المقبرة
على مدى آلاف السنين ظل البشر يهابون الموت ويقدسونه، وظل للمقابر احترامها، منهم من اعتبرها ذكرى لألم مضى حين فُقد أصحابها، ومنهم من اتخذها عظة وتذكرة، غير أن الجميع قد اتفقوا على التعامل مع الأمر بصورة إنسانية. لكن يبدو أن العالم يحمل في طياته لحظات أخرى تجرد فيها أصحابه من مشاعرهم وتخلوا عن بشريتهم فقط لينتقموا من أناس قضوا نحبهم منذ عقود وربما قرون.
دعوني أصحبكم في رحلة حزينة عبر التاريخ، نتجول فيها في أماكن مختلفة من الأرض على اتساعها، ونتعرف سويًا على مقابر للمسلمين لم تسلم من جرائم التخريب والنبش والسرقة. حتى إن الانتهاكات وصلت في بعض الأحيان إلى محو مقابر بأكملها. وكما طالت هذه الجرائم مقابر العامة طالت أيضًا مقابر عظماء خلد ذكراهم التاريخ.
لم يكن مسلمو الأندلس مجرد قوم فتحوا البلاد وعاشوا فيها ثم طردوا منها وانتهى كل شيء، بل هم قوم أشعلوا فيها جذوة حضارة عظيمة فتية أضاءت دروب أوروبا المظلمة. لم يخطر ببال أحد من الأندلسيين يومًا أن رُفَاته الراقدة في سلام ستكون بمثابة أساس صلب لمجمع سكني يومًا ما.
في مدينة آبلة الأسبانية يبدو كل شي هادئًا، المدينة مثلها كمثل أغلب المدن الأوروبية، الحياة تسير وتمضي كعادتها، والأحياء لا يتوقفون ذهابًا وإيابًا داخل ذلك الحي المأهول بسكان ينتمون إلى الطبقة الوسطى في إسبانيا، الأمور تبدو وكأنها عادية جدًا؛ أشجار وبنايات بينها ممرات تتخللها حدائق صغيرة وتزينها الزهور البديعة، بيد أن المؤسف في الأمر أنه منذ وقت غير بعيد كان يوجد هناك تحت تلك البنايات مقبرة تعود إلى العصر الإسلامي الأندلسي.
لقد كان بديهيًا مع السياسة الدموية الآثمة التي انتهجتها السلطات الكاثوليكية ضد مسلمي الأندلس عقب السقوط المتتالي لدويلاتهم الواحدة تلو الأخرى أن تنزوي تعاليم الإسلام شيئًا فشيئًا من حياتهم، وأن يصير أغلبهم – مع اشتداد المحنة وتعاقب الأجيال – غريبين عن دينهم وعن عاداتهم. إلا أن اكتشاف مقبرة ضخمة للمسلمين في مدينة (آبلة)، والتي تُعد معقل التصوف المسيحي في إسبانيا ومن أوائل المدن الأندلسية سقوطًا، ضربت بهذه الحقائق عرض الحائط.
تشير الرواية الرسمية إلى أن التواجد الإسلامي في مدينة آبلة لم يكن نافذًا، حيث شكل المسلمون المتواجدون فيها مجموعات من أسرى غزوات الممالك المسيحية الشمالية، وآخرون فارون من حكم المرابطين الذين أسرفوا في إراقة دماء كل من يخالفهم أو من يشك في ولائه لهم، لكن تعددت الدراسات التي أثبتت أن هناك جالية إسلامية مزدهرة عاشت في المدينة بعد سقوط الحكم الإسلامي وفي الفترة التي عرفت بعصر «المدجنين»، والمدجنون هم مسلمو الأندلس الذين عاشوا في ممالك مسيحية إلى أن أكرهوا على التنصر أو الرحيل.
