غياب البديل.. كذبة الثورة المضادة
من المقولات التي تتردد بقوة وأعتبرها أسطورة أو مغالطة من المغالطات التي تصب في صالح الثورة المضادة مقولة أنه لا بديل عن النظام القائم، وأن سقوط هذا النظام لا يعني إلا الفوضى المطلقة. ويرتبط بهذا ترديد عبارات مثل أن الإخوان أخذوا فرصتهم وفشلوا، أو أنه لا يوجد أحزاب مدنية أخرى لأنها انقلبت علي الديمقراطية واستقوت بالجيش ضد خصمها السياسي.
هذا موضوع مهم للغاية وقد تأخرت في الكتابة فيه، وفيما يلي بعض الأمور التي تكشف هذه الأسطورة:
أولا: ما معني تغيير النظام؟
المشكلة الأساسية عند من يروج لهذه الأسطورة أو يصدقها هو أنه لم يقرأ الكتاب كله واكتفى بمقدمته أو بتصفحه سريعا. والكتاب الذي أقصده هو كتاب تغيير نظم الحكم الذي صار موضوعه علما مستقلا اسمه تحول أو تغيير نظم الحكم «regime transition or transitology». وهو أحد فروع السياسة المقارنة أو نظم الحكم التي هي أحد فروع العلوم السياسية المعاصرة.
عملية تغيير نظم الحكم عبر التاريخ عملية معقدة لكن ما نهتم به الآن هو التغيير الذي شهده القرن العشرين تحديدا، والتي لها ثلاث مراحل رئيسية، يدرسها طلاب علم تحول نظم الحكم في كل مكان:
1- قبل التغيير: أسباب التغيير، وكيفية مقاومة نظم حكم الفرد أوالقلة، والعوامل المؤثرة في هذا الأمر (بالسلب أو الإيجاب).
2- المراحل الانتقالية: وهي تبدأ عندما يسقط النظام القديم وتنتهي بإقامة مؤسسات ديمقراطية منتخبة أو حلول دكتاتور جديد. وهذه المرحلة معقدة هي الأخري، وقد تمتد لسنوات. وتتضمن عدة أمور، أهمها:
أ- تحديد غاية وشكل النظام السياسي البديل والاتفاق على الملامح العامة له ومرجعيته العليا..
ب – مؤسسات مرحلة الانتقال ومسار إقامة النظام البديل (من يدير المرحلة الانتقالية؟ وكيف؟ أي: سؤال “ما البديل؟” كما سنرى)..
ج – عملية تأسيس النظام البديل من خلال حسم الكثير من الاختيارات (شكل وملامح وضمانات كل من النظام السياسي، البرلمان، النظام الانتخابي، الانتخابات، المراجعة القضائية، نظام اللجان داخل البرلمان، شكل الأطر المؤسسية والقانونية، النظام الحزبي، وغير ذلك)..
د – مواجهة التحديات والمشكلات المصاحبة لمرحلة الانتقال (ولاسيما التحديات الخارجية والاقتصادية وتحدي المؤسسة العسكرية والمطالب المعيشية للناس، وأي توترات عرقية وغيرها)..
3- بعد الانتقال والوصول لحكومة دائمة: هنا تبدأ عملية تعزيز وتقوية النظام الديمقراطي الوليد، وهذه مرحلة تمتد لسنوات حيث تهتم بتوسيع نطاق مشاركة الجماهير بطرق مختلفة، وتعميق نوعية هذه المشاركة برفع وعي الجماهير، وامتداد الديمقراطية إلى مؤسسات أخرى غير المؤسسات الرسمية للدولة حيث يتم حوكمة ودمقرطة مؤسسات أخرى كالجيش والأمن وحسم العلاقات المدنية العسكرية وتعزيز دور المجتمع المدني والأحزاب ورفع وعي الجماهير وتوزيع الثروة بطريقة أكثر عدلا، وغير ذلك.
