فيلم The Batman: النسخة الأكثر قتامة من فارس الظلام
نعيش حاليًا عصرًا من العوالم السينمائية، يندر أن نرى فيلمًا يأتي من العدم، معظم الأفلام التجارية الكبرى إما تعمل كقطعة من أحجية ضخمة مخطط لما قبلها وما بعدها، أو تمثل إعادة صياغة لفيلم أو سلسلة أفلام سابقة مبنية على مصدر أدبي أو قصصي محبوب، وفي وسط تلك العوالم توجد عوالم أخرى، فيمكن لشخصية واحدة أن تمتلك عالمًا غير متصل يصنع عن طريق إعادة صياغة قصة واحدة مرارًا وتكرارًا مما يخلق نمطًا ما أو محاولات لكسر النمط، أحد أشهر الشخصيات التي تملك عالمًا ذا خواص مميزة هي شخصية باتمان Batman الرجل الوطواط المقتبسة عن قصص مصورة متعددة ومختلفة في الأسلوب والتناول، والصادر له نسخة جديدة بعنوان The Batman، اتخذ الرجل الوطواط طابعًا سينمائيًا متفردًا يمتاز بالقتامة الشديدة شكليًا وموضوعيًا، لكنه لم يكن دائمًا كذلك.
من النور إلى الظلام
لم تكن أفلام باتمان دائمًا بالقتامة التي نراها الآن، عندما ظهر البطل المحبوب لأول مرة على الشاشة الكبيرة في فيلمه الطويل الأول Batman The Movie عام 1966 كان مرحًا يرتدي الرمادي الفاتح وبجانبه روبن في زي أشبه بأزياء الجنيات السحرية، كانت الشرطة متعاونة معه وكانت مدينة جوثام مشرقة وتحت السيطرة، كان الأشرار الأيقونيون مثل الجوكر والريدلر والمرأة القطة خطرين بالطبع لكنهم لم يكونوا مخيفين، ظهروا مليئي بالألوان ومستمتعين بمخطتاهم الماكرة، امتلأت الشاشة بانفجارات كارتونية وكلمات تظهر مكان آثار الضرب مثل القصص المصورة.
بحلول نهاية الثمانينيات استوعبت الأستوديوهات وصناع السينما إمكانيات قصة وشخصية باتمان الأسلوبية والتعبيرية وإمكانية استخدامها للتعليق على الوضع الاجتماعي الأمريكي، أصبحت الأفلام أكثر قتامة، في نسخة تيم برتون الذي يمتاز بأسلوبية مميزة ارتبط باتمان دائمًا باللون الأسود لكن احتفظ أشراره بألوانهم الزاهية، أصبحت جوثام في أفلام برتون مدينة قوطية غرائبية، ثم استعاد باتمان ألوانه وهزله حتى وصل لأبعد حد في أفلام جويل شوماخر التي نالت رفضًا واسعًا من النقاد والجمهور ثم حازت على إعادة تقييم وتقدير من الجمهور المعاصر نظرًا لسخافتها المقصودة ومغالاتها الشديدة التي تجعلها أشبه بقصص مصورة باذخة في هيئة فيلمية.
مع إلغاء سلسلة شوماخر وبحث شركة وورنر براذرز عن خليفة لتولي الشخصية الأيقونية، اجتاحت صناعة أفلام القصص المصورة موجة مفرطة الواقعية مع صدور ثلاثية فارس الظلام لكريستوفر نولان، استخدم فيها شخصيات الكوميكس كشخصيات عادية يمكن تصديق وجودها في نسخة من العالم الحقيقي، صنع منها أفلام دراسة شخصية أثرت في كل أفلام الأبطال الخارقين بعدها، كما بدأت موجة دمج الأنواع لميل أفلامه لأسلوب النوار، فهو نوع مناسب جدًا لباتمان كما يناسب أمريكا في طور اضمحلال وتداعي يفضح اهتراء مؤسساتها من الداخل.
