الشيخ الضرير والمثقف وبؤس العلمانيين المصريين
في يناير من العام 1898 نشر الأديب المسرحي إيميل زولا رسالته الشهيرة «إني أتهم» في خضم الأحداث السياسية التي تلت قضية درايفوس والتي حُكم فيها ظلمًا على الجندي اليهودي ألفريد دريفوس بسبب يهوديته وبسبب عداء القضاء الفرنسي للسامية. في تلك الأحداث نشأ مفهوم «المثقف» بعدما قام الآلاف من الأدباء ورجال الفكر، نعتوا فيما بعد بالمثقفين، بالتوقيع على عريضة تطالب بإعادة النظر في محاكمة دريفوس. إذًا نشأ مفهوم المثقف باعتباره موقفًا أخلاقيًا في المجال العام تجاه ظلم السلطة الواقع على آحاد الناس. وربما بسبب تبني اليسار الفرنسي آنذاك للموقف المدافع عن دريفوس ارتبط المصطلح في أذهان الناس باليسار. ولكن لسخرية القدر، وبعد مرور أكثر من قرنٍ من الزمان، سيقوم «المثقفون» المصريون بتبني موقف مغاير تمامًا للموقف الذي نشأ في رحابه المصطلح.
في أوائل التسعينات وبتلك الكلمات الواضحة التي صدرّت بها مقالتي، قام الشيخ الضرير عمر عبد الرحمن، والذي توفي منذ أيام في السجون الأمريكية، بالرد على مذيع قناة CNN فاضحًا الاتهامات التي يكيلها له نظام مبارك آنذاك. وعندما سأله المذيع: إذًا هل تدعو لاستعمال العنف ضد النظام المصري؟ رد الشيخ: «لا، أنا لا أدعو الناس لأي عنف. فأنا كل مهمتي أنا أقول الحقيقة، أن أفضح النظام المصري وأن أبين عيوبه ومثالبه، وأبين أن حسني مبارك وأولاده يملكون البلايين من الدولارات وعلى العالم الغربي أن يقدمه للمحاكمه وأن يسأله عن ذمته المالية ومن أين جاء بهذه الأموال».
لم يمر موت الشيخ عمر عبد الرحمن إلا وقد صبت عليه اللعنات من قبل «المثقفين» المصريين باعتباره أحد رموز التطرف والإرهاب وبصفته قائدًا ملهمًا للجماعة الإسلامية التي قامت باغتيال الرئيس الراحل أنور السادات والعديد من العمليات الإرهابية في منتصف التسعينات متبنيين سردية الدولة المصرية، التي لطالما اتهموها بالكذب والطغيان، تجاه الشيخ دون أي محاولة جادّة للفهم.
ولكن في العام 1981 وبعد اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات تم إلقاء القبض على الشيخ عمر عبد الرحمن وآخرين وتمت محاكمته مرتين: الأولى كانت محاكمة عسكرية والثانية أمام محكمة أمن الدولة العليا، وقد حكم ببراءته في المرتين، باعتباره لم يكن مسئولًا لا من قريبٍ ولا من بعيد بهذه الحادثة ولأن هذه العملية تمت دون أي معرفة مسبقة للشيخ، ولأنه حتى تلك الفترة لم تكن له أي علاقة بما يعرف بتنظيم الجماعة الإسلامية. وجهلًا منهم أو رغبةً في تغييب الحقيقة، سيقوم المثقفون المصريون بخلط أوراق التاريخ من أجل ضم الشيخ عمر عبد الرحمن رفقة تنظيم الجماعة الإسلامية وربطه بأعمال العنف التي قام بها ذلك التنظيم.
في سبعينيات القرن الماضي ظهرت على الساحة عدة حركات جهادية. كان من بينها تنظيم الجماعة الدينية في الصعيد، والذي سيعرف فيما بعد باسم الجماعة الإسلامية، وكان يرأس مجلس شورى الجماعة كرم محمد زهدي سليمان، كما ضمت كلًا من ناجح إبراهيم ومحمد عصام الدين دربالة وعاصم عبد الماجد وغيرهم.
وفي عام 1979 قامت هذه المجموعة بالاتفاق مع مجموعة وجه بحري، والتي كان يرأسها محمد عبد السلام فرج وتضم طارق الزمر وابن عمه المقدم عبود الزمر، ليعلنا ميلاد تنظيم جهادي جديد وهو الذي تولى قيادة الأحداث في أسيوط واغتيال السادات وسائر الأحداث التي تلت قرارات التحفظ في سبتمبر 1981.
والجدير بالذكر هنا أن كل تلك الأحداث جاءت بفتوى من أمير الجماعة محمد عبد السلام فرج، كما ذكر هو في كتابه الذي ضم تلك الفتاوى. عقب اغتيال السادات تم القبض على الشيخ ثم أفرج عنه عام 1984 بعدما حكمت المحكمة العسكرية ومحكمة أمن الدولة العليا، سيئتا السمعة، ببراءته ونفي أي صلة بينه وبين حادث الاغتيال.
عقب خروجه من السجن تم التضييق على الشيخ عمر عبد الرحمن بسبب مواقفه من استبداد نظام مبارك ومعارضته الشديدة له على المنابر إلى أن وضع تحت الإقامة الجبرية عام 1989. وفي عام 1992 سيتمكن الشيخ عمر عبد الرحمن من الخروج من مصر إلى أفغانستان عبر بوابة السودان، وهناك كان للشيخ دور بارز في محاولة رأب الصدع بين المجاهدين الأفغان الذين انقسموا بعد خروج الاتحاد السوفيتي.
