قابلت «يوسف إدريس» للمرة الأولى في أثناء دراستي في الثانوية العامة.

في الحقيقة لم أقابل الرجل شخصيًا، فقد كان يعيش في مكان آخر، وأكثر من هذا، فقد مات حتى قبل أن أولد. وأعتقد أنه لو حدث، وقابلته بشكل ما، في سيناريو عشاء مُتخيّل، فالغالب أني سأكرهه. ما أود قوله هو أني قابلتُ صورته على غلاف أحد الكتب المتعلقة بالدراسة (وجه باسم، أتذكر – عينان ملونتان، أخمن) وفي داخل الكتاب كانت، ضمن المنهج المقرر، قصته القصيرة «نظرة»، القصة الثانية من مجموعته «أرخص ليالي».

نُشرت «أرخص ليالي»، أول أعمال إدريس، عام 1954. قصصها إحدى وعشرون، تمتُ بصلة إلى حياة القرية (يحلو للبعض ربط ذلك بالبراءة)، وتحدث، غالبًا، في حقبة ما قبل 1952. تلتزم القصص بالشكل الكلاسيكي، كما عند دي موباسان وتشيكوف (قصص مثل: على أسيوط – ع الماشي – الأمنية – مظلوم، تذكرنا باسكتشات تشيكوف الكوميدية في بدايته) لكن، ومع ذلك، فهي قصص مصرية أولًا وأخيرًا، بمفردات وحبكات مصرية، وهي بمصريتها هذه تدفع شخصياتها إلى مصير قاتم.

فمن أهالي قرية تستعبدها جماعة غريبة من الناس، إلى مُشغّل مكنة طحين يختلف مع مالكها فيتركها. ومن مُدرس كمبنى آيل للسقوط يحصل على تربيتة مواساة، إلى شيخ يُصلّي الجنازة على رضّع موتى ويتلقى الأجر بالمقابل. نجد إدريس وقد اختار شخصيات قصصه من الواقع، لكنه واقع يستوي على الهامش، فتظهر الشخصيات يلوكها الفقر والضيم، وحيدة وموغلة في عزلتها حتى بين الناس.

إنهم رجال كبار لكنهم حيارى كأطفال أمام ما يعترضهم، يومض أمل في رؤوسهم سرعان ما يخبو، وتنفتح أمامهم نافذة سرعان ما تنغلق، واليوم ينتهي ليبدأ آخر، أو كما يكتب إدريس في قصة «في الليل»:

الناس تُولد وتكبر ثم تموت، والبقرة تدور في الساقية مُغمّاة لا تدري أين تسير… لا جديد في حياتهم ولا طريف.

لا تحكي هذه الشخصيات قصصها بنفسها، بل يتركون أياديهم الخشنة والمتشققة لإدريس ليسحبهم إلى بقعة الضوء، فيقفون مطأطئي الرؤوس في خجل بينما يتولى هو الحديث نيابة عنهم.

فالقصص تُروى من منظور راوٍ عليم، عدا أربع (نظرة – الشهادة – 5 ساعات – مظلوم) فيحكيها راوٍ متكلم (رجل وغالبًا طبيب)، لكن طريقة التناول واحدة حتى لنخمن أن اسم الراوي في الحالتين هو يوسف إدريس. جلس جوارنا ذات مساء على كرسي بالمقهى وصار يحكي مشاهداته وما سمع، يحكي، بحسب تعبير «إيتالو كالفينو»، قصصًا حدثت ليس له ولكن للآخرين، مُقرِّبًا سرده من حيوية ما يتكلمه الناس، مازجًا فصحى سلسة وبسيطة بمفردات عامية وناقلًا الحوارات كما التقطها من على ألسنة قائليها.

وبسبب هذا عاب كثيرون على إدريس، ومنهم طه حسين الذي أعجبته المجموعة ومع ذلك تمنّى لو كان إدريس قد بسط سلطان الفصحى على شخصياته. لكن هل كان بمقدور إدريس أن يفعل ذلك؟ إنه حين يدع شخصياته تتكلم كما تريد كأنما يعوّضها عن أنها لا تحكي حكايتها بنفسها. إنه يقف في صفّها، ويتحيّز لحضورها حين يختار أن يلتزم بكلامها البسيط الجاري على الألسنة بالخارج.

دفء الشعور بالكائن البشري

ليست القصص، بأي طريقة، قصصًا مثالية –أيًا يكن معنى هذا. فبعضها لا تبدو كقصص أصلًا، وبعضها تبدو مبتذلة ومتوقعة ومجرد معبر لفكرة ما، غارقة في الميلودراما والقومية، وما يمكن أن يُصنف بسهولة تناولًا سطحيًا للمرأة. وقد كتب إدريس لاحقًا قصصًا أفضل (أيضًا قد كتب قصصًا أسوأ بمراحل). لكن، ومع كل هذا، يظل هناك هذا الصدق على سطح جدول من الحزن يشق كل قصة ممتزجًا بسخرية لاذعة، وأيضًا يظل هذا القلب النابض البريء والطفولي، في جوف تلك القصص الأولى التي كتبها، قلب قد يخطئ أحيانًا، هذا صحيح، لكنّه حين يصيب فإن التأثير المرغوب يكون مُجزيًا.

