والمستشفيات وجميع عمائر المدينة وأنواعها.
المؤسسات التعليمية: المدارس والكليات
ومع بدايات قيام الدولة العثمانية نجد أن سلاطين ورجال الدولة قد اهتموا بإرساء دعائم العلم والمعرفة للكيان السياسي الجديد، فقاموا بإنشاء المدارس وكليات الدراسات العليا وإرسال البعثات العلمية إلى الدول الإسلامية مثل مصر والعراق والشام وإيران لتحصيل العلوم المختلفة والعودة إلى أراضي الدولة للتدريس والإشراف على المؤسسات التعليمية الجديدة، وقد شكلّت مؤسسة «المدرسة» ركنًا من أركان التعليم في الحضارة الإسلامية، وكان لها الدور اﻷساسي في نشر العلم في مراحله اﻷولى في الدولة، فيبدأ الطالب حياته في «مكتب» للأطفال فيتعلم القراءة والكتابة والحساب وأساسيات الإسلام ويحفظ أجزاء من القرآن الكريم، ثم ينتقل إلى المرحلة الثانية من التعليم مع المدرسة وفيها يُكمل الطالب حفظ القرآن ويدرس الشريعة وأصول الفقه والحديث والمنطق، وغالبًا ما كان يؤسس المدارس السلطان بنفسه أو أحد رجالات الدولة أو أحد أثريائها.
أما ظهور أول مدرسة في الدولة فكانت في مدينة «إزنيق» عام 1331م في عهد السلطان «أورخان غازي»، وأُعطيت إدارتها للعالم «داوود القيصري» والإشراف عليها، وتوالى تأسيس المدارس في أراضي الدولة ومنها إسطنبول، والتي حازت عددًا كبيرًا من المدارس، فقد وصل عدد مدارسها من القرن الخامس عشر حتى القرن التاسع عشر إلى 166 مدرسة نشطة [بخلاف المدارس التي أُسست على الطراز الجديد في القرن التاسع عشر] فيما قبل عام 1869.
وعند تقسيم أنواع مدارس الدولة نجد أنها تفرعت إلى فرعين: مدارس «الخارج» وهي مدارس إعدادية يَدرُس فيها الطالب قواعد العربية والمنطق والدراسات العقدية، ومدارس «الداخل» وهي درجة ينتقل إليها الطالب بعد انتهائه من الأولى، ويَدرُس فيها علوم الفلك والهندسة وعلم البلاغة، وبعد الانتهاء من المرحلتين يتم الانتقال لمدارس «صحن الثمان» والتي تمثل رسميًا أعلى مؤسسة تعليمية في الدولة، وكانت تنقسم لثلاثة أقسام: الفقه، وتفسير القرآن، والبلاغة والدراسات اللغوية والعلوم المتعلقة بها.
ومع حلول عهد السلطان «سليمان القانوني» نجد أن هذا النظام التعليمي قد شهد تطورًا لافتًا؛ فقد أسّس السلطان حول جامعه 4 مدارس عامة، ومدرستين أخريين: واحدة متخصصة في علم الحديث، والثانية متخصصة في علم الطب [كما ذكر سابقًا] واستمر هذا النظام المدرسي التعليمي حتى القرن التاسع عشر.
وبالإضافة إلى النظام التعليمي السابق وجد من ضمن مدارس الدولة مؤسسة تعليمية مهمة، وهي مؤسسة «البلاط العثماني» التي أثرت في الحياة العلمية للدولة بشكل كبير، وأعطت للدولة الكثير من علماء ومؤرخي وجغرافيي ومعماريي التاريخ العثماني الكبار مثل المعمار «سنان»، والجغرافي والمؤرخ الكبير « نصوح السلاحي».
المكتبات في إسطنبول
تعتبر المكتبات من أهم المؤسسات المعرفية التي أقيمت في إسطنبول فترة الحكم العثماني، فمنذ عهد «محمد الفاتح» نجد الاهتمام بإنشاء المكتبات في إسطنبول والأناضول والبلقان، وقد تبرع السلطان بنفسه لمكتبات المدارس التي افتتحها في عهده بمجموعات من الكتب.
وقد أُسست المكتبات في الدولة ضمن إطار نظام الأوقاف وتعددت أنواع هذه المكتبات من مكتبات خاصة ملحقة بقصور الأمراء والسلاطين ورجال الدولة، ومكتبات محلقة بالمدارس والمستشفيات والمساجد والتكايا، وقد ظهرت هذه الأنواع وانتشرت بكثرة منذ بدايات تأسيس المساجد والجوامع بعد قيام الدولة بفترات قصيرة، كما وُجد نوع آخر من المكتبات وهي المكتبات العامة [المستقلة] التي يستطيع جميع أفراد الشعب الاستفادة منها، وهذا النوع لم يظهر إلا في أواخر القرن السابع عشر عندما قام الصدر اﻷعظم «فاضل أحمد پاشا» ببناء «مكتبة كوپرولو» عام 1678 وظلت في الانتشار والزيادة حتى وصلت ذروتها في عهد السلطان «محمود اﻷول» كما سنرى لاحقًا.