تم التثبت بالوثائق أن المدجنين في هذه المدينة كانت بينهم وبين القوى الإسلامية المتمثلة في غرناطة والشمال الإفريقي في ذلك الوقت تواصل مستمر. وقد ترك هؤلاء الأندلسيون بصماتهم المعمارية بامتياز في المدينة التي عاشوا وماتوا فيها ودفنوا فيها على الشريعة الإسلامية، حيث أجمعت الحفريات على تواجد رفات الموتى على عمق بعيد من سطح الأرض، كما أن المتوفين مستلقون على جانبهم الأيمن وباتجاه مكة المكرمة.
وقد توقف الدفن في المقبرة الإسلامية في أوائل القرن السادس عشر بموجب قرار من السلطات الكاثولكية، واعتبر كثير من الباحثين الإسبان المختصين بدراسة التاريخ الإسلامي في المدينة وجوب الحفاظ على هذه المقبرة كتراث وكنز تاريخي، وشاهد على تعايش الأديان تحت سماء تلك المدينة، وباعتبار أنها أيضًا على الأرجح أكبر مقبرة إسلامية في أوروبا من حيث عدد القبور؛ حيث حدد الباحثون عقب اكتشاف المقبرة عام 1999م أنها تضم حوالي ثلاثة آلاف قبر في مقابل خمسين قبرا وجدت في بلد الوليد على سبيل المثال، إلا أن السلطات الإسبانية والشركات العقارية لم يكن لديها من رهافة الحس ما يكفي للحفاظ على هذا الشاهد التاريخي الذي كان يصدح بما كان يجهله السكان الحاليون من تاريخهم فطمست المقبرة بين ليلة وضحاها ولم يتبق من أثرها سوى بعض الصور الأرشيفية، وبعض البقايا المهملة الملقاة في مستودع متحف المدينة، وأخرى نقلت للجامعة للدراسات الأنثروبولوجية.
كل هذا وسط صرخات مدوية ضل صداها طريق العودة من المدافعين عن التراث الإسلامي… إنها جريمة فادحة لن يغفرها التوسع في العمران، ولا روعة البنايات، ولا نسيم الزهور المنبعثة من الحدائق التي تغذت على رفات أجدادنا الأندلسيين.
ومن فردوسنا المفقود إلى شامة الدنيا… فلم يكن غريبًا أن تحتضن ياسمينة الشام دمشق، محط الأنبياء، وبلد الأولياء جثمان الفارس النبيل صلاح الدين.
وبرغم انبهار الأوروبيين بشخصية صلاح الدين الكاريزمية، وإعجابهم بها أيما إعجاب، ونسجهم حولها الأشعار والأساطير، إلا أن مرور مئات السنين على وفاته لم يمنع أفعى الحقد والثأر من التسلل إلى قلوب الصليبيين الجدد، وكيف لا وقد كان صلاح الدين طعنة في قلوب الأعداء بعدما كان العالم الإسلامي يعيش مرحلة من أصعب المراحل التي مر بها، وقد غلب عليه الانقسام والتشرذم والضعف والتخاذل، وبدا أن ليل المسلمين ليس له آخر.
جاء صلاح الدين على حين غرة ليكون بمثابة الصفعة المهلكة، فاسترد القدس بعد حوالي مائة عام من الأسر، وأجهز عليهم بالضربة القاضية حين دخلها منتصرًا، فأغدق على النصارى من الكرم والمروءة والنبل ما جعلهم ينقشون اسمه على صفحات قلوبهم.
مئات السنين وقادة الإفرنج يجترون غيرتهم من صلاح الدين، مئات السنين وجرح الصليبيين في حطين لا يندمل. كانت خطوات الثأر ثابتة وفق خطة تمت حياكاتها بإحكام، وتعاقبت الأجيال عازمة على تنفيذها مهما مر الزمان. جنى الصليبيون أولى ثمار هذه الخطة حين نجحوا في دق المسمار الأول في نعش الدولة الإسلامية بعد أن وجه العرب الطعنة الكبرى بأيديهم إلى دولتهم الموحدة، وفتتوها إربًا خلال الأحداث التي عرفت بالثورة العربية.