إن أفضل القصص في المجموعة هي ما تخلع، أو لأكون دقيقًا: هي ما «يمكن أن تخلع»، كل شيء عنها، فلا يتبقى غير دفء الشعور بالكائن البشري وحالته في تلك اللحظة المعينة، حين يتراجع يوسف إدريس عن كل أحاديثه الجانبية وحين يتوقف عن مطالبتنا بشعور محدد وطريقة معينة في التفكير، حين يستمع إلى وشوشات شخصياته وإيماءاتِهم، وحين يتوقف في الطريق من أجل اكتشاف رائع على جانب. يظهر ذلك في قصص مثل: «مشوار»، و«بصرة»، و«في الليل»، وهي قصص، أولًا وأخيرًا، عن رؤية، أو العجز عن رؤية، الآخر.

ففي قصة «مشوار» نتابع عسكريًا قرويًا يقبل باصطحاب إحدى نساء قريته، ليسلّمها إلى مستشفى للأمراض العقلية، فقط لأنها فرصة ليرى المدينة، ولـ «يرى مصر مرة أخرى ويتفسّح فيها ويركب الترام ويُقابل الإخوان والأصحاب». لكن ما كان مهمة تُنجز بسهولة ويسر سرعان ما انقلب -بسبب أفعال المرأة من ناحية والروتين الحكومي من ناحية أخرى- إلى جحيم من ساعات طوال. فيتراكم شيئًا فشيئًا في العسكري الغضب والحنق على المرأة، بل يصل به الأمر في النهاية إلى أن يضربها.

ولكن حين تأتي اللحظة التي يراها في قميص الكتاف ويحرر الطبيب أخيرًا استمارة الاستلام، نجده وقد «شعر بشفقة غريبة تدب في نفسه وهو يراها تتدحرج وتخبط رأسها في الأرض وتتلوى»، إنه عند ذلك كما لو كان قد رأى المرأة لأول مرة حقًا: «مجنونة، وأنها لا تفقه مما تقول حرفًا، وليس لها ذنب فيما قاساه، ثم أنها لم تأكل وما شربت وهي معه». بهذا يتحول المشوار من مجرد الذهاب للمدينة إلى رحلة لهذا التعاطف الوجداني الغريب الذي انبثق فيه فجأة، والذي يبدو وكأن القصة كانت تحتشد له منذ البداية، ليتبقى أثره فيما بعد، فها هو العسكري يتخلّى عن رؤية المدينة «وقد شبعت نفسه من مصر والدنيا»، وكان «حين يلمح كفّه التي ضربها بها فيقشعر بخجل لم يحسه في حياته».

الأمر نفسه يتكرر في قصة «بصرة»، حيثُ الحدث لعبة كوتشينة في مقهى، وخصمان يلعبان بأجرة يومهما كلها على المشاريب، وأمل الواحد منهما أن «يخرج من اللعب سليمًا وأن يقضي السهرة ويسقي المشاهدين وأصحابه على جيب الآخر، ثم يتندر بانتصاره أمام الروّاد لأسبوع أو أسبوعين». هؤلاء الروّاد الذين جلسوا يراقبون في تسلية هذه المعركة، التي تجعلها قواعدها المعروفة للجميع، لا تنتهي. لا غالب نهائي ولا مغلوب، ينتهي الدور فيبدأ جديد، ويحملق كل لاعب في أوراقه ويتشنج ويغذي عداوته على الآخر.

كم هي تافهة وغير مجدية اللعبة، لا يستفيد منها الخصمان ولا الجمهور من الروّاد. المستفيد الوحيد هو صاحب المقهى، يمتص من الخصمين القروش الضئيلة التي في حوزتهم، في صورة مشاريب لا يحتاجانها و«تأمين» متعسف على اللعبة، حتى يصير الواحد منهما أبيض ليس معه شيء، ومع ذلك يجد طريقة كي يستمر في اللعب، حتى بعد انسحاب الروّاد، وحتى بعد رحيل صاحب المقهى، وحتى بعد نوم صبي المقهى على دكة في الجوار، وحتى بعد انزواء لهيب اللمبة والنهار التالي على وشك الطلوع، يلعبان.

لا يرى أحدهما الآخر بطول القصة، فكل ما يراه هو العلامات على أوراق الكوتشينة في اللعب وكل ما في رأسه هو حساب ما يتبقى في كومة اللعب من أمثالها. وحين يعود صاحب المقهى ويطردهما (حيث لم تعد منهما فائدة) فيجر كل منهما نفسه جرًا، «وعيناه مطفأتان محمرتان فيهما تعب مريض وقد تجمعت نقط بيضاء على أركانهما»، حتى ليتخيلهما القارئ يسيران متلاصقين جنبًا إلى جنب، ما زالا يفكران في أوراق اللعب و«طوابير من العشرات الطيبة والأولاد والبصرات»، لكن يبدو كما لو كانت أفكارهما، حين يميل أحدهما من التعب فيسند صاحبه دون أن يعرف، تنسكب في وعاء واحد، فيشعران ويفكران سويًا في أشياء أخرى: البيت والأهل في الانتظار، المسئولية، القلق من الغد والطفولة البعيدة. فيرى الصاحب ما عند صاحبه، لوهلة، لأنهما هما أيضًا متشابهان: بصرة.

