يحيا السلاح مع الصليب: كيف حمل مسيحيو فلسطين شعلة المقاومة
ليس من عجائب الدهر أن يحمل مسيحيو فلسطين نصيبهم من مسئولية المقاومة، لأنه لم يكن من العجائب أن يحملوا نصيبهم من مصاب الشعب الفلسطيني، ولأن مدافع الغزاة الصهاينة لا تُميز حين تصب نيرانها بين مئذنة مسجد وبرج كنيسة، ولأن حب العدل والوطن وكراهية الظلم والاستبداد، في نهاية المطاف، مشترك إنساني متجاوز لاختلاف المذاهب بين أبناء الشعب الواحد.
ومن نافلة القول إن مسيحيي فلسطين قد تحمّلوا نصيبهم من المقاومة، لا لكونهم مسيحيين ولا بالرغم من كونهم مسيحيين، وإنما لأنهم فلسطينيون فحسب، مسّهم ما مس غيرهم من الفلسطينيين وطالهم ما طال بقية قومهم من الطرد والتهجير والقتل والإنكار والتغييب، فحملوا مع بقية قومهم ما حملوا من عبء المقاومة والعناد وغرس الأظافر في الأرض.
رحل راهب المقاومة الوطنية الفلسطينية المطران «هيلاريون كابوتشي»، بعد ألفي وستة عشر عامًا بالتمام على ميلاد مسيح المستضعفين، فتى الناصرة عيسى، أو يسوع، لا يهم الاسم ما دام كان يقض مضاجع الملوك الطغاة والسادة المنعمين وكهنة الإفك، «الفدائي الأول» كما سماه وجهد لينبش عن أثر قدميه المتعبتين فيتبعه، وفي سبيل ذلك كان عليه أن يحمل نصيبه من الفداء سجنًا ونفيًا من الأرض.
تاريخيًا
عمد الغرب الاستعماري في خططه للهيمنة على المشرق العربي إلى خطة فصل ذات محورين: الأول هو فصل الساحل عن الداخل؛ أي تنمية الموانئ العربية وتحويلها إلى مراكز وحاميات لخدمة الجيوش الاستعمارية، وفصلها عن الداخل العربي الصحراوي وتركه يغرق في تخلفه وتناقضاته.
أما المحور الثاني لخطة الفصل الاستعماري فهو الفصل بقدر الإمكان بين طوائف المشرق العربي، خاصة بين طائفتيه الكبريين: المسلمين والمسيحيين، ومن ذلك أن فرنسا حصلت من السلطنة العثمانية على حق حماية موارنة الشام والكاثوليك في ولايات الدولة العثمانية ومنها فلسطين منذ عام 1535، كما حصلت روسيا على حق حماية الأرثوذكس منذ عام 1774، وأولت القوى الاستعمارية الأقليات المسيحية في المشرق العربي بعض العناية من أجل شراء ولائها.
لكن القطاع الأكبر من مسيحيي المشرق وفلسطين تنبّه لما في هذه الخطة من خطر كامن على هويتهم ودورهم، وبعد عام من الاحتلال البريطاني لفلسطين عام 1917، تشكلت جمعية أهلية في يافا بغرض التصدي لأطماع الهجرة الصهيونية، وانتخبت مجلس إدارة من اثني عشر عضوًا نصفهم من المسيحيين.
وفي العام ذاته – 1918 – حذا وجهاء القدس من المسلمين والمسيحيين حذو أقرانهم في يافا، وشكّلوا جمعية أهلية أرادوا تسميتها «الجمعية العربية الوطنية» إعلاءً للشأن الوطني على الممارسة الطائفية، لكن المفارقة أن السلطات البريطانية رفضت تسمية الجمعية بهذا الاسم، وأجبرت مسئوليها على تسميتها «الجمعية الإسلامية المسيحية»، حتى لا تضطر للاعتراف بحركة عربية فلسطينية، والمفارقة هنا تكمن في أن هذا الموقف قد فضح تظاهر البريطانيين بالعطف على المسيحيين والتفرقة بينهم وبين المسلمين.
