نعمة النسيان التي فقدناها في زمن الكاميرات
ضغط على الأيقونة الزرقاء على شاشة الموبايل، ليمارس هوايته المعتادة في التجوال العبثي في «فيسبوك»، وخلال دقائق خمس فحسب، كان الألم يعتصر روحَه، وتسارعت ضربات قلبه، وتغيَّرت حالته المزاجية إلى الأسوأ بشكلٍ حاد، وألقى بهاتفه الذكي على الكرسي القريب بعنف، ودفن رأسه بين كفَّيه في صمت.
كانت البداية مع منشورٍ لأحد الأصدقاء يرثي صديقهما الطبيب الشاب الذي فارق الحياة منذ عدة أشهر ضحيةً لوباء الكوفيد-19، وترك خلفَه أسرةً صغيرةً ثكلى. ما إن ترك تعليقه الراثي على المنشور، ثم دفع الصورة لأعلى، حتى ظهرت صورة أخرى لبعض شهداء الثورة تحت تعليق من صديقٍ يقول «إوعاك تنسى وخليك فاكر».
ألقت به تلك الصورة في دوامةٍ خاطفة من الحنين والذكريات لأصواتٍ وأماكنٍ وأشخاص ما عاد إليهم من سبيل. منشورٌ تالٍ يرثي فيه ابن عمِّه أباهَ الذي تُوُفّيَ في حادث قبل عام، وآخر يتذكر فيه صاحبه التوتر العاصف الذي صاحب امتحانات العام الفائت بالغة الصعوبة والأهمية في دراستهما، وآخرون يدلون بآرائهم في الترند المؤسف الحالي والذي يتحدث عن جريمةٍ هزَّت البلاد كان ضحيتها أطفال أبرياء أوقعتهم بهم الأقدار في قبضةِ أهلٍ لا يرحمون.
وطوال الوقت كان بطل هذه الوقائع يُفكِّر في الأسى الذي ينجرُّ إليه كلما تداعت هذه الصور على ذهنه، وبات يتساءل هل كان أجدادُنا في عصر ما قبل الصورة يعانون من مثل هذا؟ أم أن الظلام الرقمي الذي عاشوا فيه أمّن لهم أن يحظوا بنعمة كبيرة كدنا نفقدها، وهي نعمة النسيان.
نعمة النسيان
يشكو كثيرون من ضعف الذاكرة لا سيَّما في مواسم الامتحانات، ويشكو آخرون من عجز القدرة على تذكر بعض تفاصيل الحياة المهمة كأسماء المعارف والأشياء، والمواعيد الأساسية .. إلخ، وهناك غيرهم فقدوا حبيبًا أو عزيزًا من الأهل تصوّروا أن حياتهم يجب أن تتوقف عقب رحيلهم لكنها لم تفعل،وبمرور الوقت انزوت أشجان الفراق في قاع الذاكرة، وهو السلوك الذي اعتبروه نوعًا من الغدر والخيانة دون أن يعرفوا أنه ينطوي على نِعمة كبرى.
في الواقع، فإنَّ النسيان الطبيعي- لا نتحدث عن أنواع عجز الذاكرة المرضية- نعمة قد تفوق نعمة وجود الذاكرة نفسَها. وفي الفقرات التالية سنلخص أهم ما يقدمه لنا النسيان من أجل جودةِ حياتنا، بل واستمرارها. وسيتبيَّن لنا كيف حرمنا طغيان مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل تسجيل الذاكرة المختلفة، من كثير من جوانب تلك النعمة، وكيف امتلأت خلايانا بكثيرٍ من التفصيلات والمُدخلات البصرية والسمعية الزائدة عن الحاجة، والمُشتِّتة لجهود عقولنا.
رفع الأعباء النفسية والعاطفية
لو احتفظت خلايا أمخاخِنا بكل شاردة وواردة من المدخلات البصرية والسمعية والملموسة والمحسوسة .. إلخ لانهارت خلال أيامٍ قليلة. فأي مراكز ذاكرة ستستوعب كل هذا الكم من البيانات؟ وهنا تتجلّى نعمة النسيان الأولى، فهو يُخلي– أولًا بأول- مساحاتٍ من ذاكرتنا لاستيعاب المهارات الأحدث والمشاعر الجديدة، والتجارب الأقرب لقلوبنا، كما يزيح عن كاهل عقولنا الكثير مما يؤرقها من الأفكار السلبية الماضية، أو المشاعر القوية التي صاحبَت تجربة عاطفية فاشلة نحاول تجاوزها لتستمرَّ الحياة.
كانت الغالبية العظمى من البشر لتُصاب بعُصاب القلق من النوع المتقدم، والاكتئاب الشديد، واضطرابات ما بعد الصدمة، لو ظلّت الذاكرة تختزن بكفاءة مشاعر التوتر قبل دخول امتحاناتٍ قديمة، أو هزة الفزع لخبر سيئ يخصُّ عزيزًا ما، أو اعتصارة الألم لفراقٍ حبيب راحل، ولو احتفظت ذاكرتنا بتفاصيل كل يومٍ، لغرقنا في دوامةٍ سرمدية من التذكر تشلُّ قدرتنا على مواصلة حياتنا بفاعلية.
النسيان ببساطة يجعلنا أكثر إيجابية وانطلاقًا وحياة.