ومن المهم أن نعرف أن اجتياز المرحلة الانتقالية عملية صعبة وتحتاج إلى نضال ممتد ونفس طويل. والأصل أن تشهد هذه المرحلة انتكاسات وعثرات. وتكفي الإشارة هنا إلي أن ثلث الحالات تقريبا – التي أسقطت الأنظمة القديمة – نجحت في اجتياز المراحل الانتقالية بنجاح وانتقلت للديمقراطية. وبعض الدول تعثرت ثم نجحت (البرازيل تخلصت من الحكم العسكري خلال مرحلة انتقالية طويلة نحو 12، والحالة المكسيكية شهدت انتقالا ممتدا أيضا).
في حالة أمريكا الجنوبية تحديدا كانت العقبة الأساسية هي الحكومات العسكرية والانتهاكات الدموية لحقوق الإنسان ودعم الولايات المتحدة المباشر وغير المباشر للانقلابات العسكرية في إطار مواجهتها للشيوعية والحركات اليسارية بالمنطقة تحت اسم «محاربة الإرهاب». هذا بالطبع إلى جانب العثرات الناتجة عن الفساد وقلة الموارد ومطالب العدالة الاجتماعية. وفي حالات أخرى كانت العقبات تأتي ليس من العسكريين وإنما من الأوضاع العرقية والقبلية والميليشيات المسلحة وغياب الدولة وتدخل القوى الإقليمية والدولية والصراع علي الموارد، كما حدث في كثير من الدول الأفريقية وبعض الدول الآسيوية.
ثانيا: سؤال ما البديل؟
هذا السؤال جزء من المرحلة الثانية كما ذكرنا، وهو يتطلب الاهتمام بأمرين أساسيين:
1- حسم شكل النظام السياسي البديل: في كل الحالات الناجحة كان الحسم لصالح نظام ديمقراطي يتسم بعدة خصائص أساسية، ملخصها: وضع أطر دستورية وقانونية وضمانات حقيقية ترسي حكم القانون والمساواة أمامه وتضمن كافة الحريات السياسية الأساسية — اختيار الحكام عن طريق انتخابات تنافسية حقيقية (بكافة ضماناتها) وضمانات للتدوال السلمي على السلطة – تمكين المنتصرين من هذه الانتخابات من الحكم دون أي نفوذ من مؤسسات غير منتخبة كالجيش والأمن والقضاء والهيئات الدينية – وضع ضمانات لإستقلال القضاء وتفعيل هيئات الرقابة القانونية والقضائية والمحاسبية. وذلك كله على اعتبار أن هذا النظام هو الخطوة الأولي لمعالجة كافة القضايا الأخري وخاصة قضايا العدالة الانتقالية والدم والعدالة الاجتماعية وملفات السياسة الخارجية والعلاقات المدنية العسكرية وتعزيز وعي الجماهير وغيرها.
2- إقامة المؤسسات الانتقالية (البديل) أثناء المرحلة الانتقالية: وذلك حتى تقوم هذه المؤسسات بتنفيذ ما اتفق عليه في الأمر الأول. ويعتمد هذا على طريقة تغيير النظام الحالي، بجانب عوامل أخرى بالطبع منها شكل النظام القديم وطبيعة انتهاكاته، وطبيعة التحديات القائمة الداخلية والخارجية.
وأهم أشكال المؤسسات الانتقالية:
1- حكومة ثورية مؤقتة (ٍrevolutionary provisional government): عادة ما تأتي في أعقاب الثورات أو الحروب الأهلية أو الانقلابات العسكرية، وذلك في المجتمعات التي تم فيها تجريف السياسة ومؤسسات المجتمع خلال الحكم الشمولي. وعادة ما ينتهي الأمر بحكم تسلطي جديد (إيران، كوبا، زائير، هاييتي، نيكاراجوا، والجزائر بعد ثورة التحرير عام 1962) مع إدعاء هذه الأنظمة أنها ديمقراطية وقيامها بتعبئة الناس في الشارع والسيطرة على الإعلام وتزوير الانتخابات. وهناك استثناءات حيث انتهي الأمر إلي الديمقراطية في الفلبين عندما وجدت معارضة ديمقراطية، وكذا البرتغال التي مرت بانقلاب ثم ثورة ثم ديمقراطية.
