تأثير المُتفرِّج: كيف اختفت الشهامة؟
بالتأكيد في رحلتك أثناء تصفح مواقع التواصل الاجتماعي صادفت أحد تلك المقاطع الشهيرة، والتي يمر فيها أحد الأشخاص بموقف عصيب أو خطير على مرأى ومسمع من عشرات بل مئات الأشخاص أحيانًا، بدون أن يقوم أحدهم بالتدخل، فلمَ يحدث هذا تحديدًا؟
أيُعقل أن يجتمع هذا العدد من الأشخاص عديمي الشهامة في مكان واحد بدون أن يكون بينهم شخص واحد فقط جيد؟
لعل علم النفس الاجتماعي أصبح قادرًا على تفسير هذه الظاهرة بشكل أفضل من كلمة «انعدام الشهامة»، تُدعى هذه الظاهرة بـ «تأثير المتفرج» أو (Bystander effect)، وفي هذه الظاهرة يقوم المتفرجون بدور محوري.
لقد أثارت هذه الظاهرة موضع تساؤل في الأوساط العلمية، وذلك لما سببته من هلع وذعر لدى من سمع بالحادث التالي:
في عام 1964 كانت هناك فتاة تدعى «كيتي جينوفيز». قُتلت جينوفيز أمام منزلها في الساعة الثالثة فجرًا. وإلى هنا لعلك تتساءل ما الذي يجعل تلك الجريمة تحديدًا مميزة؟ وجود السفاحين والقتلة وحوادث قتل واغتصاب النساء ليست بالشيء الجديد حتى في ستينيات القرن الماضي، ولكن الأمر لا علاقة له بالجريمة نفسها. المرعب في الأمر أن جريمة قتل جينوفيز كان عليها 37 شاهِدًا حاضرًا في وقت ارتكاب الجريمة، وفقًا للخبر التي قامت جريدة New York Times بنشره.
كانت جينوفيز تصرخ لما يزيد عن نصف ساعة من عدد الطعنات التي تلقتها، ومن محاولاتها البائسة لمقاومة قاتلها/مغتصبها، ولكن بالطبع بدون أي نتيجة تُذكر. لعل الأمر يزداد سوءًا حين تعرف أن هناك أحد الأشخاص بالفعل صرخ من نافذة شقته: «دع الفتاة وشأنها»، مما أصاب القاتل بالهلع وتركها بالفعل، لكنه سرعان ما أدرك أن أحدًا لن يأتي من أجل تلك المسكينة فعاد ليكمل ما بدأ.
وحينما يكون عنوان جريمة قتل: «37 شاهد عيان على جريمة قتل ولا أحد يتصل بالبوليس»، يمكن أن تحصل على اهتمام كبير من الوسط العلمي، وبالتحديد الأوساط المتخصصة بعلم النفس وعلم الاجتماع، والتي ظلت عاكفة على دراسة هذه الظاهرة لسنوات، وقامت بالكثير من التجارب لسنوات، حتى مع ظهور بعض الشواهد التي تُشكِّك في دقة عنوان وتفاصيل الخبر.
وبعد سنوات من الدراسة، خرجت علينا الفرضيات التالية:
1. احتمالية تدخل الأشخاص في الحوادث من حولهم يتناسب عكسيًّا مع عددهم:
يعني هذا أنك لو أُصبت بنوبة قلبية في غرفة بها حوالي 70 شخصًا، فإن هذا لا يعني على الإطلاق أنك ستتلقى سبعين مساعدة. بالعكس، ففي أغلب الظن لن يتطوع لمساعدتك أحد إلا بعد لحظات أو ربما دقائق، حين يتأكد الجميع من أن أحدًا لن يساعد. حينها فقط لربما تنهال المساعدات على رأسك بعد أول مساعدة تتلقاها.
في حين أنك لو بغرفة بها شخص واحد فقط وأصبت بنوبة قلبية، فإن احتمالية أن يقوم هذا الشخص بالمساعدة تزداد عن 90%، لأنه يُدرك أنه لا يوجد طريقة أخرى لمساعدتك على النجاة غيره هو، وهو ليس في انتظار النجدة على هيئة شخص آخر، بل هو يعلم أنه هو النجدة.