لم يأل توماس إدوارد المشهور بلورانس العرب جهدًا حين كان يؤكد في كل سطر دوّنه من مذكراته كم الحقد والكراهية والاحتقار التي كان يضمرهم لهؤلاء العرب، وكيف استخدم الدهاء والترغيب ليتحايل على هؤلاء السُذج الضعفاء بسطاء القلوب –على حد تعبيره- وكيف قام بتحويلهم إلى أدوات تم استخدامها بذكاء لتوطيد مخطط بريطانيا الاستعماري في المنطقة. كل هذه الأحداث الملتهبة لم تثن هذا اللورانس، من أن ينتزع الإكليل الذي كان يزين قبر صلاح الدين الأيوبي.
وكان هذا الأكليل قد أهداه الإمبراطور الألماني فيلهلم الثاني لروح القائد الشهم صلاح الدين تقديرًا منه لسياساته العسكرية، وكونه رمزًا يجسد نبل أخلاق الفروسية، وكان ذلك في عام 1898م أثناء زيارته لمدينة دمشق تلبية لدعوة قدمها إليه حليفه السلطان العثماني عبد الحميد الثاني.
سنوات عجاف مرت بعدها على أمتنا الإسلامية انتهت بانتزاع دمشق من الدولة العثمانية لصالح بريطانيا وانتزاع أكليل صلاح الدين. وقد كان لورانس من الولاء والأخلاص لوطنه حتى أنه أهداه في 11 نوفمبر 1918م إلى المتحف الحربي البريطاني وما زال مستقرًا هناك إلى يومنا هذا. وما يزيدنا حسرة ذلك الملصق المجاور للإكليل وقد دوّن عليه «إكليل صلاح الدين، يبدو أن الملك فيصل قد أهداه إلى لورانس عقب دخول دمشق»، ومن دون خجل تم تدوين ما يفيد أن مستند الإيداع الأصلي للإكليل والذي قدمه لورانس بنفسه قد ذُكر فيه «هذا الإكليل انتزعته بنفسي فصلاح الدين لم يعد بحاجة إليه»!
وبقدر ما كانت انتصارات صلاح الدين موجعة للصليبيين بقدر ما كان ثأرهم منه مضاعفًا، ففي عام 1920م بعد سنتين من واقعة سرقة الإكليل، وعقب إتفاقية سايكس بيكو الملعونة والتي بموجبها أصبحت سوريا من نصيب فرنسا، لم يفت الجنرال الفرنسي هنري غورو قائد معركة ميسلون فرصة الثأر من صلاح الدين، وحينما دخل الفرنسيون دمشق في اليوم التالي لخسارة الجيش العربي السوري للمعركة حرص قائدهم على الذهاب إلى قبر القائد صلاح الدين الأيوبي للتشفي، ووقف أمام ضريحه ليفلت لسانه بما يجيش به قلبه الحاقد دون تفكير فقال «ها نحن عدنا يا صلاح الدين».
عودة إلى الأندلس مرة أخرى، وبالتحديد في مدينة سالم، حيث لم يكن القائد الأندلسي الكبير المنصور بن أبي عامر أوفر حظًا من صلاح الدين الأيوبي، إنه القائد العسكري الفذ الطموح الذي سيطر على مقاليد الأمور في الأندلس بعد أن كادت تفلت من أيدي المسلمين عقب وفاة الخليفة الحكم المستنصر وتولي ولده الصبي هشام، فكانت الفرصة سانحة للإفرنج فنقضوا العهود والمواثيق، واستباحوا الثغور الأندلسية، فقيض الله للأندلس قائدًا مثل المنصور ليكبح به زمام ملوك النصارى بعد أن تمادوا حتى كادوا يصلوا إلى قرطبة عاصمة الخلافة الأموية في الأندلس.
لم يكن قد مر زمن طويل على انتقال روح المنصور إلى بارئها إلا أن صدى انتصاراته وارتعاب ملوك النصارى منه ظل يتردد في أجواء الأندلس ليشعل فتيل الثأر حتى بعد مماته بنحو ثمانين عامًا. ويروي شجاع مولى المستعين بالله أحمد بن يوسف بن هود حاكم سرقسطة في عهد ملوك الطوائف، أنه لما ذهب لملاقاة ملك النصارى ألفونسو السادس وجده في مدينة سالم وقد أقام خيمة كبيرة نصب فيها سريره فوق قبر الحاجب المنصور وزوجته متكئة إلى جانبه، فقال له: يا شجاع، أما تراني اليوم قد ملكت بلاد المسلمين وجلست على قبر مليكهم ؟! فأجابه شجاع وقد حملته الغيرة ليقول له: والله لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سُمِعَ منك ما يكره سماعه، وما استقر بك قرار.