تحسين كفاءة المخ
قد يبدو ذلك العنوان شديدة الغرابة والتناقض .. النسيان يحسِّن الذاكرة! لكن هذا ما تؤكده لنا أدلةٌ علمية قوية. فعندما يزيحُ المخ من الواجهة بعض الذكريات القديمة، كمهاراتٍ اكتُسِبَت في بعض ألعاب الطفولة أو ذكريات هامشية في فترة المراهقة فإن هذا يُحسِّن من قدرة المخ على استيعاب معلوماتٍ جديدة أكثر أهمية، والاحتفاظ بها لوقتٍ أطول، وكذلك استعادة ما يحتاجه منها بشكلٍ أكثر كفاءة.
كلما نسيتَ، تذكرتَ أفضل
تخيّل أنَّك طبيب جرّاح يريد أن يتقن نوعًا معينًا من العمليات الجراحية المتقدمة، فحضر المئات من تلك العمليات مشاهدًا ومساعدًا وممارسًا، حتى نجح في آخر المطاف في الوصول إلى مبتغاه. هل تعلم أنك في هذا المثال قد استفدتَ من النسيان أكثر بكثير مما استفدْتَ من التذكر؟!
خلال فترة التدريب، كان عقلك أمام عشرات الآلاف من التفاصيل الصغيرة المرئية والمسموعة والمقروءة كبيانات المرضى، وطبيعة أجسامهم، وخطوات الجراحة في كل حالة، ومدى النجاح أو الفشل، والمضاعفات التي وقعت، والتعامل معها وغيرها من باقي التفاصيل التي لا يُمكن للذاكرة أن تحتفظ بها وإلا أُنهِكَت دون داعٍ، لذا فما فعلَتْهُ أن بذلت وسعَها في الاحتفاظ بالجديد المختلف من كل حالة، في عملية تراكميةٍ شكلت تمام عملية التعلم، مع تعمد إهمال ونسيان كثير من دقائق التفاصيل المكررة، وما لا حاجة له.
وهذه العملية لا تحدث حصريًا بشكلٍ لا إرادي، إنما ينبغي أن نتدرب على القيام بها بشكلٍ واعٍ، فيراعي كلٌّ منا طاقة ذاكرته، ويُوجِّهها لما يهمه، ويدرب نفسه على تناسي ما لا يفيد- أو يضر- تذكره، سواءً كان شعورًا أو ذكرى سلبية أو تفاصيل معلوماتية غثَّة … إلخ.
الخلاصة.. كلما نسيت أو تناسيْت جيدًا، كلما تذكرتَ وتعلَّمت أفضل.
علاج فقدان التركيز
التشتت وصعوبة التركيز في المهام المطلوبة، أو حتى في الاسترخاء في أوقات الترويح، أصبح شكوى عامةً لمعظم الناس هذه الأيام لا سيَّما الشباب. إذا تركنا آليات النسيان الطبيعية تعمل بكفاءتها الطبيعية التي فطرها الله عليها، فإراحة أذهاننا من فيضانات الصور والتفاصيل والذكريات- السلبية بالأساس- والمعلومات الجزئية غير المفيدة التي تغمرنا بها وسائل التواصل وغيرها، لأسهم هذا كثيرًا في تحسين قدرتنا على التركيز.
قدرة أفضل على اتخاذ القرارات
إذا بحثت جيدًا خلف أسباب التردد الشديد في اتخاذِ قرارٍ ما، ستجد أن ازدحام كثير من التفاصيل الجوهرية وغير الجوهرية في ذهن صاحب القرار من بين أبرز أسباب التردد. يخففُ النسيان الطبيعي، والتناسي المُدرَّب، عن عقولنا أثقالَ التفاصيل المرهقة، لا سيَّما تلك التي تشوِّش الذهن دون دورٍ مفيد في القرار، فلا يبقى أمام مراكز التفكير سوى الحقائق البارزة والتفاصيل الأهم التي تساعد على الحسم، فتصل سريعًا لقراراتٍ قاطعة، ومبتكرة في أحيانٍ كثيرة.
وحتى نسيان بعض الحقائق المهمة عن مخاطر محتملة للقيام بأمرٍ ما، يساعدنا على نكون أكثر جرأة في المغامرة في أحيانٍ عديدة، فنحصل على مكاسب استثنائية. ليس هذا دعوة للتهوَّر، إنما للانطلاق بدلاً من الاكتفاء بالدوران في ذات المكان.
الاستمتاع ببشريَّتنا
يمكن اعتبار تلك النقطة تلخيصًا لكل ما سبق. النسيان- الذي اشتُقَّ من نفس الجذر اللغوي للإنسان- يساعدنا أن نحيا كبشرٍ متصالحين مع أنفسِنا ومع ضعفِنا الإنساني. نُلقي عن كواهلنا أولاً بأولٍ كثيرًا من المواقف والمشاعر والذكريات السلبية، فنخلي من ذاكرتنا وعقولنا مساحات للأجمل والأهم. ننسى بعض تفاصيل حدثٍ مميزٍ، فتتمكّن عقولنا من تطعيم شقوق الذاكرة بتفاصيل مُختلَقة أكثر ثراءً وألقًا، تزيد من سعادتنا واعتزازنا بذلك الحدث وغيره. نغفل- ونتغافل- عن كثير من الإساءات، والمواقف المُخجلة التي تعرَّضنا لها، فنستعيد الكثير من الثقة في أنفسنا، وفي قدرتنا على المواجهة ومواصلة الحياة بشكلٍ أكثر كفاءة، وهو المعنى الذي أكّدت عليه مقولة الراحل العظيم علي عزت بيجوفيتش، مع تصرُّفٍ بسيط، بأن «الحياة أسمى من التذكر».