وإذا ألقينا نظرة على المكتبات الخاصة للعلماء ورجال الحُكم نجد الكثير من الأخبار التي تشير إلى انتشار المكتبات بداخل بيوتهم وقصورهم، فمكتبة الأمير «كوركوت» [ت 1513] ابن السلطان «بايزيد الثاني» بلغ من ضخامتها أنها كانت تُنقل بالجمال أثناء سفره من مكان لآخر، وكان لـ«رُستَم پاشا» [ت 1561] الصدر الأعظم فترة السلطان «سليمان القانوني» مكتبة خاصة تحتوي على 5000 كتاب، كما كانت مكتبة العالِم «مؤيد زاده عبد الرحمن أفندي» [ت 1516] تحتوي على 7000 مجلد، وكانت مكتبة الصدر الأعظم «الداماد إبراهيم پاشا» [ت 1730] فترة السلطان «أحمد الثالث» في القرن الثامن عشر تحتوي على 9000 مجلد في جميع أنواع العلوم والفنون بالعربية والتركية والفارسية وبعض من اللغات الغربية.
ويعتبر القرن الثامن عشر الميلادي هو العصر الذهبي لإنشاء المكتبات المستقلة/العامة في الدولة؛ فقد اشتهر سلاطين ورجال الدولة في هذا القرن بإنشاء المكتبات فمنهم السلطان «أحمد الأول» الذي أسس عام 1719 مكتبة بداخل قصر «الطوب قاپو» بإسطنبول عُرفت باسم مكتبة الاندرون وقد جُمع آلاف الكتب لها من مصادر مختلفة، كما نجد السلطان «عبد الحميد اﻷول» يؤسس «المكتبة الحميدية» عام 1780.
أما عهد السلطان «محمود الأول» [1730-1754] فيعتبر العهد الأبرز لإنشاء المكتبات في هذا القرن، فقد شُيد بأمر مباشر منه وبتشجيعه لرجال الدولة أكثر من 30 مكتبة في ولايات الدولة في البلقان والأناضول والأقطار العربية، منها مكتبة «آيا صوفيا» عام 1740 التي أمر ببنائها بداخل الجامع والتي حوت بداخلها على أكثر من 4000 كتاب، كما تنضم لقائمة المكتبات التي شيدها مكتبة في منطقة «الفاتح» ومنطقة «گلاطة سراي» بإسطنبول، بالإضافة إلى مكتبة في «بلغراد» و«ڤيدن» [في بلغاريا حاليًا] و«القاهرة»، وقد تنوعت مجموعات الكتب التي حوتها هذه المكتبات ما بين علوم دينية وعلوم لغوية وأدبية وفلسفة، وجغرافيا وتاريخ وغيرها والتي ساعدت طلبة العلم ومرتادي المكتبات على توفير المعارف والعلوم بالإضافة إلى نشرها بين الناس بشكل سهل.
أما رجال الدولة الذين قاموا بتأسيس مكتبات في هذا القرن فمنهم رئيس الكُتّاب «مصطفى عاطف» الذي أسس مجموعة من المدارس والمكتبات في إسطنبول وبلغراد وقسطمونو، وقد أوقف على مكتبته التي شيدها بإسطنبول 1237 كتابًا من مكتبته الخاصة وهو رقم كبير في هذا الوقت، ونجد أيضًا من ضمن رجال الدولة الذين وضعوا بصمتهم في تشييد المكتبات أغا دار السعادة في القصر السلطاني الحاج «بشير أغا»، الذي أسس مكتبات في منطقة «أيوب» بإسطنبول، و«بالمدينة المنورة»، و«سويتشوڤ» [في شمالي بلغاريا حاليًا]، كما نجد «ولي الدين أفندي» شيخ الإسلام في عهد السلطان «مصطفى الثالث» قد أسس مكتبة بمنطقة بايزيد بإسطنبول عام 1768.
- رحلة المكناسي: إحراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب 1785، محمد بن عبد الوهاب المكناسي، حققها وقدم لها محمد بوكبوط، الطبعة الأولى، دار السويدي للنشر والتوزيع و المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2003.
- تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار، خليل إينالجيك، ترجمة محمد م.الأرناؤوط، الطبعة الأولى، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2002.
- Salim Ayduz, Ibrahim Kalin, Caner Dagli. "The Oxford Encyclopedia of Philosophy, Science, and Technology in Islam", Volume 1, Oxford University Press, 2014.
- Ahmet Bilaloğlu. "THE OTTOMANS IN THE EARLY ENLIGHTENMENT: THE CASE OF PUBLIC LIBRARIES IN THE REIGN OF MAHMUD I (1730-54)", M.A Thesis, Central European University History Department, Budapest, 2013.