اغتيال محمد كمال: عودة إلى «منعطفات الدم»
الإمساك باللحظة
كان الرصاص الذي أنهى حياة «محمد كمال» قبل ساعات إعلانًا عن رحيل رجل استطاع أن يكون رمزاً لانتفاض جيلي/ ثوري داخل الجماعة لم يحدث منذ عقود، فمنذ قررت الجماعة أن تتمسك بطبيعتها الإصلاحية المحافظة في عهد المرشد الثاني «حسن الهضيبي» –مرورًا بمنعطفات كثيرة بعضها مثير للجدل– والشخصيات التي تتبنى نهجًا مغايرًا تتعرض للتهميش أو الإقالة أو تختار الاستقالة.
وخلال فترة ما بعد عزل الرئيس الدكتور «محمد مرسي»، شهدت الجماعة أنماطًا من التحول لا سابقة لها في تاريخها، تحولات كانت جذورها ممتدة إلى منتصف العقد الأول من القرن العشرين عندما انطلقت شارة بدء التدافع بين التنظيم الحديدي وضرورات السمع والطاعة من ناحية، وبين قدرة جيل أصغر سنًا وأقرب إلى الروح الثورية من الإطلال على العالم عبر منصات الإعلام الاجتماعي فيما عرف بـ «أزمة المدونين» داخل الجماعة.
كانوا «غير مرئيين» بسبب الطبيعة الهرمية الصارمة وتقاليد «التكتم» الصارمة، وأصبحوا رقمًا جديدًا في معادلة كانت الأرض الصلبة التي تقف عليها تتغير، فيما «الحرس القديم» يسعى بكل ما أوتي من قوة لتأكيد الثوابت التي اتسعت دائرتها مع الزمن لتشمل كل تفاصيل حياة القاعدة التنظيمية تقريبًا.
ورغم أن تجربة الإخوان القصيرة في الحكم لم تكن كافية لإحداث تغييرات في كيان بهذا التصلب، إلا أنها في الحقيقة كانت كافية جدًا لأن تظهر ما كان خافيًا تحت السطح من عوامل تغير لم تصنعها ثورة الخامس والعشرين من يناير، بل كانت مسرحًا لأن تعلن وجودها وتجبر الجميع على مواجهة الأسئلة المؤجلة وتحسم الخيارات التي بدا أن بالإمكان الجمع بينها، ولعبت الطبيعة التنظيمية للجماعة قادرة على قمعها.
جماعة ودولة في منعطف
بسبب الضغوط الشبابية داخل الجماعة والمطالبات بتمكينهم تنظيمًا كاعتراف بفشل الحرس القديم تم إجراء انتخابات داخلية بداية عام 2014، أفرزت ما سمي: «لجنة إدارة الأزمة»، ومهمتها قيادة الداخل، وكان معظمها من الشباب، الذي اضطلع بدور أكثر فعالية. وكما هو متوقع، ارتفعت الدعوة لتحرّك ثوري، وتزامنت معها زيادة العمليات النوعية ضد قوات الشرطة.
لكن القيادات القديمة كانت تفضل الحد من نفوذ المجموعات الشبابية الجديدة، ما نتج عنه اتهامات متبادلة بمحاولة «الانقلاب» على القيادة المنتخبة، وبدأ ظهور فريقين رئيسين: «الحرس القديم» بقيادة إبراهيم منير، أمين التنظيم الدولي، ومحمود حسين، الأمين العام للجماعة، ومحمود عزت، القائم بأعمال المرشد بالجماعة. و«الجناح الشبابي» أو «الجناح الثوري» وهو الفريق الذي يقوده محمد كمال، عضو مكتب الإرشاد، ومحمد منتصر المُتحدث الرسمي للجماعة.
وفي مقابلة تليفزيونية له مع «تليفزيون العربي» صرح عمرو دراج، وزير التخطيط والتعاون الدولي في حكومة اﻹخوان بأن حالة السيولة التي تسيطر على المشهد هي ما يدفع الشباب للعنف. بالنسبة إليه، ولا يمكن منع عنف الشباب، ﻷنه يستخدم حقه الشرعي في الدفاع عن نفسه، لكن في الوقت ذاته لا يمكن أن يتم تحويله إلى عمل مؤسسي ﻷن التنظيم يريد أن «يحافظ على المسار السلمي للثورة». والموقف المتردد في التعامل مع فكرة العنف سمة أساسية لموقف الجماعة تاريخياً، وليس كما يذهب البعض، منذ فض اعتصام رابعة.
وطبقًا لتقرير لـ «مؤسسة التحرير لسياسات الشرق اﻷوسط» بواشنطن عن الوضع اﻷمني في مصر، فإن نسبة العمليات الموجهة ضد أفراد قوات اﻷمن هي 71 % من مجموع العمليات، أكثر من نصفها تم بإطلاق الرصاص، بينما شكلت القنابل والعبوات بدائية الصنع ما يقرب من 20 % منها (يوليو 2013 – ديسمبر 2014). وكانت التطورات على الأرض تفرض إعادة النظر في «مفاهيم نظرية» أبرزها: «حدود السلمية»، حين رفع البعض شعار: «كل ما دون الرصاص فهو سلمي»، في تأويل يكشف حجم الضغط الكبير للوقائع على الأرض ودرجة الغضب الذي تحاول الجماعة استيعابه، بأكثر مما تسعى لاستثماره!
