فيلم «The Banshees of Inisherin»: أن نهبط من الفردوس بحثًا عن معنى
انشغل الفلاسفة لقرون بشعور الملل، بدءًا من سينيكا مرورًا بكيركجارد ووصولًا لهايدغر وراسل، تنوعت كتاباتهم ولكنها التقت في حقيقة واحدة، أن الملل هو رسول من مشاعرنا يأتينا برسالة واحدة، وهي غياب المعنى. يفضح الملل حياة فارغة وفراغ وجودي يصدح في دواخلنا ليُخبرنا عن حاجته للامتلاء بإجابة.
يأتي الملل أولًا كرسول من دواخلنا ليُخبرنا برسالته، ثم يأتي فعلنا التالي عليه ليُحدد هل كان الملل رسول بُشرى أو نذير سوء، تبعًا للفلاسفة يتبع الملل دومًا رغبة محمومة للإنسان في تخليق معنى، إما من خلال الفنون والآداب وإما من خلال الحروب والمجازر.
في فيلمه الجديد The Banshees of Inisherin يُقدم المخرج البريطاني «مارتن ماكدونا»، مُعالجة بديعة تتأرجح بين الجد والهزل، لكن يقبع في قلبها الملل كرسول رئيسي ومبدئي عن دراما تالية، لا نعرف هل ستقودنا لجمالية رقيقة أم لمجزرة؟
تدور الأحداث في جزيرة أيرلندية تُدعى إينشيرين، خلال عام 1923 حيث تصل للسكان أصداء المدافع والقتال في الحرب الأهلية الأيرلندية التي تدور رُحاها على السواحل القريبة، يُقدم مدير التصوير «بن دافيس» في كادراته الجزيرة مثل فردوس أخضر، لم تُعكر أصداء الحرب القريبة صفوه، جنة واسعة يسكنها عدد قليل من البشر الضجرين، ينتظر السقاة في الحانات والعجائز في الحوانيت أي أخبار تجعل اليوم أقل مللًا، في بيئة راكدة كهذه رغم جمالية المكان، يصير حدث شديد البساطة، مثل خصام العجوز «كولم» المفاجئ لصديقه «بادريك»، حدثًا رئيسيًّا، يتوقف أمامه كل السكان مُتسائلين: لماذا قاطع كولم صديقه؟
الخلود
يجعل «كيركجارد» في عبارته السابقة الفردوس والأمان شيئًا هامشيًّا، لا شيء يحمي وجدان المرء حتى في الجنة من أن يُصيبه الملل، سوف يطلب روح أخرى ليعكس عليها حُضوره وهواجسه، وجود الآخر يولد صراعًا والصرع يولد اختيارًا والاختيار يولد المعنى، يمل المرء لو أدرك العالم وحده، حتى لو كان العالم موضوع إدراكه هو الفردوس ذاته أو العالم في صورته المثالية، لا بد أن يوجد آخرون يُدركوننا ويولِّدون الصراع بصدامهم معنا. هذا الشرط الحزين للجنس البشري هو ما جعل الإنسان طريد الفردوس للأبد، عندما قاد الملل آدم للاغتواء بالمحادثة مع الشيطان والأكل من شجرة الخلد.
لو تتبعنا فيلم «ماكدونا» فسنجد أن الجزيرة الآمنة المُسالمة الخضراء التي تطل على حرب بعيدة يموت فيها الآلاف، تُجسد فردوسًا مثاليًّا يستعيد عبره ماكدونا أزمة الشرط الإنساني، يُعاني بطله العجوز كولم من الشعورين اللذين بدأت من رحمهما دراما الخلق، الملل المُعبر عن غياب المعنى، والرغبة في الخلود.
يُخبر «كولم» صديقه البسيط «بادريك» أن العُمر ينسل من بين يديه، وهو لا يود قضاء ما تبقى له في مُحادثة محدودة مع رجل مُمل حول براز الأحصنة، يود «كولم» أن يقضي ما تبقى له في صُنع مجاز لفكرة الخلود، عبر الكمان خاصته، يُريد أن يصنع لحنًا مثاليًّا يحيا بعده ويُجاوز محدوديته.
يُسمي ماكدونا فيلمه «جنيات إينيشيرين» أو بحد تعبيره «البانشي»، وهي أسطورة فلكلورية أيرلندية عن أرواح مؤنثة مُتشحة بالسواد، يُنبء حضورها عن موت قادم في القرية، يضع ماكدونا الموت ورسوله الشبحي في عنوان قصته، ليُخبرنا عن الملهاة التي يقبع الشرط الإنساني بين قوسيها. في البداية يفر المرء من الفردوس الخالد لفرط الملل باحثًا عن المعنى ولو في حياة محدودة مؤطرة بالموت، ثم في حياة الإنسان الفانية على الأرض يفر المرء من شرط الموت ومحدوديته بحثًا عن فعل يمنحه الخلود! الخلود يسجننا في الملل والفناء يجعلنا نشتهي الأبدية.