2- حكومة تصريف أعمال: ويشكلها فصيل من النخبة الحاكمة (مدنية أو عسكرية) (incumbent caretaker government) وذلك في حالة وصول جنرال جديد يؤمن بالحكم المدني (أو حاكم إصلاحي). والبديل يكون عبر هذا الجنرال أو الحاكم الذي عادة يشكل حكومة تصريف أعمال تحت قيادته المباشرة أو غير المباشرة وذلك كما حدث في الأرجنتين والبرازيل وتشيلي والأورجواي وجنوب كوريا وإسبانيا وغيرها. حالة جنوب أفريقيا شهدت هذا النوع من الترتيبات المؤقتة ثم النوع التالي أيضا.
3- حكومة مؤقتة من الحكم القديم والمعارضة الديمقراطية (power-sharing interim government): كما حدث في بولندا، وفي حالات أخري بأشكال مختلفة في شرق أوروبا، وفي جنوب افريقيا كما ذكرنا في مرحلة لاحقة. ولاتظهر هذه الحكومات عادة في أعقاب الثورات، وإنما في الحالات التي تضعف فيها الحكومات القديمة مع وجود معارضة ديمقراطية قوية، وعندما تقبل الأطراف التفاوض حول الانتقال.
4- حكومة دولية مؤقتة (international interim government): وذلك بعد الحروب الأهلية التي تكون فيه الحكومة ضعيفة للغاية، وهناك أطراف خارجية تساند الأطراف المتحاربة، وتكون هناك حاجة لنظام ديمقراطي مع وجود أطراف أكثر تشددا. والمثال الناجح هنا ناميبيا التي تحولت إلى الديمقراطية، ومن الحالات الفاشلة كمبوديا وأفغانستان.
وتجب الإشارة هنا إلى أنه معظم الحالات كانت نوايا بعض الأطراف سيئة، وكانت هناك عقبات من الخارج، إلا أن نجاح الانتقال أو فشله لا يتوقف علي عامل واحد.. لكن من الملاحظ أنه متى ظهرت قيادات وطنية جديدة وواعية ومتى اتفق الداخل على التغيير وكان معه ظهير شعبي قوي (وليس كل الشعب بطبيعة الحال) فلن يستطيع الخارج عرقلته.
ثالثا: الحالة المصرية
كانت المشكلة الأساسية عندنا هي النخب السياسية التي تصدرت المشهد بعد 11 فبراير 2011 والتي لم تفهم أبعاد هذه العملية وراح بعضها يروج أن الحالة المصرية فريدة.. وكثيرا ما كنا نسمع من السياسيين أن تحذيراتنا وتحليلاتنا أمور نظرية لا تصلح لمصر… كما لم تحسم هذه النخب أمرها بشكل نهائي حول النظام السياسي البديل بقيمه ومؤسساته وضماناته.. وراح الجميع ينظر تحت قدميه ويعلي من أجندته الحزبية الضيقة.. هذا فضلا عن أن المجلس العسكري لم يحسم موقفه لصالح الديمقراطية بالطبع..
ولهذا عدنا إلى المرحلة الأولى من المراحل الثلاث السابق الإشارة لها بعد أن انهار المسار الديمقراطي في يونيو ويوليو 2013. وصرنا أمام نظام قمعي يقود ثورة مضادة ضد ثورة يناير وضد التجربة الديمقراطية الوليدة، ويقسم المجتمع ويزرع العنف في كل مكان، ويعمل على تحويل معركة ثورة يناير من النضال من أجل الكرامة والحرية والعدالة إلى معركة ضد الإرهاب وضد كل من يعارض النظام. وهذا المسار بالمناسبة يستخدم منهجا ورد في “كتالوج معروف” ومستخدم من قبل ويُدّرس في الأكاديميات الغربية..