2. تأثير المتفرج بمثابة عقد اجتماعي لا يجرؤ أحد على خرقه:
لو رأيت غريبًا مُلقى على جانب الطريق، بشكل لا يمكن عدم ملاحظته، فإن عقلك فورًا سيعتقد أن هناك سببًا قويًّا لعدم تدخل هذا العدد الكبير من الأشخاص؛ إما أنهم يعرفونه مثلًا ويعرفون أنه لص ومحتال، أو أن أحدًا حاول مساعدته وهو الذي قام بالرفض، أو أن النجدة بالطريق فعلًا ولا حاجة للتدخل.
ستفكر بأي الاحتمالات الواردة التي تجعل هذا العدد الكبير من الأشخاص مُحجِم عن التدخل، وهنا ستوافق على شروط هذا العقد الاجتماعي بعدم التدخل، حفاظًا على سلامتك من المجهول، وإذعانًا لشروط هذا العقد الاجتماعي، الذي ليس لديك فكرة عن تبعات خرقه.
لن تتخيل أنه بالفعل ملقى هكذا بدون مساعدة بدون تدخل أو حتى نية لذلك. ولنفس السبب لن تقوم بالتدخل أنت الآخر. فتأثير المتفرج يُعد بالفعل بمثابة «عقد خفي» قائم بين مجموعة الأفراد في حيز وجود الشخص المُصاب بالأزمة، أهم بنود هذا العقد:
3. المساواة ليست مبدأنا
إن احتمالية تدخل الأشخاص للمساعدة تزداد بشكل ملحوظ إذا ما كان الشخص المُصاب أو من هو بحاجة للمساعدة ينتمي إلى ذات المجموعة التي ينتمي إليها مُقدِّم المساعدة أيًّا ما كانت. سواء كانت هذه المجموعة عمرية أو عرقية أو دينية أو حتى ذات الطبقة الاجتماعية.
والعكس صحيح، فإن وجود شخص لا ينتمي إلى أي مجموعة تنتمي أنت إليها، سيُقلِّل الشعور بالمسئولية تجاه الحدث، وبالتالي سيُقلِّل احتمالية التدخل للمساعدة بشكل ملحوظ.
هل هو أمر يمر به الغرب فقط؟
إن الدراسات التي قامت بهذا الصدد كانت جميعها في دول غربية، وفي رحلة بحثي عن الأمر لم أصادف دراسة شبيهة بنتائج بحثية في هذا الموضوع في الوطن العربي، ولكن لا بد أن للقيم الفكرية الغربية – التي تتسم بالبراغماتية الشديدة – دورًا في هذه الظاهرة لديهم.
في اعتقادي الشخصي أن الوطن العربي ما زال لديه نزعة أخلاقية ودينية تجاه المساعدة وتجاه التحرك السريع لنجدة المستغيث، بشكل لا يمكن إغفاله، إلا أن هذه الظاهرة والحادثة السابق ذكرها في نظري تلفت نظرنا إلى أهمية عدم التسليم بوجود المساعدة أو انتظارها من شخص آخر، وأنه إن كنت تريد المساعدة فقم بهذا بنفسك، لأنه في حين انتظارك لتدخل الآخرين، فإن الآخرين أيضًا ينتظرون تدخلك، وربما ينتهي الأمر بمأساة على شاكلة حادث جينوفيز.
لكن النتيجة الأهم، والتي من شأنها إنقاذ حياتك في أحد الأيام إن احتجتها، هي أن عليك طلب المساعدة من شخص بعينه بشكل عشوائي. فلا تصرخ «ساعدوني»، ولكن انظر إلى أحدهم بشكل عشوائي واصرخ ساعدني. إن هذا من شأنه أن ينهي حالة الالتباس التي يمر بها المتفرجون، ويضع لانتظار تدخل الآخرين حدًّا. فباختيارك شخصًا ما بشكل عشوائي، فأنت تُحمِّله هو المسئولية، وستبدأ عقدًا اجتماعيًّا جديدًا مع هذا الشخص، وعلى الأرجح لن يقوم هو بخرقه، عقدًا عنوانه المسئولية.