ربما كان ما غيّب سيرة دور مسيحيي فلسطين في المقاومة هو قلتهم العددية الواضحة مقارنة بمسلمي فلسطين في الداخل والدول المحيطة، ونفورهم من فكرة تكوين فصائل مقاومة على أسس دينية – على غرار حركتي حماس والجهاد الإسلامي.
ثم إنهم كمسيحيين، في وسط ذي أغلبية إسلامية ساحقة، كان من الطبيعي أن ينتابهم بعض الحذر الذي يسمح لهم بالاحتفاظ والاعتزاز بانتمائهم المسيحي، لكنه في الوقت ذاته يمنعهم من المضي في إظهار التمايز عن الوسط المحيط، ويحد من رغبتهم في تشكيل حركة مقاومة على أساس ديني مسيحي.
أعلام
عند قراءة تاريخ العمل الوطني الفلسطيني المدني أو العسكري، تصادفنا أسماء عديدة لمسيحيين انخرطوا حتى النخاع في العمل المقاوم، مثل مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين «جورج حبش»، ورفيقه «وديع حداد»، ومؤسس الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين «نايف حواتمة»، وشاعر حركة فتح «كمال بطرس ناصر»، والمفكر القومي العروبي الدكتور «عزمي بشارة»، والدكتورة «حنان عشراوي» التي طالما لعبت دور واجهة الثقافة والدبلوماسية الراقية الفلسطينية.
وربما للاعتبارات التي ذكرناها آنفًا بشأن نفور المسيحيين الفلسطينيين من إعلان تمايزهم المذهبي، نجد أن معظم أعلام المقاومة الفلسطينية من المسيحيين كانوا من المنتمين للتيار القومي العروبي، وجناحه اليساري خاصة، مثل حبش وحداد وحواتمة.
بل إن القضية الفلسطينية، كونها تجسيدًا صارخ الوضوح للظلم والطغيان، اجتذبت مناضلين قوميين ويساريين من غير الفلسطينيين، وتجدر الإشارة هنا إلى نموذج الدكتور «رؤوف نظمي عبد الملك»، الشهير باسم محجوب عمر، القبطي المصري اليساري الذي التحق بالثورة الفلسطينية عام 1967 في صفوف حركة فتح.
رهبان المقاومة
في عديد الأزمان والأماكن، دعت الكهانة وخدمة المؤسسة الدينية أبناءها إلى الدعة والعزلة، بل والفساد واستغفال الرعية ونهب خيراتهم في حالات كثيرة ككهنة أوروبا في العصور الوسطى، لكن مسوح الرهبان الفلسطينيين لم تعزلهم عن الاشتباك مع العمل الوطني المقاوم بدرجاته، من إعلان الرفض لممارسات الاحتلال، إلى المشاركة في فعاليات المقاومة السلمية، وحتى المشاركة المباشرة في العمل العسكري نفسه.
تصادفنا هنا أسماء كثيرة ربما لم تنل ما تستحق من الاحتفاء لسبب أو آخر، مثل الأب إبراهيم جبر عياد، «فارس الكنيسة» كما سماه الراحل ياسر عرفات، والذي كان من أنشط من شاركوا في الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 – 1939، ومستشار منظمة التحرير الفلسطينية لشئون الفاتيكان وحلقة وصل المنظمة معها منذ عام 1973 حتى وفاته في 2005.
البطريرك ميشيل صباح، الرئيس السابق لأساقفة اللاتين بالقدس، رجل تضرب حيويته بعرض الحائط حقيقة كونه في العقد التاسع من العمر، لا يكل ولا يمل عن فضح ممارسات الاحتلال العنصرية، ولا يفتأ يُحذر مسيحيي فلسطين من الانسياق وراء مخططات إسرائيل الثعبانية للتمييز بينهم وبين المسلمين، خاصة دعاوى تجنيد المسيحيين من عرب 1948 للخدمة في الجيش الإسرائيلي.