هذا التناقض الإنساني جعل الكوميديا السوداء أو الملهاة هي الحامل المثالي لحكاية تراجيدية مثل حكاية جنيات إينيشيرن لأن الظرف الإنساني في تناقضه مزيج من الملهاة والمأساة.
لا يكتفي المُخرج بوضع رمزية للموت في عنوان قصته، بل يجعلها حاضرة في صورة العجوز «ماكورميك»، التي تتجسد في زيها وحضورها بكل مواصفات أرواح البانشي في الكتب القديمة، يتشاءم الجميع من حضورها، لو مرت من طريق يختبئ المارة خوفًا من مُقابلتها.
«ماكورميك» عليمة بكل شيء، تعلم جيدًا بما ستؤدي إليه القطيعة بين كولم وبادريك، وتعلم جيدًا بالموت القادم لجزيرة إينيشيرن، تتحرك العجوز على مدى الحكاية كرمز سينمائي للموت قادم من عوالم «بيرجمان»، ورمز فلسفي للموت قادم من قلب الفلكلور الأيرلندي الذي يحتضن الحكاية.
الحماقة
بشعرية يصف «المُتنبي» الحماقة، رذيلة تحمل في طياتها رحمة، فالأحمق يحميه جهله من مواجهة مُعضلات الوجود، لا يشعر الأحمق بالملل، ولا يدفعه الملل نحو البحث عن المعنى أو الهروب من شرط موته بالخلود.
يُقدم الفيلم البطل «بادريك» باعتباره نقيض العجوز «كولم»، يُمثل العجوز الشرط الإنساني في ذروة قلقه ومخاوفه الوجودية، بينما يُمثل بادريك الحالة الإنسانية في براءتها الغُفل، يُشبه آدم المُستغرق في الفردوس قبل أن يتكشف له عُريه وطينيته وتعقيدات وجوده، يحيا بادريك بين أخته «شوبان» المُثقفة وصديقه كولم العازف المؤرق بموته، يحيا مُحتميًا بجهله في عاصفة من القلق الثقافي والفلسفي يطرحها أقرب الناس إليه، أخته وصديقه، ذات مرة يرى أُخته تقرأ رواية حزينة فيسألها مُتعجبًا لماذا تقرأ حالة تستثير الحُزن؟ تسأله أخته بفضول حقيقي:
هل شعر يومًا بالوحدة؟
يستنكر «بادريك» السؤال لا لصعوبته بقدر غرابته، يمثل طيف مشاعر الحُزن والوحدة والقلق، مُنبهات وجودية لا تطرأ على وجدان بادريك الناعس المُبرأ من الأسئلة، يسأل صديقه بسذاجة بريئة، لماذا يُحاول البحث عن معنى في لحن خالد ما دام ليس مريضًا أو يحتضر؟ نرى الصداقة الوحيدة التي يشعر بادريك بالأنس فيها كند وطرف مُساوٍ هي صداقته للحمارة «جيني»، التي تُجسد مُعادلًا لحيوانيته البريئة، الراغبة في الأكل والمُتعة والنوم بسلام.
يبدو بادريك الوحيد وسط كل أبطال الفيلم الذي يحيا حالة الفردوس مبرأة من هواجس الملل والخلود، لكن ينقلب عالمه رأسًا على عقب عندما يُقاطعه صديقه وينعته بالمُمل، وتُخبره أخته عن عزمها الرحيل عن الجزيرة التي لم تجد فيها صديقًا يفهمها سوى الكُتب،(في قلب حبكة كل شخوصها ذكورية في صراعاتها وحلولها يمنح ماكدونا هبة الحكمة للشخصية المؤنثة التي تحل المعضلة من بدايتها بالهبوط من الفردوس نحو العالم بالإبحار لضفة الجزيرة الأخرى ولو كان كل الصدى القادم منها هو صدى المدافع).
أفلت بادريك بحماقته من كل الفخاخ الفلسفية المدمجة بعناية في تركيبتنا البشرية مثل الحاجة لدفع الملل بالمعنى ومُطاولة الفناء بالخلود، لكنه بقى أسيرًا لاحتياج وحيد، هو أن يكون مُدركًا بعين عناية من الآخرين، خارج علاقة صداقة يُدرك فيها نفسه برفق وعلاقة أخوة ترعاه بلطف، يُطرد بادريك بعنف من فردوسه البسيط، يحيا خارج كل التعريفات الآمنة، يقلق لكونه عاريًا لأول مرة بدون تعريف، مثل حمارته جيني عندما تبيت في العراء خارج حظيرتها، يخشى أن يجعله ذلك أبله القرية، أن يكون ذلك تعريفه الجديد، ببراعة يجر ماكدونا شخصيته الحمقاء من سُبات جهالتها المُسكر نحو سؤال الوجود القلق، يُجرد بادريك بعنف من كل أمانه ويدفعه لدوامة البحث عن معنى مثل الآخرين.