فهمّ به وكاد يقضي عليه لولا أن زوجة ألفونسو حالت بينه وبين شجاع، وقالت له: صدقك فيما قال، أفيفخر مثلك بهذا ؟! فأنى للإفرنج أن ينسوا من سن سُنة الصوائف والشواتي في بلاد الأندلس، كيف لهم أن يتناسوا من جعلهم ينحون جثث موتاهم جانبًا ليفسحوا له الطريق ليرحل بعد أن اشترط عليهم ذلك.
وبرغم جريمة ألفونسو وقبيح فعله فإنه حق للمنصور أن يهنأ ويرقد بسلام مطمئنًا تحت عرش ملوك النصارى بعد أن غزاهم أكثر من 54 مرة فلم تُنكس له راية ولم تهلك له سرية ولم ينهزم له جيشٌ قط.
هناك قصة أخرى مشابهة لكنها تبدو أشبه بالفكاهة، ففي مدينة سوغوت التركية يرقد جثمان أرطغرل الجد الكبير للسلاطين العثمانيين، الرجل الذي غير خارطة العالم فجعل من مائة أسرة تسكن أربعمائة خيمة نواة لإمبراطورية عظيمة حكمت العالم قرابة خمسة قرون.
تحمل اللوحات الإرشادية المعلقة داخل البناء الذي يضم قبر أرطغرل تفسيرًا لتلك الثقوب المخترقة لبوابة المقبرة ونوافذها؛ فيبدو أن اليونانيين كانوا يخشون #قيامة_أرطغرل بحق فأمطروا قبره بوابل من الرصاصات الحاقدة أثناء هجومهم على المدينة خلال الحرب اليونانية التركية عام 1921م.
أما القصة العجيبة فهي تلك التي تخص هؤلاء المساكين الذين قادهم القدر لأن يكون مثواهم الأخير على أراضٍ لا ينتمون إليها، فخلال الحرب العالمية الأولى وجد المشارقة المسلمون في صفوف الجيوش العثمانية أنفسهم في مواجهة قاسية مع هؤلاء الذين جندتهم فرنسا قسرًا من أبناء المغرب الإسلامي في خلال فترة الاستعمار لتزج بهم في الصفوف الأمامية.
وليس أتعس من أولئك الذين قادتهم فرنسا إلى أراضيها ليشاركوا في حروبها ضد الألمان (الحرب العالمية الأولى والثانية) فقضوا ودفنوا هناك، ولا يكاد يمر عام دون أن تسجل أكثر من واقعة لتدنيس مقابرهم بأقذر الطرق تتدرج من رسم صلبان معقوفة، أو كتابات مسيئة للإسلام والمسلمين، مرورًا بأعمال هدم وتخريب، وانتهاء بالتبول على القبور، وتعليق رؤوس خنازير على شواهد تلك القبور.
عمل همجي واحد يروي لنا القصة باختصار. إن هؤلاء المخربين من الفرنسيين لا يجدون أي غضاضة في رسم علامات النازية على شواهد هذه القبور بل وكتابة عبارات تمجيد لهتلر الذي أذاق فرنسا الأمرين في الحرب العالمية الثانية فقط لكون هتلر قد قتل هؤلاء المسلمين بالرغم من أنهم حينها كانوا يحاربون ضمن صفوف الفرنسيين.
قد تبدو تلك الحوادث منطقية بعض الشيء وسط عالم تسوده الصراعات، ويتملك سكانه الحقد والكراهية، لكن يبقى كل هذا مفهومًا إذا ما كان أبطال هذه المعارك والصراعات جميعهم من الأحياء، أما وأن يمتد هذا إلى المقابر… فلا عزاء!