«فن التخلي»: البياض وعوالم النص السوداء
في البدء كان البياض، ومن رحمه ولد آدم، ومن بعد آدم حكاية الخلق، التي تناسلت عنها حكايات وحكايات، ثم مع الحكايات، التي سودت كتبًا ومجلدات ملأت أدراج المكتبات، بدأ البياض في التقلص والتراجع إلى الوراء. كيف لا والزمن زمن ثرثرة وكلمات تثقل الجو كدخان خانق كثيف. ولكن، يحدث أحيانًا ومن بين الدخان، أن تتسرب نسمات خفيفة، تلقي للقارئ بكلمة أو كلمتين، وتتيح له أن يرفع رأسه ما فوق الدخان ليرنو إلى السماء الصافية.
مجموعة الكاتب السعودي «عبد الله ناصر» القصصية المعنونة بـ«فن التخلي» نموذج لهذا النوع من الكتابة، الذي يحتفظ بمساحة خصبة من البياض في داخله كافيًا قارئه بذلك شر تتبع أحداث لا فائدة منها. ذاك أن كل نص من نصوص المجموعة لا يراهن على أي شيء سوى اللحظة، هذه اللحظة الكثيفة العميقة التي تلخص الوجود كله في كلمتين أو ثلاث، هذه اللحظة التي قد لا تتذكر منها شيئًا بعد إنهاء القراءة، ولكنك لن تنسى أبدًا دهشتك أمامها.
هكذا، وأنت تقرأ المجموعة، تشعر برأسك يرتفع مرة ومرة متأملًا السقف أو السماء أو القضبان أو أيًا كان ما يحيط بك، لتتأمل في معنى قصة قد لا تتجاوز جملة، وقد لا تمتد لتملأ أكثر من صفحة يتيمة تتشوف لقارئ يعانقها، ويبعث في بياضها حرارة السواد.
يبدأ البياض الرائق إذن، في التشكل من عنوان النص، هذا العنوان الذي يسأل قارئه أن يتخلى عن كل شيء، عن أحكامه وأحلامه وشكوكه، ليدخل الرحم عاريًا كما خرج منه أول مرة. هكذا، وفي سيرورة التعري والانصهار في رحم النص، يتشكل مخلوق جديد، مخلوق اطلع على أشد الاستعارات غرابة وإدهاشًا أثناء قراءته للنص، من قبيل استعارة/ قصة: «تلك الحدبة على ظهره هي كل ما تبقى من الجبل».
لا أعرف لم ذكرتني هذه القصة بقصة «موسى» حين أراد أن يرى الله، فقال له انظر إلى الجبل، وبمجرد أن يتبدى الله للجبل يخر الجبل ويصبح دكًا؟ في قصة عبد الله ناصر يغيب الإله، وبذلك يستطيع الجبل أن يحتفظ على الأقل بحدبته، ولكن هل غياب الإله سبب في تكون هذه الأحمال التي أثقلت كاهل اللابطل في هذه القصة حتى أصبحت جزءًا منه؟ أم أن الإنسان نفسه قد غاب، ولم يعد في حاجة للسعي لرؤية الإله مما أدى إلى تكون هذه الحدبة المعلقة بين الخراب المؤمن بوجود الآلهة والأبراج التي تأكدت -عندما ناطحت السماء – من غيابه؟
رغم اختلاف اللحظات وتباين امتداداتها، إلا أنها تشترك جميعًا في لغتها الشعرية وصورها الاستعارية، التي لا تترك للقارئ من تفسير، إلا أنه أمام نص مجنون، ضرب بعرض الحائط كل تصنيفات المؤسسة ومناهجها المنطقية، ليطرد خارج حدوده كل تمظهرات العقل، باستثناء السؤال والشك.
لا تكتفي المجموعة بالاستعارة، فسرعان ما يشطح بها الخيال في أحد نصوصها إلى تفجير كل هذه العلاقات المجازية والدفع بها إلى منتهاها، خاصة في نص «خاطر سوريالي»، الذي يصف بطريقة فنية عجائبية حلم امرأة في إعادة تشكيل جسدها، على النحو الآتي:
هذه الحاجة لإعادة تشكيل الجسد هاجس حاضر في المجموعة في أكثر من مكان، هاجس دفع الكثير من الشخصيات إلى التعبير عن رغبتها في التماهي مع الأشياء وإلغاء إنسانيتها، مع هيمنة ملحوظة لصوت معاكس تمامًا، يروم أنسنة الأشياء، وبث روح متحركة فيها، على غرار «الستارة المغمضة العينين»، والقط «الذي يحاول أن يتذكر متى تحول إلى مجاز». ليكشف النص عن ثمة عالم مقلوب، انقلبت فيه جميع الأدوار رأسًا على عقب، ليغدو الإنسان فيه شيئًا، والشيء إنسانًا، وبين الحالتين مجنون يحاول أن يصلح الأوضاع، بمحاولة إعطاء دروس رياضية للجمادات، كما هو الحال في نص «هوايات مجنون».
إلا أن النص كان أرأف بحال المجنون من الحجارة، إذ ما فتئ يبث فيه أملًا، ولو كان كاذبًا (ولكن ما الحقيقي على أية حال في عيون المجنون؟!) في نهاية القصة، التي جاءت على النحو التالي:
ليتضح في النهاية، أن سيرورة نسج هذا النص، كانت سيرورة واقعية سريالية بامتياز، واقعية لوعيها بتشظي العالم واغتراب الإنسان فيه، وسوريالية لأنها حاولت أن تلحم هذه الشظايا بلغة استعارية شفافة، تحتمل كافة الممكنات، وتؤكد ألا غاية لنصوص المجموعة سوى اطلاع متلقيها على لمحة من الصراع السرمدي بين البياض -أو «آدم الألوان»- والسواد، في محاولة لخلق قارئ أذكى من اللغة والنص والعالم.