وبعد انتهاء تلك السلسلة التي صنعت من أبطالها وشخصياتها أيقونات سينمائية لا تنسى ظهر باتمان مجددًا أحضره للحياة بين أفليك في أفلام المخرج زاك سنايدر وسط عالم دي سي السينمائي لكنه لم يترك أثرًا حقيقيًا، والآن في بدايات عام سينمائي جديد ينهض فارس الظلام مرة أخرى في إعادة صياغة أكثر ظلامًا من ذي قبل تستفيد من التجارب السابقة لكي تصنع تجربة جديدة، فيلم The Batman للمخرج مات ريفز هو أحد أكثر أفلام الأبطال الخارقين قتامة، يتناول الشخصية المحبوبة من منظور جديد مع تأثره بآخرين من داخل النوع نفسه أو خارجه ويدلف إلى أعماق تلك الشخصية حينًا ويركز على العالم الذي حولها في أحيان أخرى، لكنه يكمل مسيرة استخدام الرجل الوطواط كأداة للتعليق على المجتمع الأمريكي وتتأرجح رؤيته بين الثبات والاضطراب.
شخصية جوثام المتغيرة
يمكن تتبع تطور الأسلوب المتناول في سلاسل باتمان المختلفة عن طريق تتبع النوع الفيلمي والخيارات الأسلوبية والشكلية التي غالبًا ما تركز على العمارة وتصوير المدينة، تعتبر جوثام هي قلب باتمان النابض، هي ما صنعه، ما يريد أن ينقذه وأن يهرب منه، في التصورات الأولى لجوثام تم تمثيلها كنيويورك خيالية ثم كمدينة قوطية ذات أبينة مدببة الأطراف تدمج بين المحركات والأدخنة والأناقة الفيكتورية المخيفة التي تستدعي أفلام الرعب، ثم أصبحت جوثام مدينة تغرقها أضواء النيون الصناعية والإعلانات والألوان، بعد ذلك أخذت أشكالًا أكثر واقعية لكن سيطر عليها الظلام تمامًا غالبًا ما يطغى عليها لون أسود وعوالم سفلية من المجارير والجرذان والأراضي الرطبة من الأمطار وسوء البنية التحتية.
بين كل تلك النسخ تأتي نسخة مات ريفز من جوثام، شبيهة بنيويورك بلوحاتها الإعلانية وأضوائها الليلية الساطعة مع لمحات قوطية تظهر في قصر بروس واين بتصميمه الجديد، فهو هنا أشبه بـكاتدرائية قوطية تمامًا وكأن بروس واين يعيش في عصر آخر أو أن قصر أبويه هو قطعة متوارثة من أجيال أبعد بكثير مما يستطيع تصوره، وهو ما يتلاءم مع تناول الفيلم لعائلة واين كعائلة مؤسسة لجوثام ذات ماض مظلم، أما خارج القصر فإن جوثام مدينة لا تتوقف بها الأمطار، رطبة دائمًا، مهترئة تمامًا ولا تملك مبانيها معالم محددة مثل نيويورك، ولا سمات أسلوبية واضحة، هي رفاة مدينة في طور التلاشي.
يستخدم ريفز الأمطار المستمرة والظلال القاتمة في صنع مشاهد ذات صيغة تجريدية، فكثيرًا ما نرى أضواء حمراء غائمة وسط أمطار متساقطة أو أضواء سيارات متعددة يصعب التفريق بينها، يجعل ذلك من الفيلم تجربة بصرية ذات أسلوبية واضحة متأثرة بشكل كبير بأفلام النوار والنيون نوار وهو ما يمتد لتمثيل شخصية باتمان/ بروس نفسها، يقوم روبرت باتينسون بأداء الشخصية بشكل يفصله عن الأداءات السابقة، هنا نادرًا ما نرى بروس في أزياء فارهة وبدلات من مصممين شهيرين بل إن معظم وقته على الشاشة بزي باتمان، نراه متورطًا في أعمال تحت أرضية باحثًا عن أدلة من مجرمين يستهدفون من يشبهونه.