في تلك الأثناء وقعت خلافات عدة بين أعضاء المجموعتين سابقتي الذكر، ممن حكم عليهم بالسجن لفترات ليست بالطويلة وخرجوا بعد قضاء مدة السجن وسافروا إلى أفغانستان، وهنا وقع الخلاف الشهير بين عصام دربالة الذي طرح اسم الشيخ أميرًا للجماعة فرد عليه طارق الزمر بألا ولاية لضرير ورشح ابن عمه عبود الزمر، فكان رد دربالة بألا ولاية لأسير. ولكن الشيخ عمر عبد الرحمن في تلك الأثناء كان قد ودّع مرحلة الجهاد الأفغاني وانتقل إلى مرحلة الانتشار من أجل نشر الدعوة وقد قام بعدة رحلات ألقى فيها عددًا من المحاضرات بلندن إلى أن استقر به الحال في الولايات المتحدة الأمريكية.
في الولايات المتحدة الأمريكية التف العديد من شباب المسلمين حول الشيخ. وهناك ستقوم المباحث الفيدرالية بزرع أحد جواسيسها حول الشيخ، وهو ضابط سابق في الجيش المصري يدعى عماد سالم، والذي حاول في أكثر من مرة استدراج الشيخ ليخرج منه بفتاوى تبيح العنف ضد الأمريكيين بينما يقوم الأول بالتسجيل للشيخ دون أن يدري. وفي عام 1993 تم اعتقال الشيخ بتهمة التحريض على الإرهاب وحكم عليه بالسجن المؤبد. ومنذ منتصف التسعينات قامت الجماعة الإسلامية، التي عاد أفرادها من أفغانستان، بالعديد من العمليات الإرهابية بينما كان الشيخ يقضي عقوبة السجن في الولايات المتحدة الأمريكية.
في سجنه لم تكتفِ السلطات الأمريكية بالعزلة التامة المفروضة على الشيخ في زنزانته الإنفرادية بل طُبق عليه قانون إداري خاص يعرف باسم SAM يقضي بمنع أي زيارةٍ له إلا من الدرجة الأولى وبمنع أي لقاءٍ صحفي كما لا يتيح لمحامي الشيخ إلا لقاءً واحدًا كل شهر وهو ما وصفه نائب عام الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق رمزي كلارك بالوضع غير الآدمي الذي لم يرَ مثله من قبل. وفي مثل تلك الظروف يريد بعض «المثقفين» المصريين ربط الشيخ بما قامت به الجماعة الإسلامية في مصر في ذلك الوقت. فعلى الرغم من أن الكتاب الذي حرره وراجعه الدكتور أحمد عبد ربه،الفكر الإسلامي الجهادي المعاصر، قد أعياه البحث على وجود دليل حقيقي على إمارة الشيخ للتنظيم سوى «وصف البعض» إلا أن الدكتور يتحدث بصفة قطعية عن مسئولية الشيخ عن كل جرائم الجماعة في تلك الفترة باعتباره أميرًا لها.
لن يخبرك «المثقفون» المصريون أن هذا الرجل الذي كان مسئولًا من محبسه في أمريكا، بحسب تصوراتهم الساذجة، كان مصابًا بسرطان البنكرياس والسكري، والروماتيزم والصداع المزمن، وأمراض القلب والضغط وعدم القدرة على الحركة إلا على كرسي متحرك، في حبس انفرادي بلا مرافق مقطوعًا عنه كل الاتصالات الخارجية.
لن يخبرك «المثقفون» المصريون أن الشيخ رفض اقتراح الجاسوس المصري الأمريكي عماد سالم بتفجير مبنى الأمم المتحدة، في محاولةٍ من الأخير لاستدراجه، بحسب التسجيلات المرفقة في قضية التحريض على الإرهاب، لأنه ليس بناية عسكرية.
لن يخبرك «المثقفون» المصريون أن الشيخ كان من المؤيدين لمبادرة وقف العنف التي أعلنتها الجماعة في عام 1997.
لن يخبرك «المثقفون» المصريون أن محكمة أمن الدولة العليا قد برأت الشيخ من قيادة تنظيم الجهاد أو تولي مهمة الافتاء بالتنظيم.
لن يخبرك «المثقفون» المصريون أن عائلة الشيخ رفضت عروضًا عدّة لدفن جثمانه بدولٍ مختلفة فأبوا إلا أن يدفن في وطنه.
لن يخبرك «المثقفون» المصريون أن عمر عبد الرحمن هو القائل: «وتالله يا مصر…لوددت أن يسيل في الله دمي دفّاقاً على ثراك وأن يُصلي عليَّ أطهر أبناءك وأن يحملني إلى القبر خيرة رجالك… فعندها أمضي مطمئناً إلى ربٍ كريم».
لن يخبرك «المثقفون» المصريون أن الشيخ عمر عبد الرحمن كان هو المثقف بالمعنى الأخلاقي حين عارض نظام مبارك الاستبدادي بالكلمة بينما تبنوا هم سردية السلطة، التي يؤمنون بكذبها، حول شخصٍ لم يكن له حق الدفاع عن نفسه فخانوا شرف ومسئولية المثقف.