أما قصة «في الليل»، القصة الأخيرة في المجموعة، فهي أغنية حزينة بطلها عوف أفقر رجل في القرية، يركن في آخر يوم من التعب بحثًا عن ثمن كيلة ذرة، إلى جماعة من الأصحاب تحلّقوا في ليل جميل، «لأن ليس فيه عمل ولأن فيه راحة وجلوسًا». لقد كانوا هم أنفسهم متعبين وحياتهم صعبة، وينتظرون عوف، لأنه يُضحِكهم حين يتكلم، دون أن يقول بالتحديد شيئًا مُضحكًا، وحين «يسخر من كل شيء، من الناس ومن نفسه ومن الحياة التي يحيونها»، ينسون أنفسهم وينسون حياتهم، و«يضحكون لحاضرهم ويختزنون ضحكات أخرى للمستقبل».

إنها تنويعة على قصة «غريمالدي المهرّج»، الذي يُضحِك الناس لكنّه غارق في الحزن، إلّا أن عوف المهرج، وإن كان لا يضحك مثلهم، ذلك الضحك الذي هو كالبكاء، فإنه ينسى نفسه هو الآخر، «وقد أعجبه ما أشاعه فيهم من ضحك وحياة». إنهم ليسوا بعميان عن مأساته، وليس عوف بأعمى عن أيديهم القصيرة، لقد عاشوا هذه الليلة مئات المرات وسيعيشونها مُجددًا ومُجددًا، وليس هناك حل ولا عزاء، سوى هذه الضحكات المختلسة وهذا النسيان القصير.

النظرة التي اختلسها إدريس

يعترف إدريس لاحقًا في حياته، ربما إثباتًا لنوعٍ من الأصالة، أنه لم يكن قارئًا كما يُتوقع منه أن يكون. «لقد جرت العادة أن يقرأ الكاتب قبل أن يبدأ مرحلة الكتابة»، يقول إدريس:

لكنني أحسستُ أني أحب القصة القصيرة حبًا لا يفسره كم القصص التي قرأتها.

فكانت ورشة الكتابة خاصته هي الاتجاه إلى الكائن الحي و«البحث داخلي، وداخل دائرة الأصدقاء والمعارف المحيطة بي»، فيتحدث عن فترة عامين حيث كان «يتأمل الناس وهم يمارسون حياتهم اليومية، مُحاولًا استخلاص السمات الرئيسية للشخصية المصرية».

إن إدريس، وهو الشاب المتجول في أرضٍ جديدة، قد توكأ على الانطباع، وبدوره الانطباع يرتكز على النظرة، التي بسبب حمرة الأظافر والماضي وشك ما قبل التحقق، وبقدر من الويلزية (نسبة إلى أورسن ويلز)، لم تخيّب أمله.

قُوبلت المجموعة وقت نشرها باحتفاء نقدي، وصار الكاتب الشاب ذو السبعة والعشرين عامًا نجمًا ثقافيًا. سيكتب إدريس في فنون أدبية أخرى، سيدخل في معارك أدبية وسياسية وسيرتبط اسمه بالمؤسسة (وقد وصلت قصته «نظرة» إلينا كطلّاب عن طريق المؤسسة)، وفي نهاية حياته سيترك القصة لصالح المقال، سيطلق الناس عليه أمير القصة العربية وسيقول آخرون إنه لن يبقى من قصصه وأثره غير القليل – وهو الأقرب إلى الحدوث عامةً.

أيًا يكن، فإنني حين أفكر في يوسف إدريس أُفكر في تلك النظرة: النظرة التي اختلستها البنت العاملة من أطفال يلعبون الكرة، والتي يتذكرها أغلب منْ هم في سني، لكن أيضًا، النظرة التي اختلسها إدريس من الحياة من حوله، وسكبها بكل صدق في أرخص ليالي، وبرغم أنها انكسفت لاحقًا تحت نظرات أخرى أكثر ثقة وخيلاء، إلا أن المرء لا يستطيع أن يتجاهل تلك الاحتمالات الرائعة التي نتجت عن الثقة الكاملة فيها. فكل ما على الفرد أن يفعله ليحكي، مهما كانت القصة التي يريد أن يحكيها، هو أن ينظر ويسمع، ثم ينصت لصدى ذلك داخله، غير ممسوس بشيء ويحوي ما هو حقيقي وصادق بالنسبة له. وهذا كل شيء، حتى وإن كانت تنقصه الأدوات، خاصةً وإن كانت لا تنقصه الأدوات.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.