يجعل ذلك التناول من باتمان بطلًا ملائمًا لفيلم نوار معاصر، أو ضد بطل، يبدي ميلًا للعنف وقدرة أكبر على إلحاق الأذى حتى مع موقفه الصارم ضد القتل، لكنه أكثر انكسارًا وأكثر هشاشة، ينذر الفيلم في بدايته خصوصًا مع استخدامه صوت باتينسون كراوي بكونه فيلم دراسة شخصية، يتحدث فيه بروس عن نفسه وعما يشعر، عن ماضيه وحاضره، وكيف يأمل أن يغير مدينة متداعية فاسدة داخليًا، وتصاحب الأحداث واحدة من أفضل ثيمات الموسيقى التصويرية في أفلام الأبطال الخارقين في الأعوام الأخيرة ألفها مايكل جياكينو، لكن سرعان ما ينجرف الفيلم خارج تلك السردية ويفقد تركيزه لفترات طويلة في محاولات لحل جريمة متسلسلة فيصبح وكأنه باتمان من إخراج من ديفيد فينشر، يفصل ذلك الخيار السردي باتمان مات ريفز عن سابقيه فنحن هنا أمام بطل خارق يأخذ وقته في التحقيق ويعمل مع محقق الشرطة الصديق جيم جوردن (جيفري رايت) في تقفي خيوط الجريمة مثل محقق تحت أرضي حتى يصل إلى معلومات توصله بالمجرم وبتاريخه الشخصي، يظهر في باتمان أشرار مألوفين ظهروا من قبل في القصص المصورة وعلى شاشة السينما، لكن يتناولهم ريفز بنزعة واقعية بدأها نولان ويجعل منهم قتلة متسلسلين ذوي نزعات أناركية تستدعي أشرار كل من نولان ومن فيلم آخر يأخذ من النوار منهجًا وهو جوكر Joker 2019.
أشرار لتحقيق العدالة
عادة ما تركز أفلام باتمان على الأشرار أكثر من البطل فارس الظلام الخير ذي الماضي الأليم، وعادة ما يكون هؤلاء الأشرار ذوي كاريزما عالية وشخصيات غرائبية تبتلع كل من حولها وتحيا أطول من أفلامها، يركز مات ريفز على بطله على عكس الأفلام السابقة، لكنه يصنع أشرارًا رأيناهم من قبل حتى ولو بدوا غير كذلك، أجزاء متناثرة من نسخ سابقة تنزع عن الأشرار الذي اختارهم فردانيتهم وتجعلهم نسخًا أخرى من جوكر الأناركي الذي مهد له نولان، يختار ريفز ثلاثة أشرار لفيلمه وهما ذا ريدلر The Riddler (صانع الألغاز)، البطريق The Penguin وفالكون المجرم الشهير الذي يعمل تحته العديد من الأسماء المهمة الرسمية الحكومية وحتى الشرطية، تكمن نقاط قوة اختيار فالكون وسط الأشرار المشاهير في استخدامه لترسيخ جوثام كمجاز لأمريكا متداعية من داخلها بلا أمل للخلاص، ينتقد ريفز المؤسسات الكبرى في جوثام بشكل يمكن وصفه بالثوري لكنه بالطبع يملك بعض النقاط المضيئة المتمثلة في شرطي صالح مثل جوردن وعمدة جديدة تدعى بيلا ريال تقوم بدورها الممثلة جايم لاوسن، سيدة سمراء البشرة تنهي سلسلة يصعب قطعها من الرجال البيض ذوي الامتيازات.
يختار ريفز تصورًا متفائلًا رغم قتامة فيلمه لما يمكن أن تكون عليه أمريكا إذا اختارت بشكل أفضل، لكننا نمضي وقتًا أطول مع الأشرار المشاهير بخاصة الريدلر الذي يتم استخدامه كمرآة لباتمان في سيناريو مشابه جدًا لما طرحه فيلم جوكر لتود فيليبس، فكل من البطل والشرير أيتام منذ الطفولة لكن أحدهما يملك امتيازات مادية وسلطوية كبرى والآخر ملقى به في أسوأ الظروف التي يمكن أن تقابل طفلًا بلا مأوى أو أهل، مثل جوكر 2019 يفكك فيلم باتمان طبيعة البطولة التي يسعى إليها بروس واين ويعيد النظر في مظلوميته كيتيم فقد أهله بسبب الجريمة المستشرية في المدينة ببساطة لأنه يوجد مثله الآلاف لكنهم لا يملكون نفس امتيازاته، كما أنه يكمل موجة تطرح سؤال «ماذا لو كان الشرير على حق؟» بدأت مع فارس الظلام 2008 واستمرت مع جوكر.