يُخبرنا ماكدونا ببراعة أنه لا نجاة للإنسان من معاركه الوجودية وأسئلته، لأنها جزء من شرطنا الإنساني، نحن بالأساس قادمين من فردوس مُكتمل، طُردنا منه بسبب احتياجاتنا الوجودية، لا حياة للبشر إلا بالصراع لأن فيه يُمكنهم وصال حقيقتهم باختياراتهم.
يؤسس ماكدونا ببراعة الفردوس في جزيرته، ثم يجعل كل شخوصه تطرد نفسها منه نحو هواجسها، يبحث كولم عن إجابته في الفن، وتبحث شوبان عن إجابتها في الكُتب ثم النزول من فردوس إينيشيرين المُمل الرتيب للعالم البعيد الذي يفوح برائحة الحرب لكنه كذلك قد يحمل معنى أعمق من رتابة قريتها، وأخيرًا يهبط بادريك من جنة الحمقى بحثًا عن معنى.
أخبرنا الفلاسفة قديمًا أن الملل إما يصنع الفن والعلم والأدب وإما يصنع المأساة والحروب، لهذا سوف يُمثل بادريك الإجابة الثانية التي اختارها البشر لسؤال الملل. وهي العُنف.
التضحية
يُحرك ماكدونا ببراعة قصته ذات الحبكة البسيطة نحو آفاق أكثر تطرفًا لا عودة منها، عندما يُهدد «كولم» صديقه الذي يُطارده أنه سيقطع إصبع من يده التي يعزف بها كل مرة يقترب فيها منه، حتى يُبين له مدى جديته. ثم يُفاجئنا ماكدونا بعنف عندما نجد إصبعًا مقطوعًا على باب منزل «بادريك»، كان العجوز جادًّا، ولن يكون ذلك إصبعه الأول.
يبدو تهديد «كولم» مُخيفًا ومُدمرًا، يشبه مُصطلح حرق المراكب ليُجبر البحار نفسه على المواصلة دون أن تخذله نفسه فيعود للشواطئ الآمنة، يبدو الأمر برمته طقسًا دينيًّا، يشبه طقوس الجلد والإخصاء التي يقوم بها بعض الرهبان والمُتدينين كدلالة على جديتهم في الانسلاخ من ضعف بشريتهم نحو معنى أسمى.
يُدرك كولم أنه في تقطيعه لأصابعه سوف يُدمر أداة العزف خاصته، سوف يُدمر الأداة نفسها التي ينشد عبرها صنع لحنه ومُلاحقة طيف الخلود، ينتمي هذا التناقض لعوالم التجربة الدينية بالأساس، حيث يُلحق المرء الضرر بجسده، بأداة كدحه الأساسية للإله، وفي هذا الإيذاء بعينه سيجد نفسه، لا يُريد كولم أن يجد الخلود باللحن، لكنه يُريد أن يرى نفسه جديرًا به، بأن يُضحي بأسمى ما يملك وهو أصابع العازف.
لا يبدو كولم رجلًا متدينًا، في مشهد بديع يسخر من أب اعترافه ممثل السلطة الدينية، يتصادم كولم بالجد والهزل مع كل السلطات التي تمنح المعنى في عالمه، لكنه رغم ذلك يخوض عبر الفن تجربة دينية عنيفة ليحاول عبرها الإجابة عن سؤاله الوجودي، يقدم في تجربته القرابين والأضحيات مثل الأديان القديمة، ضحى في البداية بصداقته الأثيرة ببادريك والآن يُضحي بأصابعه، يمثل المأزق الذي وضع فيه كولم نفسه، تجربة كافكاوية مخيفة، لا يملك العجوز دعاءً دينيًّا يعبر عنه بقدر صدق مقولة «كافكا»:
(حتى لو لم يوجد الخلاص، أريد في كل لحظة أن أكون جديرًا به).
يستبدل كولم هاجس كافكا بالخلاص هاجسه في الخلود.
تحذير بالحرق في بقية أجزاء المقال
الموت
في نهاية الفيلم تتحقق نبوءة العجوز أو روح البانشي ويُطل الموت على إينيشيرين ليختطف الفتى «دومينيك»، الذي انزلقت قدماه في النهر.
