كتاب «بريد الذكريات»: ما بقي من أثر إيما رييس
قليلةٌ هي الكتابات والأعمال الأدبية التي تبقى كعلامة بارزة وأثر باقٍ يشير إلى صاحبها ويعرف بها دونًا عن الكثير من أعماله الأخرى، فلا يزال الكثير من القراء يعرِّفون طه حسين بصاحب الأيام، ويشيرون إلى محفوظ بالحرافيش والثلاثية، وكذلك هناك في الكتابات الغربية يعرف ماركيز بمائة عام من العزلة مثلما يشار إلى شكسبير بهاملت وغيرها من النماذج التي تبقى علامات على إنتاج صاحبها، رغم أنه قد يتجاوزها أو يجيد في الكثير غيرها.
ويكون الأمر أكثر خصوصية وتفردًا إذا كان ذلك العمل هو العمل الأدبي الوحيد الباقي من أعمال هذا الكاتب أو الأديب، وهو أمر لا يتكرر كثيرًا، سواء في أدبنا العربي أو العالمي، ويبقى من حسن حظ ذلك الكاتب أن يبقى عمله دالًّا عليه، ومعبِّرا بشكلٍ كبير عن نفسه وحياته، مهما باعدت بينه وبين الناس الأزمان والأماكن.
من هنا تأتي خصوصية كتاب «بريد الذكريات» للرسامة والكاتبة الكولومبية إيما رييس المولودة في 1919 وتوفيت 2003، وكانت قد كتبت كتابها هذا على شكل رسائل متفرقة إلى صديقها الناقد خيرمان أرسينيغاس الذي كانت قد تعرف عليه في أربعينيات القرن الماضي، ونشأت بينهما صداقة قوية، وطلب منها أن تنشر هذه الرسائل، وكان من حسن الحظ أن اطلع على بعض هذه الحكايات والرسائل الروائي الشهير غارسيا ماركيز فأبدى إعجابه الشديد بها وحماسه لكتابتها وأسلوبها الفذ، ولكن إيما غضبت من ذلك، إذ شعرت أن صديقها لم يحتفظ بخصوصية تلك الرسائل. وتوقفت عن مراسلته لمدة عشرين عامًا. ولكن بدا أن موقفها تغيَّر مع صديقها بعد ذلك إذ استطاع أن يقنعها بجدوى الكتابة وأهمية النشر، فواصلت كتابة مذكراتها، وسمحت أخيرًا أن تنشر ولكن بعد وفاتها.
اقرأ أيضًا: رواية «أنت قلت» الشاعر في مواجهة الموت
بين حياةٍ قاسية قبل الإقامة في دير الراهبات، حيث طفلة لا تعرف لها أبًا ولا أمًّا، وحيث سيدة غريبة تأمرهن فيطعن، تسرد إيما رييس بصدق وشفافية ما كان يدور في حياتها، من وجهة نظر الطفلة التي تبدأ في استكشاف العالم، حتى تصل إلى دير الراهبات لتبدأ فصلًا جديدًا من فصول المعاناة، بين جدران قاسية ومعاملةٍ فظة، وتعليمات وأوامر عليهم الامتثال لها بدون تفكير ولا نقاش.
استطاعت إيما رييس أن تعبِّر عن مأساة تلك الطفلة التي كانتها، وأن تنقل للقارئ من خلال تفاصيل عديدة كيف كانت تلك الحياة القاسية، التي ربما لم تكشف في الكتاب عن نهايتها المشرقة، حيث تحوَّلت إيما رييس إلى واحدة من أهم فنانات كولومبيا وغدت اسمًا بارزًا هناك، وربما لم يتح للكثيرين التعرف على تلك الظروف القاسية والغريبة، والحياة الصعبة التي عاشتها في فترة النشأة والتكوين الأولى.
حياة بين الرسائل
ربما يكون أبرز ما سيلفت انتباه القارئ هو بناء هذا الكتاب/المذكرات الذي اعتمد على تقنية الرسائل، المقدمة بكل فصل من فصولها إلى الصديق خيرمان، وفيها تخاطبه الكاتبة، وتلفت نظره وتفسِّر له عددًا من المواقف والأحداث التي ربما لا يتسنى للقارئ التعرف عليها بدون ذلك الشرح والتوضيح، كل ذلك بأسلوبٍ يغلب عليه الشاعرية والقدرة على رسم صور مشهدية دقيقة، وكأن جزءًا من الفنانة الراسمة قد انتقل إلى كتابة إيما رييس، فاستطاعت أن ترسم لوحة متقنة من خلال الكلمات والرسائل.
ربما يبقى الشيء الوحيد الذي سيفتقده القارئ بعد قراءته لهذه المذكرات الخاصة، هو ماذا فعلت تلك الطفلة بعد تلك الرحلة الشاقة، وكيف تحوَّلت إلى فنانة كبيرة، تلك قصة أخرى للنجاح، تختلف تمامًا عن رحلة الألم التي قررت الكاتبة أن ترويها بكل تفصيل، ولا شك أننا سنجد آثارًا باقية لها غير مكتوبة، في رسوماتها ولوحاتها التي كان من حسن الحظ أن وضعت دار النشر واحدة منها على غلاف كتابها في طبعته الإنجليزية والعربية على حدٍ سواء. كما يمكن التعرف عليها أكثر من خلال موقعها الإلكتروني الذي ضم عددًا من لوحاتها وأخبارًا عنها.
في كتابها الشيق «أثر عنايات الزيات» تكتب إيمان مرسال:
سيبقى بريد الذكريات من هذه الأعمال المهمة التي ربما لا تصنَّف على أنها أعمال عظيمة أو فارقة، ولكنه كان معبرًا بصدق عن حياة صاحبته، ويبقى مؤثرًا في ذهن أي قارئٍ يقرؤه. وهذا لعمري هو المجد الأدبي والفني الحقيقي. كما يكفيه أنه الأثر الباقي لتلك الفنانة التي عانت الكثير، والتي استطاعت أن تتجاوز كل ما مرت به وأن تصل إلى قمة نجاحها ومجدها رغم كل تلك الصعوبات، وها هي قد عبَّرت عن مأساتها دون أن يكون في كتابتها شيء غير الصدق الفني الذي يجعل القارئ متشوقًا لمعرفة تفاصيلها متعاطفًا مع حكايتها.
في النهاية لا يفوتنا أن نشكر الجهد المهم والجميل الذي قام به المترجم مارك جمال لكي يخرج لنا هذه التحفة الأدبية في ترجمة عربية شيقة صادرة في العام الماضي عن دار التنوير.