يلعب بول دانو شخصية ريدلر بجدية وبراعة، ويظهر كقاتل متسلسل في فيلم تحقيق أكثر منه شرير قصص مصورة، هو شاب يحمل صدمة من طفولته ويرغب في الانتقام من الطبقة العليا بخاصة من مثيله في اليتم بروس واين ولكي يفعل ذلك يطلق حملة إرهابية يتبعه فيها الآلاف مسلحين ومستعدين لهدم مدينة بأكملها للانتقام لحقوقهم المسلوبة، ومثل جوكر يفتح باتمان ملف تاريخ بروس كوريث لأسرة استغلت امتيازاتها في أعمال إجرامية وفي التغطية على فساد مستشر داخل مؤسساتها، فكل ما عاش من أجله لم يكن حقيقيًا، لكن سرعان ما يتراجع الفيلم عن تلك الرؤية العدمية ويظهر لبطله أن ذويه لم يكونوا بهذا السوء بل إن الأمر كله سوء تفاهم فيدحض النظرية التي أراد إثباتها.
الشرير الشهير الآخر هو الرجل البطريق الذي يبدو بلا دور حقيقي هنا، اختار ريفز أن يجعله رجلًا طبيعيًا وليس شخصية خيالية، يلعب الدور كولين فاريل في أداء يخرجه من جلده تمامًا حتى يصعب حتى التعرف على صوته أو عينيه، تحيد تلك الإضافات التي توجد فقط لتذكرنا أننا في عالم باتمان القصص المصورة من قوة الفيلم كدراسة شخصية أو حتى كفيلم تحقيق، تطيل من مدته وتعقد خطوطه القصصية البسيطة من الأساس، يجد الفيلم قوته حينما يركز على موضوعاته الأساسية المتمثلة في التاريخ الشخصي والآباء والأبناء.
يمتلئ الفيلم بثنائيات من الآباء والأبناء، كل من باتمان وريدلر أيتام يعيشون في محاولات التخلص من الماضي، ثم هنالك سيلينا كايل/المرأة القطة (زوي كرافيتز) التي تقوم بذلك الدور الأيقوني بمزيج من الجاذبية التي يعرف بها الدور لكن مع مسحة مأساوية يمكن بسهولة تفهمها وتفهم أسباب استخدامها لجمالها الظاهري لكي تستطيع العيش في ذلك العالم المتداعي، فقدت سيلينا والدتها وتخلى عنها أبوها الذي نعرف أنه أحد أهم المجرمين في عالم جوثام العلوي والسفلي، تتشابك علاقات الشخصيات بسبب تشابك تاريخ علاقات ذويهم ببعضهم البعض، وتنطلق من تلك العلاقات العائلية أكثر الخطوط القصصية إثارة للاهتمام في الفيلم.
يقدم باتمان نسخة مات ريفز كعالم قاس ومظلم ذي أسلوبية واضحة وقوية تجعل منه فيلم أبطال خارقين متأثرًا بأنواع سينمائية متناثرة، ويفصله ذلك عن كونه فيلمًا نمطيًا يتبع تركيبة محددة مسبقًا، ثم يقع في فخ التركيبات حينما يتعلق الأمر برسم الشخصيات أو الحبكات الرئيسية، لكنه يبقى تجربة مشاهدة غامرة آسرة للحواس سمعيًا وبصريًا وإضافة قيمة في عالم الرجل الوطواط الذي يبدو أنه لن ينتهي قريبًا.