فن الشارع بين الدولة والمجتمع
في القاهرة الصاخبة والمزدحمة ذات الأبنية التي اسودت من عوادم السيارات لا تكاد تبصر عيناك إلا اللون الرمادي كلون رسمي للمزاج القاهري. في هذه البيئة المقبضة أعلن طلاب كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان الثورة على اللون الرمادي، وقرروا أن يلونوا الشوارع ويكسروا شيئًا من قتامتها، فكانت البداية في أغسطس 2014 بحملة «هنلوِّنها».
«هنلونها»: حملة لنشر البهجة
شهد ميدان «عبد المنعم رياض» أولى تجارب الحملة، حيث قاموا بتلوين أعمدة كوبري السادس من أكتوبر وسلالم النزلة بلوحة (3D) هي الأولى في الشارع المصري. استخرج الشباب تصريحًا خاصًا للتلوين من رئيس حي غرب القاهرة اللواء «ياسين عبد الباري»، وعلى الرغم من ذلك قام الحي بطلاء الأعمدة بعدها بأيام قليلة وباللون الرمادي مرة أخرى!
بعد ذلك نزل شباب الحملة مرة أخرى في منطقة تل العقارب بالسيدة زينب ومستشفيات الأطفال وفي شارع الجزيرة بالزمالك. تابع الكثيرون حملة الشباب عبر صفحتهم على «الفيس بوك» حتى إن بعض المعجبين قاموا بمحاكاة الفكرة في مناطقهم ومدنهم. بعدها ظهرت الحملة في الإعلام وعُرفت ثم جاء الأهم.
اتصال من مندوب الرئيس يدعوهم فيه لحضور لقاء «السيسي» بأصحاب المبادرات الشبابية، حضر اللقاء منسقة الحملة «كريستين ظريف»، ووعد السيسي في اللقاء بتلبية كل ما يحتاجه الشباب من دعم لأن «دي بلدكم مفيش حد هيغيرها غيركم». طلب منهم في اللقاء تلوين كوبري الجلاء وستتكفل وزارة الشباب والرياضة بتمويل المشروع وتوفير كل ما يحتاجه الشباب لإتمام العمل على أن تكون الحملة تابعة للوازرة.
لم تمول الوزارة مشروع تلوين الكوبري والكثير من مجهود الشباب في الشارع – التلوين والجداريات – تم مسحها! أو تأثرت بعوادم السيارات والأتربة ولم يحافظ عليها. أجّلت الوزارة المشروع مرة تلو المرة إلى أن مات، وأحبِطَ أعضاء الحملة كثيرًا بسبب وعود الوزراة الزائفة.
لأننا نرسم للناس علينا أخذ أرآئهم أولًا
بحسب مؤسِّسَة المبادرة الفنية «The Mozza» فإنه لا بد للفنان أن يعرف المنطقة التي سيعمل فيها جيدًا، لأن صدق الفن وتعبيره عن أصحابه والمتفاعلين معه هو الضامن للحفاظ – أو حتى الخلود – على الجدارية التي يرسمها الفنان أو أيًا كان فنه.
حي الخليفة في القاهرة يوصف بأنه «بقيع مصر» دفن فيه من الأشراف والأولياء الكثير، السيدة «أم كلثوم» بنت النبي صلى الله عليه وسلم، والسيدة «عائشة» بنت جعفر الصادق رحمهما الله تعالى. من القصص التي يتناقلها الناس كثيرا في حي الخليفة بفخر أن سفينة «نوح» عليه السلام استوت على جبل «يشكر» في الحي. قامت The Mozza برسم جدارية لسفينة نوح عليه السلام كتوثيق وتعريف بهذه القصة الشعبية المشهورة في حي الخليفة حتى أن الأهالي خمنوا شكل الجدارية قبل اكتمالها.
كذلك فعلت أيضا في قرية «تونس»، قامت بأخذ رأي الأهالي قبل الرسم، فمن طلب رسم طيور أو حيوانات رسم له على جدار منزله ما يريد. أغلب أهل القرية طلبوا أن يرسم عند منازلهم بعد أن كانوا مترددين لقبول فكرة أن يأتى أحد – غريب – ويرسم لنا على حوائط منازلنا!