أما واسطة عقد المقاومة الوطنية الفلسطينية المسيحية بلا منازع فهو الراحل المطران «هيلاريون كابوتشي»، سوري المولد، شارك في العمل المقاوم بأعلى مستوياته، عندما استغل صفته وسيارته الدبلوماسيتين في التعاون مع حركة فتح لتهريب السلاح إلى داخل الأراضي المحتلة، حتى كشفت أمره سلطات الاحتلال الإسرائيلي عام 1974، فقضت بسجنه 12 عامًا، لتفرج عنه بعد أربع سنوات وتبعده إلى الفاتيكان، التي قضى فيها أكثر من ثلث عمره بعيدًا عن موطنه ومهد المسيح أستاذه الأكبر، وإن لم يمنعه المنفى من الجود بما استطاع من جهده لخدمة القضية.
ولعل مما له دلالة أن ثلاثة من شهداء عدوان الرصاص المصبوب على غزة بين عامي 2008 و2009 كانوا من المسيحيين، الطفلة «كرستين الترك»، والشاب المقاوم «حنا سابا»، والمواطن الفلسطيني المسيحي «جريس العمش».
مسيحيو 1948
ورثت المؤسسة الإسرائيلية التقليد الاستعماري السقيم، القائم على تمزيق النسيج الاجتماعي للمستعمرات من خلال التمييز في معاملة بعض الفئات عن الفئات الأخرى، خاصة حين تكون تلك الفئات المستهدفة بالتمييز أقلية عددية، وفي هذا الإطار تبدي المؤسسة الإسرائيلية من حين إلى آخر بعض التودد الباهت تجاه مسيحيي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948.
ومنذ عام 2012، بدأت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حملة لترويج تجنيد المسيحيين في الجيش الإسرائيلي، وفي 2014 قدم وزير السياحة الإسرائيلي ياريف ليفين مشروع قانون وافق عليه الكنيست في مارس/آذار من العام ذاته، يقضي بتعريف العرب المسيحيين في بطاقات هويتهم باعتبارهم «مسيحيين» لا عربًا.
وبرّر ليفين ذلك بقوله صراحة «هذا التشريع سيمنح تمثيلًا منفصلًا للمسيحيين وتعاطيًا منفصلًا معهم، بعد فصلهم عن المسلمين، وهذا القانون خطوة تاريخية من شأنها أن تربط بين إسرائيل والمسيحيين، وأنا عمدًا لا أسميهم عربًا؛ لأنهم ليسوا عربًا».
لكن الوجه الحقيقي للمشاعر الإسرائيلية، الذي لا يُفرّق بين مسلم ومسيحي، يفصح عن طبيعته في حوادث كراهية نمطية متكررة ضد المسيحيين من جانب إسرائيليين ومستوطنين متحررين من قيود الموقف المؤسسي الرسمي، تصل إلى حد المطالبة بطردهم خارج إسرائيل، في ظل صمت يرقى إلى التواطؤ من جانب الحكومة الإسرائيلية إزاء مرتكبي تلك الحوادث.
وبعد، فإن التودد الإسرائيلي الزائف لمسيحيي أراضي 1948 لا يخدع أحدًا، وفي مقابل حملات الدعوة لتجنيد المسيحيين اختياريًا في الجيش الإسرائيلي، انطلقت حملات مسيحية مضادة ترفض هذا الأمر وتحرّض المسيحيين من عرب 1948 على رفضه، بل إن بطريرك الكنيسة اليونانية في الناصرة ثيوفيلوس الثالث أقال الكاهن جبرائيل ناداف من عمله الكنسي بسبب تعاونه مع السلطات الإسرائيلية في الترويج لحملة تجنيد المسيحيين.
اقرأ أيضًا: عيسى أول الثوار: مسيحيون قادوا النضال الفلسطيني