بين تدافع وانقسام وتأسيس ثالث
أظهرت تداعيات ظهور خطاب ثوري «يؤسس» للعنف داخل الجماعة قدر الاختلاف الكبير بين الأجيال والرؤى في آن واحد، ففي ظل الغياب المفاجئ لكثير من قيادات الجماعة –وفي مقدمتهم المرشد العام الدكتور محمد بديع– كان طبيعياً ظهور أشكال للقيادة مؤقتة أو بديلة، وكان متوقعًا أن يرفع البعض راية الدعوة لأن يترك جيل مكانه لجيل تالٍ، وأن تتعالى أصوات تطالب بحماسية قيادات الجماعة، مؤكدين أن المحنة لا يمكن اختصارها في أن الجماعة تتعرض لـ «عدوان» من خارجها (من السلطة).
شهدت الفترة التي أعقبت فض اعتصام رابعة شجارات تنظيمية علنية بين جبهات ومجموعات وقيادات في الداخل وأخرى في الخارج. وكان لكلٍ منطقه وحساباته التي لم تخل من خصوصيات يمكن فهمها، فمن يقود المظاهرات على الأرض –مثلاً– يواجه تحديات تختلف تمام الاختلاف عمن يقوم بدور تنظيمي من عاصمة انتقل إليها، وكان الشباب رقمًا رئيسًا في معادلات التحرك على الأرض فكان إيقاعه الفكري (والنفسي) يفرض تصورات ويميل إلى اختيارات يصعب جداً «تجسير الفجوة» بينها وبين اختيارات جيل آخر تكون وعيه مع نهاية الحرب العالمية تقريباً (محمود عزت نموذجًا).
كان محمد كمال صوتًا لشريحة مؤثرة من الجيل الجديد ترى الخيارات الرئيسة للجماعة تحتاج إلى إعادة نظر، وصولاً إلى صك مصطلح: «التأسيس الثالث»، والبعض ربطه بالمواجهة المسلحة. وقد تراكمت الشواهد العلنية على الواقع الجديد داخل الجماعة (حوار أمين عام جماعة الإخوان المسلمين الدكتور «محمود حسين» مع قناة الجزيرة –حرب البيانات– قرارات الدكتور «محمد عبد الرحمن»، رئيس لجنة الإدارة العليا التابع لفريق القيادة التاريخية –عزل محمد منتصر– ظهور ثنائية الداخل والخارج).
وفي مايو/أيار 2015 عقد بتركيا اجتماعٍ ضم عددًا من قيادات الجماعة؛ لبحث سبل الخروج من أزمة الجماعة، عقب بيان «السلمية المطلقة» الذي نشره عضو مكتب إرشاد الجماعة الدكتور محمود غزلان. وحاول المجتمعون الوصول إلى حل وسط. وأجج اﻷزمة، قرارات صادرة من جبهة محمود عزت «القيادة التاريخية»، حيث فاجأ الدكتور محمد عبد الرحمن، رئيس لجنة الإدارة العليا التابع لفريق القيادة التاريخية والمُشَكّلة من 11 عضوًا يديرون من داخل مصر، بقرارات أثارت الجدل أهمها إعفاء محمد منتصر، المتحدث باسم الجماعة من منصبه، وفصل مسئولي وأعضاء ما يعرف بـ «لجان الطلاب والإعلامية والحراك الثوري»،بدعوى خروجهم عن قيادة الجماعة وعدم التزامهم بتعليمات القيادة العليا، بعد تحقيقات من جانب لجنة شكلها عزت نفسه.
هل للرصاص سياق؟
بمقتل الدكتور محمد كمال أصبح السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل للرصاص سياق؟
فالواقعة حتى الآن متأرجحة بين روايتين: أنه قتل في تبادل لإطلاق النار، أو أنه قبض عليه حيًا وتم اغتياله خارج نطاق القانون. وهنا السؤال أوسع نطاقًا من حسابات التدافع أو الصراع داخل الجماعة، وبخاصة أن البعض تسرع في الربط –علنًا– بين مقتله وعمليات عنف بعينها.
وسياق الرصاص –داخل الجماعة أيضًا– موضوع للتساؤل، فالبعض قرأ ما حدث آليًا بوصفه إضافة إلى رصيد جبهة على حساب منافستها، وهو ما نرجح أنه تبسيط لواقع معقد، فالجماعة تبدو منذ أشهر كما لو كانت «خارج المشهد» بكل معنى الكلمة، وتمارس الحد الأدنى من الدور داخليًا وخارجيًا، فلا شيء يصدر عنها يشير إلى أفق للتحرك، أو مسار للمراجعة أو مشروع لرأب الصدع الداخلي أو بناء الجسور مع مكونات المشهد السياسي الأخرى.
فمن ألقى حجرًا في الماء الراكد بهذا الخروج الدموي للقيادي الإخواني محمد كمال بهذه الطريقة وفي هذا التوقيت؟