ماذا عن المقابل؟
في المقابل هناك أكثر من مثال على فحش وبشاعة كل ما ينتجه النظام والدولة فيما يتعلق بالفنون البصرية، تمثال رأس نفريتيتي البشع المشهور وآخر للأديب العقاد هو أشبه ما يكون بصورة لأحد المخبرين لا العقاد نهائيًا أو كما علق بعض رواد المواقع الاجتماعية بأنه أشبه بشخصية «أحمد التباع»، ومجسم آخر لجسم رياضي أقحم فيه اللون الأبيض بشكل ساذج ومثير للضحك، وأخيرًا ترميم معبد الكرنك بالأسمنت الأسود.
الشعر ليس بمعزل عن هذه المفارقة
مفارقة جمالية الفن الشعبي وقبح الفن الرسمي أو الفن الذي يطلبه الفنان ذاته والمجتمع، والفن الذي تطلبه الحكومة موجود أيضا في الشعر وبقوة. تبدو هذه المفارقة جلية عند المقارنة بين «تميم البرغوثي» مثلا بوصفه شاعرًا ليس على مزاج الحكومة وبين شعر الرائد «حبلص» الحاصل على شهادة الطالب المثالي.
كتب الرائد حبلص “قصيدة” للدفاع عن الشرطة والتأكيد على أنهم أسياد البلد موجهًا كلامه لـ «رامي عصام» واحد من أشهر من غنّى للثورة.
لماذا كل هذا القبح؟
لا توجد في مصر جهة مختصة تنظم العملية الإبداعية وتعمل على التنسيق الجمالي للمدينة فالمركز «القومي للتنسيق الحضاري» غير مهتم إلا بتوثيق المباني الأثرية بحسب المعماري والمصمم والباحث العمراني أحمد زعزع. لكن ماذا عن نقابة التشكيليين؟ للأسف فإنه حتى نقابة التشكيليين ليس لها أي دور لا استشاري ولا تنفيذي في اختيار القطع الفنية اللائقة لوضعها في الميادين. الجهة الوحيدة التي تأسست للإشراف على جمالية المدن كان بشكل محلي في محافظة الأسكندرية (مركز الأسكندرية للتجميل) تأسس زمن المحافظ «عبد السلام المحجوب»
وقد خرج هذا المركز من رحم نقابة التشكيليين وكان على اتصال بالمحافظة لكن هذا لم يدُم كثيرا. فبحسب د/أحمد فؤاد نقيب التشكيليين في الأسكندرية بعد فترة وجيزة من تأسيس المركز انفصل عن النقابة وانضم لوزارة الشؤون الاجتماعية وأصبح تجاريًا بامتياز ينفذ المشاريع الفنية بطلب من شركات أغلبها عقارية، كثيرا ما كان الدافع للشركات هو المصالحة مع المحافظة في حال بنائهم عقارًا مخالفًا وحتى لا تهد الطوابق المخالفة.
عن المجتمع والناس
يرى الباحث في حرية الإبداع «حسام فازولا» أن تسلسل «ماسلو الهرمي» للاحتياجات البشرية بالغ الأهمية كنموذج تفسيري للإجابة عن سؤال كيف وصل المجتمع لكل هذا القبح وتلك البشاعة وانعدام الشعور بالجمال والاحتفاء به. هرم ماسلو يوضح أن الأمن والسلامة الجسدية يأتيان في المرتبة الثانية بعد الاحتياجات الفسيولوجية وفي المرتبة الاخيرة الحاجة للابتكار، أو ما يطلق عليه بعض العلماء «الحاجة للجمال». عادة لا يرى الانسان أن الجمال له أهمية أو معنًى من الأساس إذا لم يشبع حاجاته الأدنى، وهذه هي أزمة مجتمعنا!
يكمل حسام كلامه ويقول أن الإبداع ليس بالضرورة أن يكون ابتكارًا بل يمكن أن يكون فعلا بسيطا للتعبير عن النفس بعفوية وصدق وهذا ما يفسر مثلا أدب السجون، ولعله يفسر بشكل عام كثيرًا من الأعمال الابداعية في مصر حاليًا.
الفن بالنسبة للنظام أداة يستخدمها لأنه ليس عنده أدوات ستعمل سريعًا إلا الممثلين، كما صرح بذلك رئيس الجمهورية في لقائه بهم. الفن الذي تنتجه الدولة سخيف وغير صادق لكنه ضروري، إذا كانت كل الوجوه شاحبة والرمادي يملىء الجدران فالبتأكيد النظام مستقر والوضع آمن.