يٌمثل «دومينيك» الشخصية البسيطة التي تتجلى عليها كل تحولات بادريك من الحماقة والبراءة إلى العدوانية، يلتصق دومينيك ببادريك مثل ظله، لأنه يجده الوحيد في إينيشيرين الأقرب للبراءة، يُعاني دومينيك من أبيه الشرطي السكير، الذي لا يجد مُتعته إلا في الاستمناء وضرب ولده. ومن استعلاء شوبان التي تكبره في السن والعقل ولا تلتفت لحُبه البدائي لها، تنعته الجزيرة بأكملها بالأبله، ليُمارسوا عبر تلك التسمية استعلاءً ما يجعلهم أرفع درجة منه.
يُطمئن «بادريك» نفسه أنه ليس الرجل الأكثر مللًا وبلاهة في الجزيرة بوجود دومينيك، ويُطمئن «دومينيك» نفسه أنه ليس مطرودًا بعد من الفردوس ما دام في الجزيرة رجل نبيل طيب القلب يقبل صحبته مثل بادريك، يتحمس دومينيك لمصادقة بادريك واحتلال موقع النديم منه بعد انسحاب العجوز كولم، بينما يُحاول بادريك طوال الوقت البحث في حضور دومينيك عن شبح صديقه القديم.
يختار ماكدونا «دومينيك» ليكون التحقق الحزين لنبوءة الموت التي أخبرتنا بها السيدة العجوز في بداية الفيلم عندما تنزلق قدماه ليغرق في النهر، يموت دومينيك عندما تصل القصة لمُنعطفها الأخير، عندما يُغادر «بادريك» حالة البراءة، ويُحاول البحث عن معنى لنفسه بعد رحيل أحبائه بالعنف، يمثل موت «دومينيك» رمزية الإنسحاب نحو عالم أكثر طهرانية من جزيرة لم يعد فيها أحد بريئًا بانقلاب بادريك نحو جانبه المظلم. بذلك صار مثل الجميع.
على مدى الفيلم كلما غادر بادريك براءته نحو ذات أكثر عُنفًا تحاول إيجاد معنى لها في استبدال محبتها القديمة بالكراهية، صار أكثر جاذبية في نظر صديقه كولم، يبدو بادريك في تحوله الدرامي من حيوانيته البريئة لحالة إنسانية أكثر تعقيدًا، أنه أخيرًا يصلح كنديم لمُحادثة.
لا يُخفي كولم العجوز إعجابه الجديد بصديقه، عندما أخبره بادريك في حالة سُكر أن اللطف والصداقة يمنحان الخلود لأصحابهما مثلما منحت الموسيقى لموزارت خلوده، كلما اقترب بادريك من ظلامه، وماتت براءته القديمة، صار أكثر شبهًا بصديقه العجوز.
الخلاص
في نهاية الفيلم تموت الحمارة «جيني»، النديم الحيواني لبادريك مُختنقة بأحد أصابع كولم المُكتنزة التي قطعها وألقاها على عتبة صديقه، يُمثل موت دومينيك وجيني، تحطم كل مرايا البراءة التي يرى فيها بادريك صورته القديمة، وكون الحمارة قد ماتت مُختنقة بإصبع صديقه الذي تركه وفاءً بوعده المجنون، يصير ذلك تعميدًا جديدًا لبادريك، بمنحه هدفًا لكراهيته الجديدة. وهو الانتقام من صديقه القديم.
ينتهي الفيلم بذروة عنيفة تلتقي بعدها ذوات أصدقاء قُدامى على شاطئ مهجور، يتأمل كولم يده التي فقدت مُعظم أصابعها ويتأمل معها بادريك الواقف بجواره وقد فقد براءته كاملة، يستمع كلاهما لأصوات الحرب البعيدة، يقول كولم إن الحرب شارفت على الانتهاء، بينما يُخبره بادريك أن الحرب لن تنتهي أبدًا، وأن ذلك جيد.
لم تعد إينيشيرين جزيرة مُملة، بعناية وعبر شخوص في حبكة مُبسطة يؤكد ماكدونا قدرة البشر على تحويل كل فردوس لجحيم شخصي وساحة لحربهم مع أنفسهم بحثًا عن المعنى والخلود، إما بالكراهية أو الفن أو الهروب. آلاف الشباب يموتون على ساحل بعيد في حرب أهلية بحثًا عن المعنى، حرب لفرط عبثيتها يسخر مأمور الشرطة في مشهد من لااكتراثه لكونه لا يعلم هل سيحضر غدًا إعدام أحد ضباط الجيش أو التمرد؟
ولكن بنهاية الفيلم يستحضر كولم وبادريك الحرب ذاتها لساحل الجزيرة الهادئ، لأنه باختلاف القصة من حرب دموية بين جيوش أو حرب طفولية بين صديقين في خصام، وجود البشر في ذاته يصنع الحرب، وطبيعتنا البشرية المُثقلة بأسئلتها تطردنا من كل فردوس، ومهما بدا الفردوس مُرضيًا، يختبئ سؤال المعنى في كل تفاصيل العيش وأبسط جدائل الشعور ولو كان الشعور بالملل.