إننا لسنا أمام حرب على الإرهاب والمعركة الحقيقية ليست بين الجيش والإخوان كما يروج الإعلام ويعتقد البعض. المعركة الحقيقية هي بين ثورة يناير ومطالبها وبين الثورة المضادة التي استغلت تفرق القوى السياسية وأخطاء الإخوان وغضب الجماهير من هذه الأخطاء وأخطاء بقية الأحزاب وقامت بتدبير ثورة مضادة مكتملة الأركان، مستخدمة بعض السياسيين والقضاة والأكاديميين والكثير من الإعلاميين والمال الخليجي وأيضا مستغلة طيبة الشعب المصري وصبره وميله إلى الاستقرار والأمن.
ولأننا في المرحلة الأولى فالسؤال الذي يجب أن يُطرح أولا هو كيف يمكن تغيير هذا النظام وكيف يمكن مواجهة سياسته الإقصائية والدموية وسياساته الإعلامية وتحالفاته الإقليمية والدولية؟
في حالات مشابهة ظهرت عدة طرق: انقلاب على الانقلاب، ومجئ عسكري جديد يكون على قناعة بالحكم المدني، أو استمرار الضغوط السلمية حتى يسلم الجيش بصعوبة الحكم فيتنازل ويمهد الطريق لحكم مدني، أو ثورة أخرى أو عصيان مسلح يقلب الأوضاع من جديد.
في كل هذه الأوضاع لا تكون الديمقراطية حتمية، فقد يظهر دكتاتور جديد، أو تنزلق البلاد إلى حرب أهلية، أو يتم إقامة نظام ديمقراطي. وفي هذ الحالة الأخيرة ستكون هذه الديمقراطية ضعيفة وستحتاج إلى الكثير من الجهد والوقت لتقويتها وتعزيزها..
إن الوضع الحالي سيؤدي بنا – لا قدر الله – إلى كوارث، فالزج بالجيش في السياسة وفي قمع الناس من جهة وفي حرب عصابات في سيناء من جهة أخرى سيكون نهايته أسوأ من أوضاع سوريا والعرق. ولهذا أرى أن مصر تحتاج من كل الأطراف، ولا سيما الشباب منهم، الذين يدافعون عن ثورة يناير ومطالبها ويرون أننا في الطريق الخطأ التركيز على ثلاث مهام استراتيجية:
1- التركيز على هدف واحد استراتيجي من خلال اتفاق كل الأطراف على طبيعة النظام السياسي المنشود الوارد أعلاه. مع ترتيب الأولويات وتأجيل كافة الأجندات الأخري (وأهمها الأجندات الايديولوجية وملفات السياسة الخارجية) إلى ما بعد قيام النظام الجديد، حيث يكون للحكومة شرعية شعبية، ومؤسسات دولة، وضمانات قوية (استقلال القضاء ومؤسسات الرقابة وخروج الجيش من السياسة)، وحيث يسمح المجال العام بحرية النقاش وطرح الأفكار المدروسة جيدا.
2- الاتفاق على كل الطرق السلمية الممكنة للضغط على النظام للرحيل أو التنازل، واستغلال أفعال الحركات المتشددة والعنيفة لمزيد من الضغط السلمي، والحصول على الدعم الحقوقي والدولي وكشف ممارسات النظام القمعية في كل المحافل الدولية وبوسائل إعلامية احترافية.
3- الاستعداد لتشكيل البديل (المؤسسات الانتقالية لإدارة المرحلة الانتقالية) والتي ستعتمد كما ذكرنا على طريقة تغيير النظام.
والله آعلم.